ثلاجات البشر.. هنا يرقد الموتى طريقة وحشية لغسل المجهولين والبيروقراطية تطال الجزائريين بعد موتهم شعور مخيف ينتابك وأنت تقترب من هذا المكان، صمت مريب يحيط بك، لا يقطعه سوى دخول أو خروج سيارات الإسعاف، النباتات والأشجار الخضراء المحيطة بالبناية توحي بالحياة، لكن أنفك لا يلتقط سوى رائحة الموت التي تنبعث من المكان، منظر رهيب يواجهك لدى دخولك إلى مصلحة حفظ الجثث بأحد مستشفيات العاصمة، التي تخفي وراءها حياة أخرى مرتبطة بالموت وبالعالم الآخر، ويزيدك رهبة عندما تقف في قاعة تغسيل الموتى، وهذا ليس كل شيء... الساعة كانت تشير إلى الثالثة بعد الزوال عندما وصلنا إلى المكان، أمام البوابة الرئيسة للمصلحة، كانت هناك جماعات متفرقة من المواطنين، لا يوحد بينهم سوى علامات الحزن البادية على وجوههم، بعضهم كان يتكئ على الجدار المحيط بالبناية، مطأطَأَ الرأس، يذرف الدموع في صمت، والبعض الآخر ينتقل بين أروقة المصلحة وإدارة المستشفى، لاستكمال الوثائق المطلوبة لاستلام جثامين ذويهم لدفنهم. وكما قيل: "لقاء الصدفة خيرٌ من ألف ميعاد" فتواجدنا هناك، تزامن مع وجود إحدى العائلات التي بدت عليها ملامح الحزن الممزوجة بالغضب الشديد على الإجراءات البيروقراطية التي أثقلت كاهلهم لاستلام ذويهم، خاصة أنها تقطن على بعد 600 كلم غرب العاصمة، حيث قال أحد أفراد العائلة الذي كان يضم يديه إلى صدره بحركات متوالية، ويتحرك جيئة وذهابا، متحسرا على فقدان والده إنهم يقبعون في المكان منذ الساعة الخامسة صباحا، لكن عملية استخراج الوثائق والإجراءات المطلوبة جعلتهم يركنون هناك لأكثر من 12 ساعة. طريقة وحشية لغسل الموتى المجهولين ألقينا نظرة خاطفة داخل القاعة المتخصصة "لتغسيل الموتى"، والتي كانت تتوسطها حمالة موتى مهترئة، تآكل هيكلها بفعل الصدأ، فلم نتحمل تلك الرائحة المنبعثة من القاعة، والممزوجة بالكافور وبعض الروائح الكريهة، وبينما كنا نراقب المكان لأكثر من نصف ساعة، أين لاحظنا تحول المكان إلى سرداب يمكن أن يدخله كل من هب ودب، دخل الغسّالون يحملون بين أيديهم جثة شخص يبدو أنه مجهول الهوية حسب المعلومات التي استقيناها هناك من طرف أحد العاملين المكلفين بمصلحة حفظ الجثث، التي توجد بمحاذاة غرفة تغسيل الموتى. بطبيعة الحال فإن الدخول إلى المكان "ممنوع"، لكن لحسن حظنا فإن تتبع خطوات "غسل الميت" عبر شق الباب الذي لم يتم غلقه بإحكام، كان سهلا لنقل مارأيناه، مشهد تهتز له القلوب وتندمل له العين، فأحد المغسلين قام بنزع الغطاء الأبيض عن الجثة، ثم مزق الثياب التي كانت على جسمه، فيما أخذ الغسال الثاني وعاءً كبيرا من الماء ليصبه دفعة واحدة على الميت، دون أن يتتبع خطوات السنة في تغسيل الموتى، ليتم تكفينه في قماش أبيض، ثم إخراجه بكل برودة أعصاب. لم نصدق مارأيناه، دهشة كبيرة وقفنا عليها وزادته الفوضى العارمة التي تعتري المكان، أفرشة وأغطية متراكمة بعضها البعض، ومركونة في إحدى زوايا القاعة، رائحة نتنة تنبعث من المكان تجعلك تشعر بالغثيان. ودون أن نكشف عن هويتنا، تحدثنا إلى أحد المغسلين عن الطريقة التي تستعمل "لتغسيل الموتى" بهده الوحشية، فرد علينا قائلا: "كل الجثث المجهولة الهوية يتم تغسيلها بهذه الطريقة، لعدم وجود أي من أفراد العائلة الذين يقومون بالمراقبة العلمية"، ويضيف قائلا: "الأموات الذين تعرضوا لحوادث مرور خطيرة، أو انفجارات أو أي قتل بطريقة بشعة وتتعرض أجسادهم لتشوهات رهيبة، وفي بعض الأحيان تتعرى أجسادهم من اللحم حتى تنكشف العظام، إلى درجة الخوف من منظرها، ويصعب تغسيلهم بطريقة شرعية، مؤكدا أن مغسلي الموتى يتلقون صعوبات وضغوطا نفسية داخل وخارج العمل، إلى درجة نفور الناس ممن يمتهن مهنة "تغسيل الموتى" وحتى أن البعض منا لا يجد امرأة ترتبط به كزوجة إلا من رحم ربي، وكلها تأثيرات خطيرة تنعكس على الميت". كما يضيف محدثنا "أن هذا ليس كل شيء بالنسبة للجثة المجهولة، فبعض الممرضات وعاملات النظافة في هذا المستشفى يقمن بسرقة أعضاء الموتى، أو المياه التي يتم تغسيلهم بهاواستعمالها في أعمال الشعوذة والعياذ بالله أو بعض الأمراض المستعصية، التي يقولون عنها إنه يتم علاجها بهذه الأمور. وقبل أن نترك المكان، حاولنا بمساعدة أحد العاملين بالمصلحة إلقاء نظرة على مستودع الموتى إن صح التعبير، حيث ما إن يفتح لك الباب المؤدي إلى إليه حتى ينتابك شعور بالخوف، وتسري في جسدك قشعريرة باردة، ليس بسبب انخفاض درجات الحرارة هناك، ولكن لإحساسك بأنك انتقلت من عالم الأحياء إلى آخر خاص بالأموات، لأشخاص لقوا حتفهم في ظروف غامضة، وآخرين قضوا جراء الاختناق بالغازأو بفعل حوادث السير، أو تسببت حوادث الشغل في وفاتهم،أو انتحروا.. فالأسباب تعددت، لكنهم كلهم راقدون هناك في سبات عميق، داخل ثلاجات "بشرية"، يثير أزيزها المزعج الخوف في نفس كل من يسمعه. غادرنا المصلحة ومن ثم المستشفى، وفي ذاكرتنا صورة هؤلاء الموتى، وخاصة الشاب الذي تم غسله بطريقة يمكن أن نقول عليها إنها "وحشية"، داعين الله ألا ندخلها حتى وإن كنا من الموتى.