يقول ابن عطاء الله السكندري: ”طَلَبُكَ مِنْهُ اتَّهامٌ لَهْ. وَطَلَبُكَ لَهُ غَيْبَةٌ مَنْكَ عَنْهُ،وطَلَبُكَ لِغَيْرِه لِقِلَّةِ حيائِكَ مِنْه، وطَلبُكَ من غيره لوُجودِ بُعدِك عنه” (الحلقة2). في الفقرة الثانية من الحكمة يقول ابن عطاء الله السكندري: ”وطلبك له غيبة منك عنه”. فمتى كان الله غائبا حتى يُطْلب أي حتى يبحث عنه؟!!..وتأمَّل في دقة التعبير غيبة مِنْك عَنْه، إنه يقول لك عندما تجد نفسك في حالة تحتاج فيها إلى البحث عن الله، فاعلم بأنه ليس غائبا عنك وراء حِجَابٍ قد حَجَبهُ عنك، ولكن أنت الغائب عنه داخل سجنٍ من الجهالةِ أقصاك عنهُ. أما في الفقرة الثالثة فيقول فيها ابن عطاء الله: ”وطَلَبُك لغيره لقلَّةِ حيائك منه”. الغير هنا تشمل الأشخاص التي يُتَّوهم أن لها فاعلية مع الله أو من دون الله، كما تشمل الأغراض والمُتع التي يبتغيها ويَتعلَّق بها الإنسان من دون الله عز وجل. فمن تأمل هذه المكوَّنات وعظيم إبداعها ورائع نظامها، ودقائق أهدافها،ثم ابتغى لها خالقًا ومنظَّما من دون الله عز وجل، فقد بالغ في جرأته على الله وعدم الاستحياء منه. ولا يشترط في ابتغاء هذا المسلك أن يذهب مذهب الملاحدة فحتى من يضيف الغذاء إلى فاعلية القوت والنبات، والسحب والأمطار، موقنا أن لتلك الأسباب الظاهرة فاعلية حقيقية طبيعية فقد طلب من غيره ما لا يملكه. فيجب أخي القارئ أن تعلم أن ما نظنه أسبابا، في نظام هذه المكوَّنات إنما هو اقتران شاءه الله بين سابق ولاحق، استمرت وتككرت فتبدّى لنا من خلال ذلك التكرار المستمر أن السابق منها سببٌ والمتأخر منها مسبَّبٌ. إذ أن الأمر كله لله ومن تجاهل هذه الحقيقة،وابتغى مُسَبِّبا غير الله، معه أو من دونه، إنما هو من جرأته عليه وقلة حيائه منه. والذي يقوم بما افترضه الله عليه، ليس إلا طلبا للنعيم وفرارًا من العقاب، بحيث لو لم يكن ذلك لما قدَّم له تعالى جل شأنه شيئا، فاعلم أن هذا دليل أيضا على قلة حيائه من الله عز وجل، بل هو دليل على جرأته عليه!.. ولكن إياك أن تفهم هذا الكلام الواضح الذي لا يمتري فيه عاقل آمن بعبوديته لله وبربوبيته له تعالى، على غرار بعض الأغبياء المُتَغابين، فتظن أن المطلوب من العبد المؤمن أن لا يطلب الجنة وأن لا يستجير من النيران. لقد أطْمَعَنا الله بجنته، إذن يجب علينا أن نطمع فيها ونسأله باستمرار أن يمتن بها علينا وهذا من كمال عبودية الإنسان لله.. ولقد حذرنا وخوَّفنا من ناره، إذن يجب علينا أن نستشعر الخوف الحقيقي منها و أن نستعيذ بالله منها، وهذا أيضا من كمال عبودية الإنسان له عزوجل. ولكن في كلتا الحالتين يجب أن تجعل عبادتك لذاته العلية، لأنَّه ربك ولأنَّك عبده، وهذا معنى قوله عز وجل: وما أُمِرُوا إِلاّ ليَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة)، فإنما أنت في كل الحالات عبده، وهو في كل الحالات ربُك لا ربَّ لك سواه. لك أن تطلب منه العطايا والمغفرة لكن ليس لك قط أن تجعل التزامك لأوامره مشروطا بما تطلبه من عطاياه. فالعبد لا يملك أن يشترط على ربه شيئا. حتى الأعمال الصالحة التي أمرت بها ليست شرطا حقيقيا لدخولك الجنة ففي الأول والأخير هي تفضل منه عليك.ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لن يُدخِل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال:ولا أنا.إلا أن يَتَغمدني الله برحمته”. ويختم ابن عطاء الله هذه الحكمة بقوله: وطلبك من غيره لوجود بُعدك عنه. فإذا كانت لك حاجةٌ فمن المفروض أن تطلبها من الله عز وجل لأنه هو وحده الذي يملك تحقيقها فإن تحولت عنه وطلبتها من غيره، فإن ذلك بسبب بعدك عنه سبحانه، وليس المراد هنا البعد المكاني الذي تحدُّه المسافات، وإنَّما المراد الجهل به أو النسيان له. وليس معنى الطلب عدم التوجه إلى الأسباب والمسببات فالمقصود إنما هو توجه القلب والعقل إلى ما سوى الله باعتقاد أن له أثر أو فاعلية من دون الله عز وجل. إذ أن كل ما في الوجود جنود له جلَّ شأنه. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)