عن القفص والعصفور.. عن أحمد فؤاد نجم ! الموت، في النهاية، يحدث غير أن الناس لا يصدقونه مهما كان ثابتا ومستمرا ونافذا، يتعاظم تكذيب الحقيقة الأزلية حين تلف الأكفان جسدا حفظت ملامحه الناس وجل حركاته وإشاراته واعتادته كما اعتادت الطعام والشراب والنوم وممارسة الحياة، وحين تصعد إلى السماء روح أثرت الأرواح بأثرها البالغ فيها وغيرت العقول من فيوضاتها الألمعية تغييرا كبيرا ؛ كان موت أحمد فؤاد نجم حالة واضحة من حالات الموت غير المصدق على الرغم من مرض الرجل وكبر سنه وتوقفه الطويل عن الكتابة قبل الوفاة ! في السنوات الأخيرة التي سبقت رحيله، برز أحمد فؤاد نجم بروزا هائلا على الساحة الإعلامية المصرية (هو الذي كان أقرب إلى المنشور السري إلى ما قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير) ؛ فانفجار الأرض ببركان الغضب الشعبي هو اللحظة التي مهد لها شعره الغزير تماما كما لم يهد لها شعر شاعر آخر (ربما أستثني الراحل الكبير فؤاد حداد لكن لهذا حديث مغاير)، ثورة يناير كما لو كانت ثورة نجم نفسه، وقد شارك، في حر شمس وسط القاهرة قبلها (بينما قدماه لا تساعدانه على الوقوف)، في عديد من الوقفات الاحتجاجية مع حركات ككفاية ومع تيار اليسار المصري الذي عاش ومات ينتمي إليه بقوة ومجموع المثقفين الثوريين ممن كان يطمئن إليهم ويأنس بهم ويسامرهم … هذه الوقفات بالمناسبة، كانت، مع فعاليات شبيهة أخرى وعناصر داعمة، بمثابة اختمار العجين الثوري ! شعر نجم الذي كان الشباب يتغنون به في الميادين؛ هو الشعر الذي خطته الميادين نفسها بيديه، فلم يكن سوى ابن الحارة المصرية التي تفضي إلى شارع يفضي إلى ميدان يلم عشاق الوطن الشجعان : الجدع جدع والجبان جبان بينا يا جدع ننزل الميدان لقد تنزهت قصيدته السياسية عن الوقوع في الفخاخ التقليدية الممجوجة بمرور الوقت ؛ فومضت وميضا مختلفا ميزها عن غيرها، ونجت من نسبتها إلى المناسبات والظروف، بل حفرت لنفسها مكانا فذا بين أبناء جيله وما تلاه من أجيال، صار هم بعضها الأكبر، أي تلك الأجيال التي تلته، ألا تقع هي في مصيدته! كان نجم متسقا مع نفسه تماما، آراؤه السياسية في الغرف المغلقة، هي ما يقوله على شاشات الفضائيات، وقد كانت القنوات الفضائية تتهافت عليه إذ خرجت للنور ؛ كمادة شيقة جذابة ببساطة مظهره وجرأته وتلقائيته وخفة روحه ! نجم، في الأول والآخر، رحلة إنسانية وإبداعية شديدة الثراء، وحالة مصرية صافية خليصة ندر أن نعثر، في جملة تقلباتها الحياتية، على نظير لها، وحكاية قفص لم يكن بابه ينفتح للعصفور إلا وينغلق، بصرير عال، في وجهه … لكن لا يبالي (مع أن الطبيعي أن ييأس ويصيبه السأم والزهق والكلول) : وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات وكل يوم باحبك أكتر من اللي فات ! وداعا للجسد النحيل الذي لم تبد عليه الراحة فيما عاش كثيرا ولو هنيهة، وإنما ظهر عليه دائما أنه يسعى بالناس إلى إدراكها ونيلها، كأفضل ما يكون المجاهد في سبيل وطن عزيز حر، وسيلته إلى بلوغه جميل الشعر! عبد الرحيم طايع شاعر
نجم كحقيقة وجودية أربعة اعتبرتهم من ‘حقائق الوجود' ولكنهم يخذلونني واحدا بعد الآخر، محمد عبد الوهاب، نجيب محفوظ، أحمد فؤاد نجم، محمد حسنين هيكل. في ما بعد، حين يذهب الحزن على رحيل ‘ظاهرة' يتداخل في شخص وإنجاز صاحبها الفن والشعر والسياسية، سيطرح عدد من الأسئلة حول الأسباب الحقيقية لفض الشراكة بين نجم والشيخ إمام، وعلاقة ذلك، على مستوى آخر لا علاقة له بهما، بتحول الثائر إلى سياسي، من النقاء الثوري الفني إلى التجربة التي تلوث صاحبها وتفرق الأصدقاء. لم أجد في بيته مكتبة، ولكني كنت أندهش لقوة ذاكرة نجم، الذي يستشهد بالمتنبي وبيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين، وكانه يقرأ من كتاب، فمتى قرأ وحفظ هذه الدواوين؟ وهو الذي كنت تستطيع ان تجده في مكانين في الوقت نفسه. من الأسئلة التي ستطرح أيضا وتحتاج إلى تفسير نفسي.. لماذا نسبت أشعار آخرين، والتي غناها الشيخ إمام، إلى نجم، ومنها ‘اتجمعوا العشاق' لزين العابدين فؤاد، و'يا مصر قومي وشدي الحيل' لنجيب شهاب الدين. ويرتبط بذلك، إذا مددنا الخيط إلى آخره، قصائد نشرت في نهاية حكم مبارك ونسبها أصحابها لنجم الذي قال إن كتابها يحتمون باسمه. ذاكرة نجم لا يقل أهمية عن شعره وسيرته، وربما نرى كتابا يجمع صاحبه حكايات نجم عن ظرفاء جيله وفنانيه ومثقفيه وسياسييه وسجانيه، وستكون هذه النوادر جزءا مهما من ذاكرة مصر المعاصرة سعد القرش روائي وصحافي
شاعر الذاكرة الجمعية أحمد فؤاد نجم ظاهرة شعرية فريدة واستثنائية في آن.. عُرفت دوما بالتزامها الوطني والإنساني، مدركة أن الشاعر ليس ابن اللغة فحسب، بل التاريخ والواقع أيضا.. ومن ثم فهو منتمٍ إلى أحد فريقيْن: إما أنه طامح إلى التغيير والتحول الثورييْن، وإما أنه مسهم في تكريس الواقع الرديء وتدجين الإنسان. لذا آمن منذ البدء بحيوية وجود قضية للشعر تمنحه معناه وحضوره، وأن الإنسان ذات يتعين أن تقوم على الحرية تعبيرا عن قلق داخلي،وعن مخزون روحي ثر، محتفظا بطفولته الدائمة في استدعاء ثراء اليومي.من هنا؛ جاء شعره ردا فنيا بليغا على هزيمة الخامس من يونيه عام 1967التي سعت إلى إجهاض حركة التحرر الوطني، والسيطرة على النفط والأسواق العربية، وعلى مخططات الحل السلمي التي مثَّلها قرار مجلس الأمن في 22 نوفمبر1967 ومشروع روجرز الذي كان يرمي إلى إحداث تخلخل في الأوضاع العربية على نحو يسمح بتحرك أردني ضد المقاومة الفلسطينية بدعم أميركي- إسرائيلي. لهذا جاء شعره صادرا دوما عن وعي حاد بتاريخيته، وجدله مع اللحظة الآنية، برهاناتها السياسية والاجتماعية، ومساءلة الذاكرة الجماعية؛ باحثا عن الحقيقة الثاوية في قلب الأشياء البسيطة، عامدا إلى اكتشاف مغزى الحياة، وإغنائها بالدور المسؤول. الأمر الذي جعله أشد انحيازا إلى تراث الأغنية السياسية الوطنية كما عرفناه لدى سيد درويش وبديع خيري وبيرم التونسي ومن إليهم؛ بفضل ما توافر لإبداعه من تمكن وحرفية ولمحات فتية وقدرة تعبيرية وبساطة مُعجزة تصنع ذلك التواصل الحي الذي يستنفر المتلقي ويدفعه إلى التساؤل والتفاعل.. صانعا من مفردة الوطن قيمة إنسانية قادرة على خلق جماليتها الخاصة،ومخاطبة الناس والزمن والأحلام، مرتحلة مع الأنا المتكثرة، دافعة المواطن العادي إلى التفكير بالمخيلة..والإيمان بأن البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم، وأن من حقهم أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم.. ومن ثم؛ التمرد على صنمية السلعة، مستعيدا الفعل الجمعي تجاه الفردية الليبرالية. لذلك خلق ‘أبو النجوم' بشعره حالة من الحيوية الثورية القادرة على التصدي لجهاز الدولة القمعي، كاسرا الركود السياسي الذي أحاط بالمحروسة قبل ثورة 25 يناير2011، داعيا الجماهير الشعبية إلى انتزاع الحق في المشاركة الديمقراطية، والتحرر من طغيان الهشاشة اليومية. لا شك أن أبا النجوم سيخلِّف فراغا كبيرا في حياتنا العامة، وسنفتقد حضوره الآسر، وقاموسه المتفرد في العشق، ونحت المفردة شديدة الخصوصية والجمال. أسامة عرابي كاتب وناقد
كان يغني مصر عندما انطلقت أغنية ‘يا بلح زغلول' لسيد درويش كانت أغنية مضادة.عاد بسببها سعد زغلول من المنفى. وعندما كتب بيرم التونسي لأم كلثوم (يا جمال يا مثال الوطنية… أجمل أعيادنا المصرية… بنجاتك يوم المنشية) كانت شاهدة على عصرها. تدلل على جزء من تاريخنا السياسي (محاولة اغتيال الإخوان المسلمين لجمال عبد الناصر). ما الذي يجعل مثل هذا الشعر مضادا للنسيان، إلا انه يمثل جزءا من وجدان الشعب. خرج منه، وخاطبه، فتمسك به. وصار إضافة لوعيه الجمعي. من هنا خرج أحمد فؤاد نجم بشعره. من نفس الطين ونفس الوجع، وبالعامية السهلة الجارحة التي ينحتها من حكمة أجداده. وبالسخرية المعجونة بمرارة الواقع وألم المسكوت عنه اختار أن يعبر منها. فكان صوت الفقراء والمهمشين والأيقونة التي تضيىء ضد الظلم. لتنتقل الشرارة منه إلى ذويها صوتا فصوتا لتهدر وتهدم جزءا من جدار الخوف. وتغنيها الجماهير مع الشيخ إمام رفيق دربه الذي أخرج شعرأحمد فؤاد نجم. من جلسات الشعر المحدودة. وندوات الجامعات، إلى كل طوائف الشعب لتغنيها وتزيد من دائرة تأثيرها المتناغم مع وجدان الشعب الذي وجد ضالته فيها. كتب أحمد فؤاد نجم قصائده المضادة ولم يشغله أن يدفع ثمن اختياره، من جرح الهزيمة عام 67 كتب (الحمد لله خبطنا تحت باطاطنا، يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار) وسجن حتى وفاة عبد الناصر ورغم ذلك نعاه بقصيدة (السكة مفروشة تيجان الفل والنرجس… والقبة صهوة فرس عليها الخضر بيبرجس). لأن عبد الناصر انحاز للفقراء الذي ينتمي إليهم، كما نعى جيفارا في قصيدة (جيفارا مات). ثم جاءت حقبة السادات التي كتب فيها العديد من القصائد التي ألهبت حماس الشعب وكان وقودها طلاب الجامعات وعمال المصانع في الأحداث السياسية المتواترة في السبعينات كانتفاضة الجوع في يناير 1977 ومعاهدة كامب ديفيد التي كان ضدها ثم سياسة الانفتاح وتزايد الهيمنة الأمريكية. نجد العديد من القصائد القنابل التي تتفجر وتفجر ما حولها بشجاعة. يكتب نجم (الخواجة الأمريكاني) ويغني نجم ثم تغني الناس. يكتب (بقرة حاحا النطاحة) و(قصيدة البتاع) وغيرها ويدخل السجن في عهد السادات ويخرج ليكمل دربه الذي اختاره، منحازا للفقراء والمظلومين فيكتب في عهد مبارك عددا من القصائد منها (كل سنة وأنت حاكم واحنا محكومين ….واحنا مظلومين ô واحنا متهانين) وغيرها من القصائد الرافضة لنظام التوريث لجما ل مبارك. (جمالك مبارك … سوزانك سوزانا …. يا محلا حصارك لمصر اللي جالنا). ثم كانت الثورة التي كانت حلمه وتتويج جهاده ولو يكف نضاله في الميدان وخارجه بين جموع الثوار عاشقا لمصر حاميا لحلمه فكانت القصائد التي تفضح الإخوان تهاجمهم وتقصم ظهرهم حتى آخر يوم في حياته. كتب وغنينا نحن من بعده وسيغني أبناؤنا من بعدنا لأن نجم لو يكن يكتب شعرا بل كان يكتب مصر. أمل جمال شاعرة ومترجمة