ينتابك نوع من الرهبة والخوف بمجرد دخولك إلى المكان.. نعم... هنا يرقد الموتى وهنا تنتهي الحياة، بل هنا تبدأ بالتفكير في أعمالك التي قدمتها وتعيد حساباتك، لأن الإحساس بمجيء اليوم الذي تكون مكبلا في كفنك أمر مرعب للغاية، إنها ”مصلحة حفظ الجثث” بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، لمن يريد أن يزورها للاتعاظ ومشاهدة الموتى على المباشر بدل زيارة المقابر... فكرة راودتنا بمجرد حديثنا مع إحدى المتطوعات التي وهبت حياتها خدمة للأموات طمعا في الثواب.. ”خالتي حورية” سيدة في الخمسين اختارت خدمة الموتى.. الوحدة خلقت منها امرأة حديدية تجابه المصاعب ولا تخشى الموت، فأخذت على عاتقها سبيلا لرعاية الموتى لا تبالي لما قد تحمله تلك الأموات من خوف أو لغز يتوه فيه الإنسان لمعرفة شفراته، هل حب التمسك بالحياة أو ملاقاة رب العرش العظيم أو طموح وأمان كان يطمح لتحقيقها... لتجلس خالتي حورية في غرفة التبريد لترعى الموتى حيث تطوعت لغسل أولئك الذين فقدوا حياتهم سواء لمرض عضال أو لحادث أليم، لتتكفل بغسلهم لنيل الثواب، فكانت قصتها مع تلك المرأة التي توفيت على طاولة الولادة، حيث تعرضت لنزيف دموي فارقت على إثره الحياة تاركة وراءها طفلين، أثرت فيها كثيرا خاصة وأن النور الذي وهبها الله على وجهها جعلها كالملاك الساحر، على حسب رواية خالتي حورية، وكأن وجهها فرح للقاء ربه، تقول محدثتنا، فقمت بغسلها وتكفينها استعدادا للدخول إلى غرفة التبريد، خاصة وأن أهل الفقيدة يعيشون في ولاية سوق أهراس، فكانت الفرصة لأخذ ”الحسنة” كما أقوم، تضيف خالتي حورية، بغسل الأشخاص الذين عثروا عليهم أشلاء جراء حادث مرور ولم يجدوا من يغسلهم لصعوبة رؤيتهم. ونبهت محدثتنا أنها تقوم بغسل السيدات فقط والأطفال، وهي خدمة تطوعية تقوم بها منذ 5 سنواتم، أي منذ أن قرر أولادها مغادرة الجزائر والمكوث في ديار الغربة، فالإحساس بالوحدة جعلها تعتكفأ امام الموتى ومصاحبتهم قبل الدخول إلى قبورهم وهنا ”الشعور بالوحدة القاتل في جو وحشة القبر”. ومن بين اللحظات المثيرة التي عاشتها هذه السيدة، حين قامت إحدى الجثث من موتها متجهة نحوها، وهو الأمر الذي أدخلها في خوف مريب، فكيف للميت أن يبعث من جديد، واتضح من بعد أن تلك السيدة كانت قد ماتت إكلينيكيا فقط وأفاقت بمجرد أن عادت إليها نبضات قلبها، ومن غير ذلك تقول خالتي حورية الموتى كلهم سواسية لا تسمع لهم ”حسا” ولا صوتا، بل نائمون في سبات عميق. وما يثير الإحساس عندما يأتي أحد أقارب الموتى للتعرف عليهم، لتبدأ حينها الصراخ والبكاء غير المنقطع، خاصة ما حدث مع ولي أحد الشباب الذي جاء إلى المصلحة لمشاهدة ابنه، إلا أنه بمجرد إخراج الجثة حتى وقع الأب مغمى عليه من شدة الصدمة، وهي اللحظات التي تكون أكثر تأثيرا في حياتي العملية والتي لا أطمح من ورائها الكسب المادي أكثر منه كسب الثواب.