صدق العبودية يقول ابن عطاء الله السكندري:”مطلب العارفين من الله الصدق في العبودية، والقيام بحقوق الربوبية”. مرّت بك الحكمة التي يقول فيها ابن عطاء الله: خير ما تطلبه منه، ما هو طالب منك. وقد علمت مما سبق بيانه أن ماقد طلبه الله من عباده يتلخص بكلمة مجملة جامعة، هي التشبع بحقيقة العبودية لله.. فإذا تبين لك أن ما قد طلبه الله من عباده يتلخص في ضرورة تشبع العبد بهويته ألا وهي عبوديته لله عز وجل، وتذكرت ما قاله ابن عطاء الله من قبل: أن خير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك، فإن بوسعك إذن أن تدرك النتيجة المنطقية لهاتين المقدمتين، وهي هذه الحكمة: مطلب العارفين بالله الصدق في العبودية والقيام بحقوق الربوبية. فكيف يكون الصدق في العبودية؟ وكيف يأتي للإنسان أن يعلن عن عبوديته لله دون أن يكون صادقاً فيها؟. إن كل مسلم صادق في إسلامه، لابدَّ أن يكون موقناً بكونه عبدًا لله. إذ لا يتأتى له أن يعبد الله بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، إلا بعد أن يعلم أنه عبد لله عز وجل، أي إن أداء المسلم للفرائض التي كلفه الله بها في مثل قوله عز وجل: {وما أُمروا إلاَّ لِيعبدُوا اللَّه مُخلصينَ لهُ الدين حُنفاء} (البينة) فرع عن يقينه أنه عبدٌ لله عز وجل. فهذا جامع مشترك بين المسلمين كلهم ما داموا صادقين في إسلامهم. ثم إنهم يتفاوتون في مدى سلطان هذه العبودية عليهم، وفي مدى قيامهم بحقوقها،حسب ما يتفاوتون به، من شهودهم لله، ومن مدى حضور صفات الله تعالى في أفكارهم ومدى تجلياتها على قلوبهم. فأقل هذه المراتب أن لا يشرك المسلم بعبادة ربه أحداً، بأن يتنزه عن الشرك الظاهر المتمثل في اتخاذ شريك أو شركاء مع الله، وبأن يتنزه عن الشرك الباطن بأن يتجنب الرياء ويجعل عمله خالصاً لله. وأعلى هذه المراتب أن لا يقصد المسلم من عباداته إلا أداء حق العبودية لله في عنقه، دون أن يطمع في أجر ما عليها، إذ الأجير إنما يستحسن أجره على العمل.. فلولا الارتباط بالأجر لما وجد الأجير ما يدعوه إلى النهوض بعمل ما لإنسان مثله ليس له أي سلطان ذاتي عليه. والعمل الذي يؤديه العبد للرب أبعد ما يكون عن الدخول في هذا النوع المألوف من أعراف الاستئجار، وقوانينها بين الناس بعضهم مع بعض. إذ العبد مملوك لله عز وجل ومملوكيته له تستدعي أن يكون قائماً بأمره خاضعاً لحكمه، وليس للمملوك أن يطالب مالكه على خدماته له بأي أجر مما من شأن الناس أن يتعاقدوا فيما بينهم عليه. ورحم الله من قال: ”العبد وما ملكت يداه ملك لسيده”. فهذا هو مراد ابن عطاء الله بصدق العبودية. فالذي يطيع الله بدافعين اثنين: أداء حق الربوبية،والوصول إلى المبتغيات والحظوظ النفسية،لا تخلو عبادته من شائبة شرك. ومن ثم فهو لم يرتق بعد إلى المقام الذي يعبر عنه قول الله تعالى: {وما أُمرواُ إلاَّ ليعبدوا اللهَ مُخلصينَ له الدِّين..} وقوله تعالى:{..ولا يشرك في حكمه أحداً}. ولا يوهمنك هذا الذي أقول، وقاله قبلي سائر العارفين والعلماء الربانيين، أن مقتضى عبودية الإنسان لله أن لا يطلب منه جنة ولا يستعيذ به من نار. إن العبد فقير دائما إلى مولاه، ومن ثم فشأنه الطلب والاستجداء، لا سيما عندما يعلم الكثير من كرم مولاه وجوده وواسع منه وفضله. ولكنَ العبد إذ يطلب ويستجدي، إنما يجعل من فاقته فقط شفيعاً بين يدي استجدائه، وهو مهما سعى في خدمة مولاه وإنجاز أوامره، لا يرى أنه أدى شيئاً من حقوقه المترتبة عليه، فكيف يطالبه بالأجر على ما هو حق لمولاه وليس حقاً له؟.. فهو إذ يطلب، إنما يطلب منه استجداء،واسترحاماً بين يدي فاقته وحاجته، لا أجراً على حق ثبت له.. تعالى اله عن ذلك علواً كبيراً. وقصارى ما تطمح إليه أنظار العارفين وهممهم، أن يقدرهم الله على ممارسة عبوديتهم لذاته العلية، بصدق، أي خالصة من شوائب الشرك بأنواعه كلها، ما خفي منها وما ظهر. والدعاء المتجه إلى الله بهذا الطلب ينبني عن أمرين اثنين: = الأمر الأول: أن هؤلاء العارفين لا يرون لأنفسهم حقاً في الطمع بشيء مما وعد الله به عباده الصالحين،من نعيم الآخرة جزاءً على أعمالهم.لأنه مهما أجهدوا أنفسهم في أداء الطاعات والقيام بالواجبات، فالفضل فيه لمولاهم الذي وفقهم لذلك، فالمنّة في أدائها إنما هي لله في أعناقهم، إن الذي يستحق الأجر إذن عليها إنما هو الله الذ حببها إليهم وأعانهم عليها.. واعلم بأن يقين المسلم بأن هذه هي حاله مع ربه، هي العبودية الكاملة التي ينبغي أن يشدّ كل مسلم نفسه لبلوغ مرقاتها. = الأمر الثاني: أن الدعاء المتجه إلى الله بهذا الطلب، تعبير عن عجز الداعي عن المثول بين يدي الله في محراب هذه العبودية الصادقة والخالصة عن الشوائب، وهذا هو المطلوب من العبد في كل الأحوال.. فهو لاشيء إن انفك عن حول الله وقوته، فأنى له إذن ان يدَّعي لنفسه القدرة على أن لا يبتغي بعبادته لله إلاَ أداء حق الله في عنقه وأداء ضريبة العبودية له في كيانه؟.. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)