الصحافة البريطانية تخوض معركة تاريخية دفاعا عن حريتها أمام هجمة شنها الساسة ومجموعات يسارية ومشاهير من فنانين وموديلات، في شكل لائحة ملكية لها سلطة القانون Royal Chart باسم تنظيم الصحافة، بينما تهدف لإخضاع الصحافة للرقابة. الصحافة البريطانية لثلاثة قرون نموذج مثالي للسلطة الرابعة. حتى القرن ال18 استخدم الكتاب تعبير “السلطة الرابعة” إشارة لمحامين مستقلين عن السلطات الثلاث التقليدية Tri-Estates للمملكة: الكليركيون (رجال الدين)، والنبلاء، والعموم (عامة الشعب الذين سمي المجلس المنتخب باسمهم، بينما مجلس اللوردات من نبلاء بالوراثة ورجال الدين وهو أقدم من مجلس العموم بأربعة قرون). “السلطة الرابعة”، كإشارة للصحافة المستقلة، ذكرت لأول مرة في مناقشة في مجلس العموم في 1787 واستخدم التعبير النائب الفيلسوف الآيرلندي إدمون بيرك (1729- 1797)، وكان دعم الثورة الأميركية وعارض الثورة الفرنسية. وكانت المناقشة عن تغطية الصحافة للبرلمان. عندما استخدمه بيرك وضعه في إطار تعريفه للسلطات الثلاث البرلمانية: اللوردات الروحانيون (رجال الدين) واللوردات التمبرولايون (العلمانيون الدنيويون) ومجلس العموم. المجموعة الصحافية البرلمانية والتي لها حق دستوري بقرار برلماني منذ 1802 بالوجود في البرلمان (علينا نفس الواجبات والالتزامات كأعضاء المجلس) خاضت معارك ولعب الاستغماية مع سلطات البرلمان التي كانت تطارد الصحافيين بالأسلحة منذ منتصف القرن السابع عشر لمنعهم من نشر أسرار ما يدور في البرلمان للشعب، حتى اكتسب الصحافيون الحق بفتوى من رئيس البرلمان تشارلز آبوت، بارون كوليشتر (1757 – 1829). في مناقشة 1787 كان معظم النواب والساسة يريدون منع الصحافيين من الوجود في البرلمان (اسم مجلس العموم يعني حق العامة في الدخول ومقابلة ممثليهم ونوابهم ومساءلتهم. وكان مبنى مجلس العموم مفتوحا للجميع حتى اضطر إرهاب السنوات الأخيرة المسؤولين لفرض الحراسة وأصبح دخولنا ببطاقات ممغنطة إلكترونية ورقم سري، والعامة يدخلون المنصة وراء زجاج مضاد للرصاص، ولا يسمح لهم بالتجول إلا في صحبة المضيف كنائب، أو صحافي مقيم ويكون مسؤولا عن تصرفاتهم). اللائحة الملكية لتنظيم الصحافة لها علاقة وثيقة بالصراع التاريخي بين الساسة البرلمانيين والصحافة الحرة. ورفض الصحافة كلها بلا استثناء الاشتراك في منظومة اللائحة الملكية هو الخشية من تأسيس سابقة تسمح للساسة بالتدخل في عمل الصحافة. فاللائحة من تصميم وصياغة الساسة، حيث اتفق نواب الحكومة والمعارضة على إصدارها وعارضها أقلية من النواب المؤمنين حقا بالديمقراطية. فمن الناحية الشكلية، يعتبر البرلمان رقيبا على سلوك وسياسة وتصرفات الحكومة، لكن عمليا الحكومة أصبحت حكومة لسيطرة حزبها على أغلبية المقاعد البرلمانية، ولا يعقل (ولم يحدث أبدا في التاريخ) أن تصوت الحكومة ضد نفسها في قرار سحب الثقة. فقرارات كهذه تدرجها المعارضة، وطالما أن الحكومة تتمتع بالأغلبية لا تنجح المعارضة في هزيمتها. ولذا فبغير وجود الصحافة يفقد الشعب أداة مستقلة لإخضاع الحكومة لإرادة الرأي العام خارج موسم الانتخابات. ازدادت خصومة الساسة للصحافة عام 2009 عندما كشفت الأخيرة فضيحة تلاعب الساسة (حكومة ومعارضة) في الأموال العامة بالمغالاة في المصاريف النثرية البرلمانية، وكان بعضها تزويرا فاضحا، فتعرض بعض النواب للمحاكمة وعقوبات الغرامة والسجن. وتربص الساسة بالصحافة انتظارا لفرصة، ليس فقط لمعاقبة الصحافيين، بل للحد من امتيازاتهم البرلمانية وسد منافذ الحصول على المعلومات أمامهم (في جلسة للجنة البرلمانية لشؤون الصحافة والرياضة والثقافة، شن أحد الأعضاء هجوما شديدا على كتاب الاسكتش البرلماني الذين يصورون بالكلمات مناقشات وجلسات المجلس ولجانه بأسلوب ساخر؛ ووصف الصحافيين بالطفيليات الذين يجب منعهم من دخول البرلمان). سنحت الفرصة للساسة في فضيحة تنصت بعض الصحافيين على تسجيلات صوتية ومكالمات المشاهير عام 2011، وفبركت صحيفة “الغارديان” اليسارية ادعاء أن أحد الصحافيين مسح التسجيل الصوتي لرسائل تلميذة مختفية في الرابعة عشرة (كان أحد المختلين نفسيا اختطفها وقتلها) وظنت الأسرة أنها على قيد الحياة تسمع رسائلها (الحقيقة أن شركة التليفون برمجت الرسائل لتمسح تلقائيا بعد 72 ساعة لتفسح المجال لرسائل جديدة) وهاج الرأي العام، واستدعي البرلمان وأغلق أصحاب أكثر الصحف توزيعا (نيوز أوف ذي ورلد) الصحيفة وفقد 300 صحافي يرعون أسرهم وظائفهم. وأمرت الحكومة بالتحقيق القضائي في تصرفات الصحافة برئاسة القاضي اللورد ليفسون الذي اقترح تشكيل مجلس مستقل لتنظيم عمل الصحافة لنفسها. أثناء التحقيقات ظهر تيار من اليسار، ولوبي ضغط من المشاهير (خصومتهم مع الصحافة أنها كشفت فضائح كعلاقات غير مشروعة، وتناول مخدرات، وتصرفات غير أخلاقية من نجوم ومشاهير يعتبرهم المراهقون والمراهقات قدوة لهم؛ وبالتالي فإن كشف نفاق هؤلاء أو تدهور أخلاقهم هو أمر اجتماعي مهم لملايين القراء). ولوبي المشاهير له تمويل ضخم جدا. كما ظهر لوبي اليسار البريطاني، وهم كاليسار المصري والعربي من أبناء الطبقات الميسورة الذين يرفعون شعارات كدعم البروليتاريا ونصرة الطبقة العاملة التي لا يعرفون عنها شيئا. فالصحف التي يطالب اليسار البريطاني برقابتها هي نافذة الفقراء والطبقة العاملة على الدنيا (“الصن” أكثر الصحف شعبية تباع بثلاثين قرشا، بينما “التايمز” بجنيه ونصف، و”الغارديان” بجنبه وربع). ورغم أنه لا توجد مخالفة واحدة ظهرت في تحقيقات ليفسون لا تخضع للقوانين الحالية (مثلا يحاكم عشرة صحافيين الآن بتهم التنصت على التليفونات، ورشوة رجال البوليس وإخفاء المعلومات)، فإن لوبي المشاهير (الذي يريد أن تنشر الصحافة الأخبار الطيبة فقط لترويج أغانيهم وأفلامهم وليس مخالفاتهم الأخلاقية) اتحد مع اليسار ورجال السياسة لإصدار اللائحة الملكية. ولو طبقت اللائحة لما كانت فضيحة كاختلاس الساسة لملايين من أموال دافعي الضرائب بالتحايل في المصاريف الإضافية قد وجدت طريقها للنشر. فاللائحة الجديدة تلزم المحرر بإخطار الطرف الآخر (أي الساسة في هذه الحالة) بمحتوى ما سينشر، مقدما، وبالطبع سيلجأ محامي رجل السياسة لاستصدار أمر قضائي injunction بمنع النشر حتى يبت في مصدر المعلومة. (مصدر تلاعب النواب في المصاريف كان قرصا عليه المعلومات سرقه حارس من إدارة الحسابات وناوله للصحافيين وحكم القاضي وقتها أن الصالح العام بالنشر برر انتهاك القانون بالسرقة؛ لكن اللائحة الجديدة تحدد صلاحيات القاضي فيأمر بإعادة القرص لأصحابه). ولأن جميع صحف بريطانيا رفضت الاشتراك في اللائحة الملكية، فسيكون مصيرها مزبلة التاريخ، لكن التحالف المناهض لحرية التعبير والصحافة لا يزال متربصا، والمعركة القادمة ستكون باهظة التكاليف في ساحة المحاكم عندما تكشف الصحافة فضيحة مالية أو أخلاقية لسياسي أو مشهور..