لقد أحبط ما جرى في مصر بعد 30 يونيو (حزيران) 2013 محاولات الغرب لخلق نموذج تركي في مصر، ومحاولات ”الإخوان” وإيران لخلق نموذج عربي لدولة المرشد، وأحبط كذلك نموذج الحكم الإخواني الشامل عبر اتحاد الجيش والحكومة كما في السودان وبشكل مصغر في حكومة ”حماس”. إذن فنحن أمام نموذج يتشكل تحاول به مصر الخلاص من كل تبعات المرحلة السابقة والنماذج المطروحة والتفتيش عن طريق جديد. لم يزل العالم العربي منذ أكثر من 100 عام يفتش عن ذاته في طروحات ثنائية تجمعها ثنائية الأصالة والمعاصرة، وهي قد عبرت عن نفسها في مجالات الفكر بشكل أرحب من مجالات التطبيق، فكانت الطروحات الحديثة كالليبرالية والقومية واليسارية تتنافس مع الطروحات الدينية سواء بشكلها التقليدي أم بأشكالها التي حاولت بأكثر من طريقة خلق تصورات دينية أو خطاب ديني واسع يقدم إجابات على الاحتياجات الحديثة للفرد والمجتمع والدولة. لقد تطورت بعض التفاصيل والنماذج والتطبيقات غير أن الإشكاليات الأساسية لم تزل هي ذاتها، وهو ما يؤكد على ما أشار إليه عدد من المثقفين العرب من أن العرب لم يمتلكوا بعد عقلا تراكميا يبني على ما سبق وينطلق للأمام، بل يعاودون نفس الإشكاليات ويبتدئون دائما من الصفر. تتعدد زوايا التحقيب التاريخي للعالم العربي بحسب المعيار الذي يختاره الباحث؛ ففي حين اختار بعضهم التحقيب الثقافي والفكري تبنى آخرون التحقيب السياسي، وغير هؤلاء اتجهوا للاقتصاد وغيرها من المعايير، ومع تحديد المعيار كان يجري انتقاء المنهج المتبع في ذلك التحقيب بناء على الهدف أو الغاية المرجوة. الدولة المصرية الحديثة يمكن تحقيبها في مراحل؛ الأولى: 1805 - 1952 هي الدولة العلوية بدءا من محمد علي وانتهاء بالملك فاروق وهي المرحلة الملكية. والثانية: 1952 - 2011 حيث دخلت الدولة المصرية في مرحلة حكم العسكر. وقد واجهت الدولتان تحديات تتعلق بطبيعة الدولة والاستعمار التي كانت مشكلات مرتحلة. أما الثالثة: 2011 – 2013 فدخلت مصر فيما يمكن تسميته ب”الدولة الأصولية” بحيث سيطرت على المشهد العام الجماعات الأصولية بشتى أشكالها وتنوعاتها ووصلت إلى السلطة وسعت بكل قوة للاستحواذ عليها وتأبيد سيطرتها عليها في تفاصيل كثيرة ذكرت سابقا ويتذكرها القارئ لقرب العهد واستمرار تأثيراته. والسؤال الذي يستحق أن يطرح هنا هو هل ستشهد مصر في قابل الأيام وفي النموذج التي هي بصدد اجتراحه وبنائه نموذجا جديدا يستحق أن يسمى ب”ما بعد الدولة الأصولية”؟ جدير في معرض الإجابة استعادة بعض التوصيفات للمشهد الجديد في العالم العربي أي ما بعد انتفاضات واحتجاجات 2011 بحيث أنتج اختلاط المشهد الممزوج بالأماني والأحلام توصيفات تضلل الوعي من مثل اعتبار ما جرى ثورات مدنية قادها شباب ثائر وأوصلت لتغيير نظام سياسي، ومثل هذا التوصيف غير الصائب يعشي عن أي قراءة للواقع أو استشراف للمستقبل. وفي محاولة لإعادة ترتيب المشهد فإن ما جرى في يناير (كانون الثاني) 2011 لم يكن ثورة بل هو انتفاضة كبرى لم يكن لها أن تنجح لولا تخلي الجيش عن النظام، وما يصح في مصر يصح في تونس وفي ليبيا، هذا أولا. وثانيا: إن التغييرات السياسية تحدث طوال التاريخ بين دولة استنفدت أغراضها وأخرى حان وقتها بحسب الكثير من المعطيات، وثمة أحوال متشابهة لتلك التغييرات كالانقلابات الحمراء والبيضاء أو الصراعات الخارجية بين الإمبراطوريات أو الدول أو الداخلية بين مراكز القوى، والتي كان يستخدم لها مصطلحات وعبارات تتغير عبر القرون. وما جرى في مصر كان انتفاضة لبعض الجماهير وبعض القوى السياسية أيدها الجيش ثم شرق بها. ثالثا: أغرم بعض المثقفين ووسائل الإعلام بمصطلح الثورة وأطلقوه بلا زمام من علم ولا خطام من تمحيص، وغاب عن الكثير أن له شروطا وضوابط ينبغي توافرها ليصح الإطلاق وهي منتفية في الحالة المصرية. فلم تتوفر في الحالة المصرية بعض الشروط ومنها على سبيل المثال، السياق الحضاري والثقافي والفلسفي الذي يتقدم ويقود أي حراك جماهيري بحيث تكون الثورة تعبيرا عن حجم تأخر الاستجابة الواقعية للمعطى الحضاري. وكذلك، في الهدف والغاية من أيانتفاضة كبرى لتصبح ثورة وهو أن يكون هدفها المدنية، ومن هنا فإن أي انتفاضة كبرى تؤدي إلى الأصولية لا تسمى ثورة بل يمكن تسميتها بأي من التسميات الكثيرة التي تطلق على التغييرات السياسية عبر التاريخ. في السياق المصري والعربي عموما فإن إطلاق اسم الثورة على الانتفاضة كان مسبوقا بإطلاق العسكر على انقلاباتهم العسكرية في الخمسينات والستينات اسم الثورة، والفكر العربي قبل ذلك كان يعيش أزمة في التفريق بين الانقلاب والثورة وكان المثقفون العرب يعانون أزمة تجاه مفهوم ”الثورة” فهي لم تكن ذات دلالة في اللغة العربية بمعناها الحديث. وكما كان أكثر المثقفين العرب في 2011 مشدودين بوعي أو من دونه إلى ”نموذج الثورة الفرنسية” فقد كان مثقفو العرب قد فعلوا الأمر ذاته تجاه السلطان عبد الحميد والدولة العثمانية مطلع القرن العشرين، وربما كانت هذه المقارنة بحاجة لمقالة مستقلة لأن حجم التشابه يغري بتأكيد ما ذكر أعلاه من استمرار الإشكالية وفقدان التراكم. عودا على ذي بدء، وفي محاولة الإجابة فإن على الدولة المصرية أن تحدد ماذا تريد أن تكون؟ وماذا تبحث عنه في المستقبل؟ ذلك أنها إن أرادت تقديم نموذج لدولة ما بعد الأصولية فهي بحاجة لتوجهات تاريخية وصعبة تلغي من خلالها ما جرى في المرحلة الأصولية بعد 2011 من قرارات رخصت لأحزاب سياسية / دينية تستخدم الدين لأغراض سياسية، وما قبلها من السماح لجماعات لا أحزاب بفعل الأمر ذاته، وعليها في الآن ذاته أن تتعايش مع أن الأولويات والأفكار الأصولية ستظل حاضرة في المشهد ولن تنتهي بين عشية وضحاها، وسيكون عليها إتقان التعامل معها. أخيرا، ينبغي التأكيد على أن ما بعد الدولة الأصولية لم يزل محاولة في المجهول، محاولة في الخلق، فنحن أمام نموذج يتخلق ضمن ظروف ومعطيات شديدة التعقيد، ومرونته مع كل الخيارات وقابليته لشتى التجاذبات تستوجب مرونة وانفتاحا يوازيهما على مستوى القراءة والتحليل والوعي، إنْ بهدف الإدراك وإنْ بغرض التأثير.