المؤسسة الإعلامية انتقلت إلى مزاحمة المؤسسة الدينية محمد بغداد كاتب وإعلامي جزائري صدرت له عدة كتب منها: "صناعة القرار في الخلافة الراشدة"، "حوارية النص والفقيه"، "من الفتنة إلى المصالحة"، "الدولة والمجتمع في المغرب الإسلامي"، "إنتاج النخب الدينية في الجزائر"، "تماسين جوهرة الصحراء". كما أصدر كتابين في الإعلام الديني والثقافي الأول بعنوان: "الإعلام الديني في الجزائر/ الخطاب والهوية" عن دار الحكمة للنشر والترجمة، تناول فيه إشكالية الإعلام الديني وتمظهراته في مختلف وسائل الإعلام الجزائرية، وتأثيرات هذا النوع من الإعلام على السلوكات والمنتوجات الثقافية للتيارات الجزائرية. الكتاب يعتبر أول دراسة في الجزائر تخوض في هذا الموضوع. والثاني بعنوان "حركة الإعلام الثقافي في الجزائر تقدير مشهد" صدر له مؤخرا عن دار الحكمة أيضا، تناول فيه العديد من الإشكاليات المتعلقة بالمشهد الإعلامي الثقافي الجزائري، الكتاب جاء في ثمانية مباحث من عناوينه الرئيسية "الذاكرة والوعي، وميزاجية النخب، وموعد خارج الزمن، والصورة والانعكاس. عن هذا الكتاب والإعلام الثقافي والديني في الجزائر كان هذا الحوار. حاورته/ نوّارة لحرش صدر لك مؤخرا كتاب "حركة الإعلام الثقافي في الجزائر تقدير مشهد"، كيف بدأت اشتغالك على هذه الموضوعة التي أسالت الكثير من الحبر في السنوات الأخيرة؟ محمد بغداد: أعتقد أن مسار التجربة الإعلامية الجزائرية، منذ أحداث أكتوبر تفرض علينا اليوم، القيام بخطوتين الأولى تتمثل في ضرورة المراجعة السريعة والعميقة، لما تم انجازه ولكن بموضوعية وعلمية، والثانية الانتباه إلى مرحلة التخصص والانتقال إلى الاهتمام بالمواضيع التفصيلية، وتصحيح العديد من المصطلحات الإستعمالية في حياتنا المهنية، وأقصد بالقول هنا مصطلح الإعلام الثقافي، الذي تم اختزاله في صفحة مهملة في جريدة، أو خبر في نشرة إخبارية سمعية أو بصرية، أو حصة تبث في الأوقات الميتة، في زمن تتعاظم الصراعات الثقافية والفكرية بين الأمم الكبرى، التي بدأت تحول استثماراتها إلى الاستثمارات الثقافية، وانقلب الإعلام إلى الاهتمام الشديد بالقضايا الثقافية، من الرموز إلى العلامات التجارية إلى أكبر المتاحف والمهرجانات والأفلام الضخمة، وغيرها من المنتوجات الثقافية التي تصنع التاريخ، أما نحن فمازالت مؤسساتنا الإعلامية والقائمين على الرسالة الإعلامية، يتسابقون على أخبار الجريمة والتصريحات السياسية البائسة وأرقام النهب والسرقات، نحن أمام تحدي كبير يتمثل في إنضاج التجربة الإعلامية، من خلال تدوين تجاربنا ووجهات نظرنا نحن كصحفيين مهما كانت مستوياتها، حتى نفتح فيما بعد مساحات النقاش والحوار فيما بيننا أولا، ثم مع كل الشركاء في العملية الإعلامية في جانبها الثقافي، كما أننا بحاجة إلى التخلص من المقولة القديمة بأننا شفاهيون ونتكلم أكثر مما نكتب وندون، من هنا جاءت فكرة كتاب حركة الإعلام الثقافي في الجزائر، وجعلته تقدير مشهد وقدمت فيه وجهة نظر لا أدعي أنها مجملة للمشهد الإعلامي، ولكنها تطرح فكرة مفادها أن الجانب الثقافي في حياتنا يعتبر من قضايا الأمن القومي الاستراتيجي، وأنه يفترض أن يحظى بعين الاعتبار والاهتمام، وبالذات مسؤولية بناء الرسالة الإعلامية والهدف منها والغاية التي نريد أن نصل إليها، ونود أن يسارع الزملاء بالكتابة والنقاش حتى نتمكن من بلورة رؤية واضحة في العمل الإعلامي، تكون معبرة عن شخصيتنا وهويتنا الجزائرية. هل يمكن أن تلخص أهم مشاكل وإشكالات هذا المشهد المتعلق بالإعلام الثقافي والتي أضأت حولها وعليها في هذا الكتاب، وأين تكمن أزمة الممارسة الإعلامية الثقافية في الجزائر، ما مسبباتها وعثراتها وما الحلول التي تراها مناسبة، وإلى أي حد المشهد الإعلامي ملتبس؟ محمد بغداد: أهم المشاكل هي مفهوم المعلومة الثقافية في أذهان صناع الرسالة الإعلامية من قادة المؤسسات عندنا، إضافة إلى الرؤية التي تسيطر على إدارة هذه المؤسسات، فليس سرا أن هؤلاء لا يسمعون بفيلم جزائري أنجز، ولا يحضرون مسرحية، ولا يشهدون حفلا موسيقيا، ولا يزورون متحفا والقائمة طويلة، والأخطر من ذلك أن الخبر الثقافي يوضع في أخر نشرة الأخبار، أو في صفحة ميتة من جريدة، وهو أول خبر تتم عملية التضحية به وإلغاؤه، زيادة على ذلك فكما إننا نحتفل بنص قرن من الثورة الجزائرية، لم نتمكن طوال السنوات الماضية من وضع أسس إستراتيجية ثقافية وطنية، تجيب على أسئلتنا وتلبي حاجاتنا الثقافية والفكرية، وتحدد موقعنا من العالم وهنا يحضرني لجوء قادة الثورة إلى المثقفين، لإيجاد الحلول للمشاكل والمطبات التي وضعها الاستعمار الفرنسي أثناء المفاوضات، الذي كان قادة المفاوضات يحملون أسلحة ثقافية قبل الأدوات السياسية والدبلوماسية، ومن المشاكل الكبرى التي تواجه الإعلام الثقافي، تلك الذهنية التي يعامل بها الصحفي في المؤسسات الثقافية، فهو يوضع في أدني الدرجات الأدبية والمادية، ويعامل على أنه عنصر هامشي ولا قيمة له في المؤسسة وأضعف الصحفيين يوضع في القسم الثقافي، والغريب أن مؤسساتنا الإعلامية تفضل أخبار الجريمة والفضائح على الأخبار الثقافية، في الوقت الذي تحدد قيمة المجتمعات ومكانتها في العالم، بما تنتجه من قيم وسلع ثقافية. إننا نملك تجربة إعلامية متميزة في الوطن العربي، أهم مميزاتها أنها تستند إلى تراث عريق يمتد إلى بداية القرن الماضي، من خلال جهود عدد كبير من الإعلاميين الجزائريين، في مقدمتهم عمر بن قدور رائد ومؤسس الصحافة الجزائرية، مرورا بالعدد الكبير من المشاريع الإعلامية الكبيرة، هذه التجربة لا يجب أن تفقد مفعولها وبريقها القوي، لأننا بحاجة إليها لإعادة بناء المستقبل، وهي كافية لتصحيح المسار والانطلاق من جديد، كما أننا نملك قوة وإرادة وطموح وجسارة الجيل الجديد من الشباب، الذي لا يجب في هذه الظروف أن تُحطم أحلامه، وأن تفتح أمامها الأبواب للإبداع والعمل الجاد، ويبقى في حاجة إلى التوجيه والإشراف وليس إلى الوصاية، والكفيل بذلك هو ما تتيحه لنا التكنولوجيا الجديدة، التي أزالت من الطريق كل الايدولوجيا والأصنام القديمة، والتي حان الوقت لتبتعد من الساحة وتترك التجربة الجزائرية تشق طريقها بجيلها الجديد، وتخوض مغامراتها وتتحمل مسؤوليتها. قلت أن هناك بعض الممارسات في المشهد ناتجة عن أمزجة شخصية، برأيك هل هذا ناتج عن أنانية متأصلة في البعض أم لغياب المهنية الضرورية؟ محمد بغداد: المزاجية تحكم حياتنا في مختلف قطاعاتها، لأننا مجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة العقلانية في أدني مستوياتها، والمزاجية في قطاع الإعلام عامة والثقافي خاصة مفضوحة، فعند متابعتنا لمنتوجنا الثقافي نلاحظ أننا فقدنا شيء اسمه الخط الافتتاحي للمؤسسة الإعلامية، التي يستحيل على واحدة منها أن تعرف نفسها، وتقدم اتجاهها والدليل الأبرز هنا كيفية تعامل الإعلام الجزائري في الأزمة المفتعلة مع مصر العام الماضي، وهي الأزمة التي كشفت عن الكثير من العورات المستورة، ومما كشف عن بقية العورات تظاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية، وقد كان الإعلامي الجزائري يتخبط فيهما خبط عشواء، وكأنه مصاب بالدوران حول نفسه، فلحد الآن لا نملك موقفا واضحا ولا رؤية معلومة، ولا إستراتيجية إعلامية واضحة، والمهم عندنا مزاج مدير المؤسسة الإعلامية أو رئيس تحريرها، والعلاقات الولائية والعنكبوتية التي تعيش فيها هذه المؤسسات، فاليوم نشيد بشخص ونرفع من شأن قضية وفي الصباح نلعن الجميع، والمحظوظ من يكون صديق المسؤول والملعون من يعاديه، والفضيحة هنا انجاز، والانجاز هناك فضيحة، للأسف الكثير من ممارستنا الإعلامية لا تخرج عن الإطار القانوني فقط، بل تتجاوز حدودها وتصطدم بالأخلاق والقيم المشكلة للمجتمع، وفي ذلك بعض الأعذار، ولكن الرهانات الحالية لا تسمح بالاستمرار في مثل هذه التصرفات، ولا تقبل بهذه الممارسات ونحتاج إلى التوقف والعودة إلى الصواب والمهنية. كإعلامي كيف تقرأ مشهد الإعلام الثقافي في الجزائر الآن وماذا عن أداء هذا المشهد في مختلف الوسائل الإعلامية مقارنة مع سنوات مضت هل ترى أن الممارسة الإعلامية ارتقت إلى مستوى الاحترافية؟ محمد بغداد: من حسنات الظروف الحالية أن ضغوط الأجيال الجديدة بأسئلتها الحادة، بدأت تفرض نفسها في الحياة وتزعج عرابي المشهد الثقافي الإعلامي، ولا يمكن الحديث في هذه الظروف عن شيء اسمه الاحترافية، فالاحترافية انجاز ونتيجة لمسيرة من العمل الجاد، يقوم على رؤية واضحة وينتقل إلى مستوى المشروع، ويقترب نحو المراجعة ويتزود من العقلانية، فنحن المجتمع الوحيد الذي لم توضع تجربته الإعلامية على مكاتب البحث الجامعي والمخابر الأكاديمية، فالطلبة يأتون من الجامعات ليصدموا بواقع مناقض تماما لما تعلموه من قبل، وبمرور الأيام يكتشفون أنهم ضيعوا سنوات من أعمارهم بدون فائدة، ولأول مرة في تاريخ الإعلام نجد الجامعة تطارد الممارسة العصامية الميدانية، وإذا أردنا الحقيقة يجب أن نقول لا نملك مؤسسة إعلامية بالمعنى المتعارف عليه في عالم الناس اليوم. إننا نضيع الوقت، عندما نترك المجال لمن هم ليسوا في مستوى التحديات الراهنة ولا علاقة له بالإعلام، يتصدر ويقود المؤسسات الإعلامية، تحت مبررات وهمية ومنطق متخلف، لنقولها بصراحة أن مؤسساتنا الإعلامية في أغلبها لا تعبر عنا، ولا تمارس العملية الإعلامية الحقيقية، فالبعض بقى مجرد إدارة بيروقراطية والبعض محل تجاري والبعض بوق من أبواق السذاجة وترويج للخرافات، ويذهب المجتمع والصحفي ضحية هذا الدولاب الغريب، الذي لم يحن وقت إزاحته من الحياة، مازلنا نتصور أن العصامية هي البديل عن العلم والمعرفة، وكأننا في زمن الخرافات والأساطير، المؤسسات الإعلامية خارج الحدود يقودها العلماء والمحترفون والمتدربون على أرقى فنون الإعلام والاتصال، ونحن مازلنا ندرس في الجامعات ونمارس في المؤسسات مفاهيم نسيتها الإنسانية، ولا يتذكرها إلا المؤرخون، ونحن نقتل كل روح مبادرة ونقف في وجه كل طاقة جديدة، ولا سبيل لنا سوى الانتقال وبسرعة لا إلى المستقبل ولكن فقط إلى الحاضر. هل الإعلام الثقافي تخدمه الأسماء الأدبية التي تمتلك حسا أدبيا وصحفيا في ذات الوقت ومرجعية ثقافية أكثر من الأسماء التي لا تملك هذه المرجعية ولا الحس الأدبي الضروري الذي يرتقي أكثر بالإعلام الثقافي؟ محمد بغداد: الإعلام الثقافي يتجاوز المستوى الأدبي، ليشمل كل معاني ونشاطات الإنسان في الحياة، بداية من الأسماء التي نطلقها على أبنائنا، مرورا بقاموس التعبير الذي نستعمله، وصولا إلى طبيعة الأحلام التي نتطلع إليها والأساطير التي نعيش بها، من هنا فإن الأسماء والشخصيات الأدبية بإمكانها أن تساهم في إثراء العملية الإعلامية، وتؤثر في طريقة تسويق المنتوجات الثقافية، ولكن تجربتنا في هذا المجال ضعيفة جدا ونتائجها سلبية، لأننا مازلنا كمجتمع لم نتخلص من سيطرة النخب المغشوشة زيادة على أن قطاع الإعلام أصبح مطمح كل من يرغب في الشهرة والنجومية، وفي الأخير نجد أنفسنا نفتقد إلى معايير الجمالية الحقيقية والعقلانية المتحكمة، وفي وقفة بسيطة يمكن أن نلاحظ إننا انسحبنا من المشهد الإبداعي العربي فقط منذ سنوات، فلم يعد أحد يسمع بنا أو ينتبه إلى ما ننتج، ومن كانوا من أشقائنا في مؤخرة الركب سبقونا في العديد من مجالات الإبداع بأشواط كبيرة، وما زلنا نعيش في دهاليز الماضي ونجتر إشكاليات التاريخ وحتى الأجيال الجديدة عندنا لم تعد تسمع بما يعشش في أذهان بعضنا، لأن العملية الإعلامية تقوم في الأساس على الذكاء والتجدد وتتزود بالعقلانية الناجحة، ويمكن لكِ أن تلاحظي ذلك في المواد السينمائية والأدبية والفنية، التي تتزاحم على استهلاكها أجيالنا الجديدة. للأسف إن مؤسساتنا الثقافية عمومية أو أهلية، لا تريد من الإعلام سوى الإشهار والترويج لمشاريعها، والويل للصحفي إذا تجرأ وأعطى رأيه في نوعية النشاطات التي تقام والمطلوب منه، فقط أن ينوه ويشكر ويذكر الأسماء والألقاب ويقول كل ما يريده أصحاب هذه المؤسسات، والغريب أننا نعيش سلوكات سمجة والتي تظهر في العلاقات المشبوهة بين قادة هذه المؤسسات وصناع الرسالة الإعلامية، ليس أمامنا الكثير من الوقت لنلحق بما يدور حولنا في العالم. مثلا أهم المنابر في الصحافة الثقافية شغلها كتاب وأدباء، جاؤوا من الأدب والثقافة إلى حقل الإعلام الثقافي وخدموا المشهد أكثر وأضافوا له كثيرا. ما رأيك؟ محمد بغداد: أعتقد أنه قد حان الوقت لنتحدث بصراحة وموضوعية، هناك تجارب ناجحة ولكنها شخصية، قامت على جهود فردية وتمكنت من حجز مكان لها في الساحة، ولكنها تمكنت من تحقيق الإعجاب وفشلت في الحصول على الاحترام، مما يجعلها انجازات تحسب لأصحابها وليست انجازات مجتمع ومشاريع نخب، لأن المبدعون والأدباء يهيمن عليهم الخيال والمتعة، وهو أعلى وأقدس ما في الإنسان، وأما الإعلام فهو عملية تقنية بالدرجة الأولي تنطلق من قواعد ثابتة وتسير بمنطق الترويج والإثارة والإقناع والجذب والإبهار، وهي تتعامل مع متغيرات الحياة وتلبي الحاجات الطبيعية والمتجددة يوميا، ولهذا يتطلب الإعلام السرعة والذكاء والانتباه الشديد، أقول هذا لأننا نعيش في عالم تتحكم فيه ثلاث مؤسسات، الأولى هوليود المنتجة للصورة وقيمها الثقافية، وبورصة ولستريت المتحكمة في إدارة حركة المال، والبنتاغون المسيطر على توازنات القوة، ومن هنا نجد أنفسنا بعيدين عن مفهوم الصورة وحجم القوة وتأثير المال. إننا نعيش في أجواء مهمة وفريدة من نوعها في تاريخ الجزائر، من خلال توفر كل الإمكانيات المادية والبشرية من أجل إحداث تغيير حقيقي واستئناف جاد في مسيرة التجربة الإعلامية الجزائرية، فقط لو تمكنا من التوبة من التخلف والتخلص من الذهنيات المريضة. وماذا عن الإعلام الديني في الجزائر الذي تناولت سياقاته وتمظهراته في كتابك "الإعلام الديني/ الخطاب والهوية"، وهنا هل يتقاطع هذا الإعلام مع الخطاب دون إلتباس؟، يكاد الإعلام الديني يكون مغلوطا ومتعثرا من حيث مضموناته وخطاباته، مارأيك؟ محمد بغداد: المسألة الدينية عندنا ما تزال تعيش في خنادق الصراعات على الرأس مال الاجتماعي، وكيفية استثماره في مختلف المساحات الهامشية المتوفرة، ونتعامل معه من هذا المنطلق، ففي سنوات التسعينات عندما عشنا الأزمة الكبرى، انزعجنا كثيرا من مسألة الفتاوى ومن صناعها، وفي نهاية الأزمة عدنا إلى نفس الأشخاص والأسماء، وطلبنا منها فتاوى النجاة، وفجأة انطلق سباق المؤسسات الإعلامية عندنا نحو الاستثمار في المسألة الدينية، بهدف الحصول على الأرباح من وراء التعامل مع الخطاب الديني، فكل جريدة تحرص على الصفحة الدينية، وكل قناة بصرية تقحم المواد الدينية، وكل إذاعة تبرمج الفقرات الدينية، وكأننا شعب يحتاج إلى استهلاك المواد الدينية، فانتقلت المؤسسة الإعلامية إلى مزاحمة المؤسسة الدينية المسجد والزاوية والمجلس الإسلامي وغيرها، والمشكلة في المشهد الإعلامي الديني أن كل مواده مستمدة من خارج المرجعية الثقافية والفقهية الوطنية، وفي كثير من الأحيان تتصادم مع الموروث والمعتمد من المفاهيم الفقهية الجزائرية القائمة منذ قرون، وهي الحالة التي تكشف عن حالة اغتراب غريبة تعيشها النخب الإعلامية، فلحد الآن لا نملك كمجتمع مرجعية فقهية كبقية الشعوب والمجتمعات الأخرى، وإذا تتبعنا القنوات الفضائية الدينية تسيطر على أكثر من أربعة ملايين جزائري الذين يبحثون عن إجابات فقهية من خارج الحدود، وأصبحنا نستورد الفتاوى كما نستورد المواد الغذائية. من جهة ثانية نحن نتجه إلى مرحلة التخصص في التجربة الإعلامية، ونحن بحاجة إلى وعي بما نحتاج إليه وبحاجة أكثر إلى كيفية بناء الرسالة الإعلامية الدينية، ولا تقع في منطق الربحية السريعة، لأن المواد الإعلامية الدينية أكثر استهلاكا، وأن المؤسسات الإعلامية الدينية الأكثر ربحا من مداخيل الإشهار، والاستقطاب والتعبئة الشعبية.