ثلاث سنوات عجاف مرت منذ بدء ما كان يعرف بالربيع العربي، تقلبت فيها الأحوال وتغيرت فيها الأوضاع في العديد من جمهوريات العالم العربي، ودخلنا مع الحدث الكبير في روح جديدة من أرواح التاريخ وطور مختلف من أطواره. الجميع يقر بضخامة الحجر الذي ضج به الزمان واستجاب له المكان، لكن الخلاف كان في التوصيف والرؤية والوعي. اليوم، وبعد هذه السنوات الثلاث، ألقت سفن الأحلام حمولتها في سلال الأصولية ورست على شطآن الفوضى، وسئم القش من ثقل آمال الغرقى الذين يتعلقون به، وفترت عزائم الحالمين بعدما اصطدمت بمنطق التاريخ الصارم وصخرة الواقع الصلدة. كانت سماء العالم العربي ملبدة بغيوم اليأس والقنوط وانسداد الأفق وكانت تفتش عن مخرج تنفس من خلاله كل إحباطاتها وآلامها، والتقت تلك الإحباطات بثورة تقنية حديثة، فكانت انتفاضات واحتجاجات كبرى هيأت المشهد لتغيير ما لم تكن له ملامح ثورة ولا سحنات حداثة، ولكن الكثيرين من شتى الفئات أردوا له أن يكون ثورة حديثة وهاموا بالثورة الفرنسية وسيطرت عليهم القابلية للانخداع وخضعوا لخديعة النماذج. خلافا للحالمين فقد كانت العوامل الأكثر فعالية وتأثيرا هي عوامل لا علاقة لها بالمدنية.. ففي تونس ومصر كان العامل الأهم هو تخلي الجيوش عن الأنظمة، وفي ليبيا حيث لم يكن جيش كان الحسم لتدخل القوات الأجنبية ممثلة في حلف الناتو، وكانت الضغوط الخارجية القادمة من الدول الغربية تفعل فعلها في التأثير، ويتذكر الجميع عبارات الإدارة الأميركية عن وجوب الرحيل ”الآن” و”فورا”. اليوم، تعيش تونس حالة من الصراع السياسي المحتدم بين تشبث جماعة النهضة التي تمثل حركة الإخوان المسلمين الأصولية والجماعات الإرهابية الموالية لها من جهة، وبين القوى المدنية والأحزاب السياسية وعامة الشعب من جهة أخرى، ولا يبدو في آخر النفق بصيص نور. أما مصر فقد حكمتها الأصولية وعاثت فيها خرابا حتى استطاع الشعب المصري استعادتها من جديد وانتزاعها من براثن تلك الجماعات الأصولية، فتمت في 30 يونيو (حزيران) و3 يوليو (تموز) 2013 إزاحتها عن سدة الحكم بقوة الجيش الذي استجاب لمطالب الشعب، وها هي مصر تختتم عامها الثالث بقرار حل جماعة الإخوان المسلمين وتشريع يعتبر جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية بقوة القانون، وهي خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح في سبيل بناء مستقبل جديد للدولة المصرية، ولكن هذا لا يعني انتهاء الأولويات الأصولية التي ستبقى حاضرة في المشهد المصري في الحاضر والمستقبل، كما أن مصر تواجه خطرا لا يقل عن خطر الأصولية، وهو خطر الفوضى وترسخها وتحولها إلى مؤسسات وتيارات وأفراد تربطهم شبكة معقدة من المصالح لن يتخلوا عنها بسهولة. أما ليبيا فهي تعتبر الوجه الفاقع لاختلاط الأصولية بالفوضى والمشهد هناك من كل النواحي يعبر عن كل أنواع الاحتراب والاضطراب والحرب الأهلية، ولا شيء يعبر بأي شكل عن ربيع سيطر على أوهام الحالمين. في اليمن وسوريا تزدهر الجماعات الأصولية من شتى الأنواع والأشكال تحت ظلال استقرار الفوضى، وتجد تنظيمات القاعدة البيئة الخصبة للتكاثر والتنظيم ونشر ما تتقنه من خراب ودمار، ومع عدم الغوص في التفاصيل الكثيرة التي تؤكد هذا السياق، فإن بإمكان أي متابع أن يعرف أنه لا ربيع في الأفق. إن المفاهيم المسيطرة التي تفرض نفسها على المشهد بشكل عام تمنح زاوية مهمة لتشكيل رؤية متماسكة، فليست المفاهيم السائدة اليوم هي مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والحقوق وأمثالها من المفاهيم المدنية الحديثة، بل على العكس، فقد فرضت المفاهيم الأصولية نفسها من مثل ”تطبيق الشريعة” و”التكفير” وتشريع العمليات الإرهابية والاغتيالات وتبرير القتل الجماعي من تونس إلى ليبيا ومن مصر إلى سوريا واليمن، تشابهت المشاهد في الدلالة على انحدار المفاهيم لا على رقيها، وعلى ارتكاسها لا تقدمها. ليس هذا فحسب، بل إن المفاهيم الأعمق والأكثر تخلفا مثل الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية صار لها مكان الصدارة وصارت هي المسيطرة على التفكير والجدل كما هي الفاعلة عبر الحركات والتيارات التي تتغذى عليها وتستمد منها قوتها، فالصراع السني الشيعي على أشده، وبعبارات واضحة لا لبس فيها، وبمواجهات مسلحة في أكثر من بلد واستهداف الأقليات الدينية بالتفجير والقتل والخطف، فضلا عن أن التضييق والتهديد المستمر يفرض نفسه كجزء من الربيع المتوهم. قبل سنوات ثلاث كان مثل هذا الحديث مزعجا ومثيرا للصخب والاتهام والتشكيك، لكنه اليوم فرض نفسه على الجميع، وعاد الأكثر من غوايات الأوهام إلى المنطق والواقعية والعقلانية، وهذا أمر مهم، ذلك أن العودة للتوصيف الصحيح توجه بوصلة البحث والتحليل والرؤية نحو الأسئلة الأصوب والتفتيش بعد ذلك عن الإجابات الأنسب. إن الاتفاق على مثل هذه المبادئ الرئيسة لا يعني شيئا سوى وضع الأرضية الصحيحة لأي جدل فكري أو رؤية عامة أو توجهات أو استراتيجيات سياسية تسعى لفهم المشهد أو التأثير فيه، وهو ما لا يعني بحال نهاية الإشكاليات وختام المعضلات، بل يعني خطوة أولى على طريق الألف ميل في التفتيش عن المخارج والحلول. وعلى سبيل المثال فإن الوعي في الرؤية السياسية يتطلب الكثير من الجهد والعناء، والمتابعة والتطوير، لما جل أو قل، ولما صغر أو كبر، وهي مهمة عسيرة دون شك، لكنها مهمة في الاتجاه الصحيح. ثلاثة أعوام عجاف تقلبت فيها كثير من النخب العربية بين الأوهام والأحلام، وغيرت مواقفها وبدلت آراءها ورؤاها وتأرجحت بين الصور والمشاهد، وبين الآمال المجنحة والعقلانية المضطهدة، وبين الطموح الجامح والواقع المعيش، لكن غالبية هذه النخب عادت لرشدها وأعادت تموضعها وعدلت طروحاتها وهو ما يشكل شمعة واحدة، ولكن مهمة في مواجهة بحر الظلمات. تمر بالأمم كما الشعوب كما الدول فضلا عن الأفراد أوقات تكون فيها بحاجة ماسة للتخلي عن قناعاتها أو معتقداتها أو توجهاتها العامة، وهي لحظات تستحق الملاحظة والتقدير، والتغييرات التي طرأت على مستوى التوصيف والوعي على مدى هذه السنوات الثلاث العجاف هي حلقة في هذا السياق. أخيرا، فإن الغرض من هذا الحديث ليس نشر الإحباط ولا التشاؤم، بل مواجهة الواقع كما هو، لا كما يتمناه البعض، فمن هناك تبدأ صناعة الأمل.