أطباء يمتنعون عن أكل اللحوم و آخرون لا يطيقون رؤية الدم حتى في عيد الأضحى لطالما ارتبطت مصالح الطب الشرعي بالنسبة للكثيرين بتشريح الجثث و صور كأنها مستنسخة من أفلام الرعب و «سوسبانس» للمخرج ألفريد هيتشكوك لكن سيان بين ما يمكن أن نتخيل أو نتصور و الواقع الذي عشناه ليوم كامل مع الطاقم الطبي و شبه الطبي بمختلف أقسام مصلحة الطب الشرعي بالمستشفى الجامعي بن باديس بقسنطينة التي كانت سباقة لاستخدام علم الوراثة في الطب الشرعي ببلادنا من أجل رصد الأدلة الجنائية و الكشف عن الجرائم المعقدة و ذلك منذ سنة 2004. روبورتاج :إلهام.ط * تصوير: الشريف قليب و تتكفل هذه المصلحة سنويا بإجراء حوالى 250 عملية تشريح للجثث و معاينة أكثر من 180 حالة وفاة و فحص و تقييم الأضرار و تقدير العجز بالنسبة ل 10000 حالة من ضحايا الاعتداءات الجنسية و الضرب و الجرح و الحوادث المختلفة في المتوسط. و بالتالي فان الفريق الطبي يتكفل بالأحياء من المساجين و الطلقاء و الموتى في نفس الوقت و يعد التقارير و الشهادات الطبية الشرعية لكي يساعد كل فئة على استرجاع حقوقها و يميط اللثام عن الحقائق الكامنة وراء الحوادث أو الاعتداءات التي تعرضت لها ناهيك عن رصد الأدلة الطبية و العلمية التي تثبت تورط أحد أو مجموعة من المشتبه بهم في اقتراف الجرائم المختلفة . و يبقى المرور من هذا المكان الضيق و الكئيب ضروريا لبزوغ شموس الحقيقة و نصرة المظلومين و لا يهم أن يكون الضحايا على قيد الحياة أو موتى تعفنت جثثهم و التهمت الديدان أجزاءا منها، فالطاقم الطبي بالمصلحة مطالب بتقديم تقارير كاملة ودقيقة حول هذه الحالات حالة بحالة. و لم يخف بعض هؤلاء الأطباء تأثرهم الشديد بضحايا أبرياء قاموا بتشريح جثثهم، فامتنعوا عن تناول كل أصناف اللحوم لفترة طويلة أو تهاطلت دموع الرحمة و الحسرة من عيونهم و هم يمسكون بالمبضع و حتى عندما يفجر أصدقاء و أقارب الراحلين حزنهم صراخا و لوما و تكسيرا لزجاج نوافذ أو أبواب المصلحة لا يملكون سوى مواساتهم أو الصمت و الكبت و التفهم. و أجمل ذكرى يحتفظ بها أحد أعضاء هذا الفريق الطبي هي اكتشافه بأن مولودا جديدا تم نقله الى المصلحة مع مجموعة من جثث مواليد آخرين توفوا بمصلحة التوليد و أمراض النساء عاد قلبه للنبض و تحرك داخل الكفن. أغلب ضحايا الضرب و الجرح العمدي شابات و شبان في العشرينات «النصر»ارتأت ألا تطل على عالم الأموات المتواجدين بالمشرحة أو غرف حفظ الجثث، قبل أن تلقي نظرة أولى و لو سريعة على وحدة المعاينات الطبية الشرعية الاستعجالية في الطابق العلوي من هذه المصلحة التي تقع قبالة البوابة الرئيسية للمؤسسة الاستشفائية و تحتضنها منذ الثمانينات بناية قديمة تعتبر ضيقة جدا مقارنة بالمهام الطبية الشرعية و أيضا التكوينية و التعليمية للأطباء الطلبة الذين يدرسون هذا التخصص. هناك في رواق ضيق وضعت مقاعد غير مريحة ليجلس عليها حوالى 20 شخصا من ضحايا حوادث المرور و الاعتداءات ينتمون إلى مختلف الشرائح العمرية خاصة من فئات الشباب، في انتظار أدوارهم لدخول قاعات الكشف و المعاينة المقابلة للبهو. بعضهم حضروا بناء على تسخيرات قضائية و البعض الآخر وجههم أطباء آخرون إلى الوحدة من أجل الحصول على شهادات لتقييم إصاباتهم و عجزهم معترف بها في الجهات القضائية. يحدث هذا في انتظار اتخاذهم لقرار استخدامها لدى رفع شكاوى ضد المعتدين أو المشتبه بهم أو حفظها خشية المزيد من المشاكل و الفضائح أو لاستخدامها كأوراق ضغط و مساومة عند اللزوم، خاصة إذا تعلق الأمر بالنزاعات الزوجية و العائلية عموما.و لا يمكن إلا أن نرصد ارتفاعا ملموسا منذ الساعة التاسعة تقريبا، أي منذ حضور الأطباء المكلفين بهذه المعاينات، في عدد النساء و الفتيات من ضحايا الضرب و الجرح العمدي من بينهن طالبة جامعية تبدو من لهجتها بأنها من منطقة مجاورة لقسنطينة و تقيم بحي جامعي كانت تتناقش بانفعال شديد مع رفيقتيها حول ظروف تعرضها للاعتداء الجسدي و اصرارها على عدم التنازل عن حقها في المتابعة القضائية للمعتدين. و لفتت انتباهنا سيدة شابة في العشرينات من العمر تقريبا تبدو على وجهها آثار لكم و لطم و ضرب و كدمات و تلف ذراعها ضمادات و هي ترتدي قميص نوم قطني و سترة صوفية لا يمكن أن تحميها من برد و صقيع تلك الصبيحة الشتوية القاسية. كانت تنتظر دورها رفقة شاب و هي صامتة تخونها من حين لآخر دموع و رعشات ألم و ندم تهز جسدها النحيل. و غير بعيد منها جلس شاب آخر في العشرين أو أقل و هو يئن و يتكيء على كتف رفيقه تارة و على عصا خشبية تارة أخرى و يحاول مواراة وجهه المليء بالجروح و آثار الدماء عن الأنظار،لكن كيف يخفي الجبس الذي يلف ساقه و ذراعه؟ و كان منظر شاب آخر جد مروع و هو يلف وجهه و أطرافه و صدره بضمادات سميكة مليئة بآثار الدماء و شاهدنا ضابطة شرطة بالزي المدني و هي تستند على سيدة شابة كانت تصطحبها و تمشي بصعوبة باتجاه إحدى قاعات الفحص لقد كان الجبس يلف ساقها. و في أقصى الرواق انهمكت ثلاث شابات في سرد معاناتهن من ضرب أزواجهن المبرح و المستمر بأصوات مرتفعة غير مباليات ببقية المرضى و توعدت إحداهن برفع قضية ضد الزوج العنيف لأنه تسبب لها في عاهة مستديمة هذه المرة لمجرد أنها واجهته بخيانته لها مع جارتها.و اعترفت أخرى بأنها ستفكر قبل أن تقرر لأنها أم لأربعة أطفال و يتيمة الأبوين. حكايات موجعة جدا،جعلتنا نغادر المكان باتجاه مكتب رئيس أطباء المصلحة الذي وعدنا باكتشاف الوجه الآخر لعملية التشخيص و الكشف عن الحقائق و العلاج لكن دون المرور على وحدة التكفل بالمساجين المتاخمة . مصلحة جديدة لضحايا الاعتداءات الجنسية في ظل تزايد حالات الاعتداءات الجنسية التي يتم توجيهها إلى المصلحة حيث بلغ عددها في سنة 2011 حوالى 354 حالة من الجنسين تتعلق نسبة معتبرة منها بأطفال قصر تم مؤخرا تخصيص قاعة بالطابق الأرضي من المصلحة لضمان معاينة هؤلاء الضحايا طيلة ساعات الليل و النهار و في أيام العطل وذلك كما أوضح رئيس أطباء المصلحة البروفيسور عبد العزيز بن حركات من أجل الإسراع في إجراء الفحوصات اللازمة و ضمان فعاليتها في التعرف على المعتدين الحقيقيين بين مجموعة من المشتبه بهم و تقديم العلاج المناسب للضحايا. فكلما كان التكفل الطبي الشرعي أسرع تم رصد الأدلة و آثار الجريمة في الملابس و الجسم بشكل أكثر فعالية و أمكن تجنب حمل ضحايا الاغتصاب من الفتيات و العواقب الوخيمة لذلك و في نفس و في نفس الوقت يستطيع الأطباء تشخيص و علاج حاملي فيروسات الأمراض المتنقلة عن طريق العلاقات الجنسية مثل فيروس نقص المناعة المكتسبة “السيدا"و التهاب الكبد الفيروسي ناهيك عن الأمراض المعدية الأخرى مثل السل الرئوي و ذلك قبل أن تتطور إلى أمراض فتاكة. و أشار إلى أهمية القاعة من الناحية الاجتماعية فبدل أن يضطر رجال الشرطة و الدرك إلى الإبقاء على الضحايا في مقراتهم إلى حين حلول مواعيد الفحص العادية و ما ينجم عن ذلك من احراج و ضغط و توتر يمكنهم توجيههم إلى القاعة في أي وقت ليتم التكفل الإستعجالي بهم في أحسن الظروف و أعربت لنا ضابطة شرطة عن ارتياحها الشديد لهذا الاجراء الذي يسهل مهمتها كثيرا. مواجهة الموت مباشرة من المشرحة و قاعة حفظ الجثث قبل أن نستجمع شجاعتنا لدخول قاعة التشريح التي طالما صورتها الأفلام و الأشرطة و الحكايات على أنها قاعات جزارة مليئة بالدماء و أشلاء و أحشاء الجثث و الديدان تنبعث منها روائح التحلل و التعفن التي لا تحتمل،سألنا مجموعة من أقدم أعضاء الطاقم الطبي عن مشاعرهم و هم يواجهون الموت هكذا على المباشر يوميا. البروفيسور بن حركات الذي بدأ ممارسة التشريح بعد تخرجه في سنة1981 من فرنسا و يعتبر أقدم أطباء المصلحة و أكثرهم خبرة و بالتالي هو الذي أشرف و لا يزال يشرف على تكوين الجميع، قال بأنه اختار هذا التخصص عن حب و اقتناع و من هذا المنطلق يمارس مهامه بشكل عادي كأي طبيب في تخصصات أخرى لكن بمجرد الخروج من المصلحة يصبح مواطنا و رب أسرة عادي قد لا يطيق مشاهدة الدم في مكان آخر و لو تعلق الأمر بنحر الكبش في عيد الأضحى. و قال البروفيسور عبد الحميد بلوم من جهته، بأنه يمارس عمله كطبيب على أحسن وجه و هذا هو المهم و يعتبر اكتشافه في إحدى المرات بأن مولودا أحضر من مصلحة التوليد على أنه ميت لم يمت في الواقع و لا يزال يتحرك أسعد ذكرى بمساره . و اعترف الدكتور تيجاني بأنه في بداية حياته المهنية كان ينظر إلى نفسه وهو يدخل قاعة التشريح و كأنه جلاد يهم بتنفيذ حكم بالإعدام على سجين.و ما أقسى هذا الاحساس قال محدثنا لكنه بدأ يحلل و يشرح هذا الاحساس بمبضع الطبيب الشرعي فاستخلص بأن الجلاد مرغم بحكم عمله على القيام بمهمة كلف بها و هو أيضا مكلف أيضا بمساعدة العدالة على الاقتصاص من الجاني و منح الفقيد حقه المسلوب. طبيبة هشة مثل الكريستال لكنها تفك ألغاز الجرائم و قالت البروفيسور زهرة بوذراع بأنها في الواقع حساسة و شفافة و هشة مثل الكريستال لكنها ولوعة منذ الصغر بفك ألغاز الجرائم و وضع ذكائها و قدراتها العقلية على محك التحديات و الصعوبات و قد وجدت ضالتها في ممارسة مهنة تزداد تعلقا بها يوما بعد يوم خاصة و أنها تسعى من خلالها لمساعدة الناس و لو بعد موتهم على استرجاع حقوقهم. و اعترفت من جهة أخرى بأنها و في أحيان كثيرة تنهمر دموعها و هي تمارس عملها بقاعة التشريح من شدة التأثر و قد تنقطع عن تناول كل أصناف اللحوم اذا صادف و أن شرحت الكثير من الجثث أثناء مناوبتها و لن تنسى أول جثة همت بتشريحها في 1990 و عندما قلبتها تجشأت فلاذت زميلتها بالفرار. أما هي فتحدت خوفها وفكرت بسرعة في التفسير العلمي لما حدث و تأكدت بأنه مفعول الغازات التي بقيت داخل أحشاء الجثة.و أضافت بأنها جد سعيدة لأن الكثير من الطلبة الذين يتابعون تكوينهم في هذا التخصص من الجنس اللطيف. و حانت اللحظة الحاسمة التي طالما خشيناها لقد دخلنا إلى قاعة التشريح الواسعة ذات التجهيزات الخاصة فلفتت انتباهننا طاولتان من مادة الألمنيوم إحداها وضعت فوقها جثة هامدة مغطاة بشرشف أبيض و كان البروفيسور بن حركات يرتدي زي التشريح الأخضر و يهم بممارسة عمله،لقد وضعت أمامه أدوات معقمة عديدة و غير بعيد منه لمحنا ميزانا لوزن الأحشاء و جهاز كشف بالأشعة و تجهيزات أخرى لم نتمكن من التعرف على أبعاد استعمالها من فرط الدهشة. و رسخ في أذهاننا طغيان اللون الأبيض على كل الأدوات و المعدات و طلاء الجدران و غطاء الجثة و كذا روائح مزيلات الروائح و مواد التنظيف التي يبدو أنها استعملت بشكل مبالغ فيه ل"تمتص" روائح الجثث. لدى مغادرتنا للمكان صادفنا بالرواق شابا في العشرينات مكبلا رفقة شرطي بالزي المدني و علمنا بأنه مشتبه به بارتكاب جريمة قتل بحي عوينة الفول الشعبي و قد تم احضاره إلى قاعة متخصصة قرب المشرحة من أجل الخضوع لفحوص الحمض النووي “آ.دي.آن “عن طريق أخذ عينات من دمه و لعابه و شعر حاجبيه،و بعد مقارنة النتائج مع العينات العالقة بجثة الفقيد يتم التأكد من هوية القاتل الحقيقي.فاستعمال علم الوراثة و الجينات في الطب الشرعي يفك بشكل دقيق خيوط الكثير من الجرائم المعقدة و لا يستعمل فقط لإثبات النسب كما يعتقد الكثيرون. و قد تفوقت المصلحة في هذا المجال لأنها كانت سباقة إليه على الصعيد الوطني، كما شرح رئيس الأطباء الذي يفتخر بفكه لخيوط أول جريمة بالاعتماد على علم الوراثة و يتعلق الأمر بقتل شاب لقريبه بطريق عين السمارة في سنة 2004 و تمويه القاتل لفعلته لتبدو كحادث مرور المرحلة التالية في زيارة النصر للمصلحة، كانت باتجاه قاعات حفظ الجثث التي تضم 26 درجا مهيئا لاحتضان الراحلين الذين وافتهم المنية بمختلف مصالح المستشفى و ضحايا الحوادث و الجرائم .و أشار البروفيسور بن حركات بأن الهيكل العظمي الذي تم العثور عليه قبل أسابيع قبالة ثانوية رضا حوحو لا يزال رهين أحد تلك الأدراج لأن لا أحد تعرف على هويته.و هو و طاقمه في انتظار تسخيرة قضائية لتشريحه و تحديد جنس صاحبه أو صاحبته و سنه و أسباب الوفاة، نافيا ما نشرته وسائل الاعلام من سيناريوهات حول كون الهيكل لفتاة يرجح أنها قتلت. و شدد بأن فريقه الطبي يستفيد من التكوين المستمر و يتعاون من أجل انجاز مجموعة من الدراسات و الأبحاث الميدانية لمواصلة تطوير هذا التخصص. عندما سألنا عمي مولود العامل بالمصلحة منذ 26 عاما،عن انطباعه وهو يعمل ليلا ونهارا وسط هذا الجو الجنائزي، رد بأنه تعود عليه و لم يعد يزعجه بينما قال زميله بأنه لا يستطيع النظر إلى وجوه الموتى و تحاصره الكوابيس كل ليلة. و أثناء تواجدنا هناك حضرت إلى المغسل سيدتان و الدموع تغطي ملامحهما لحضور عملية غسل و تجهيز قريبتهما التي توفيت بمصلحة التوليد بعد أيام من وضع مولودها.و المؤسف أن المصلحة الضيقة و القديمة لا تضم مكانا ليجلس فيه أقارب الراحلين أو أشخاصا يتكفلون بكافة المراسيم الجنائزية.لكن البروفيسور بن حركات يعود بذاكرته إلى الوراء فقد كانت انطلاقته في هذا التخصص من مكتب صغير بمصلحة الاستعجالات الجراحية و هو يشرف الآن على مصلحة تعمل وفق المعايير الدولية و قد حصلت على دعم يقدر ب 8 ملايير في 2008 من وزارة الصحة من أجل ترميمها و تهيئتها و توسيعها لكن العملية تأخرت لأسباب ادارية و يتوقع أن تنطلق الأشغال قريبا.