نشرع ابتداء من هذا الأربعاء في إفادة قراءة الفجر، بتعريف مختصر للمناضل عبد الحميد مهري الذي افتقدته الجزائر والساحة السياسية بوجه خاص في 30 يناير 2012، وقد اعتمدنا في هذا التعريف الذي يمتد إلى غاية استعادة الإستقلال على تصريحات الفقيد التي خص بها الكاتب، أو أدلى بها في حضوره، فضلا عن الإستعانة ببعض أقاربه وزملائه، ونخص بالذكر منهم: الكاتب الشاعر والدبلوماسي عبد الرحمن بالعقون، صهر العائلة وصديق شقيقه الأكبر الشيخ مولود وأستاذه كذلك، وقد تناول علاقته بعائلة الشيخ عمار مهري في مذكراته وكذلك في الجزءين الأول والثاني من كتابه الكفاح القومي والسياسي. زميله في الدراسة والنضال محمد الصالح رحاب الناشر المعروف وقد ضمنا هذا التعريف المختصر حلقات مجهولة، من مسيرة هذا المناضل المثالي، ومواقفه السياسية الجريئة، فضلا عن إضافاته القيمة التي تسلط أضواء كاشفة، على العديد من نقاط الظل والأحداث المفصلية، سواء أثناء فترة الإعداد للثورة التي واكبها من خلال علاقته الوثيقة بمحمد بوضياف ورفاقه، أو خلال ثورة التحرير التي كان من سياسيها البارزين ودهاتها المحنكين، إلى جانب أقطاب أمثال فرحات عباس، والأمين دباغين والشهيد رمضان عبان. في ريادة الشباب الزناتي ينتمي المناضل عبد الحميد مهري إلى عائلة مقاومة ودين وعلم وأدب، فجده الثاني لأبيه شارك في انتفاضة المقراني سنة 1871، ونكب بعد فشلها، وبسبب ذلك ترك عرشه ناحية القل (أولاد عطية)، ليستقر بالحروش (سكيكدة) والتي ولد بها أبوه عمار سنة 1887.(1) درس عمار مهري أولا بمسقط رأسه، ثم انتقل إلى زواية سيدي علي الشريف (شلاطة)، حيث تعمق في حفظ القرآن وفهمه (2)، قبل أن يواصل دراسته بقسنطينة على يد علماء أجلاء أمثال حمداني لونيسي وأحمد الحبيباتني. وقد أجازه الشيخ لونيسي قبل سفره إلى الحجاز، وبفضل ذلك تولى ابتداء من 1911 الإملمة والتدريس بجامع الخروب (قسنطينة)، قبل انتقاله إلى وادي الزناتي (ڤالمة) سنة 1926، والإستقرار بها إلى غاية وفاته في 19 أفريل 1933، وأثناء فترة الدراسة بقسنطينة، كان الشيخ عمار زميلا لعبد الحميد بن باديس، وقد تحولت تلك الزمالة إلى صداقة وعلاقة عائلية متينة، لاسيما إثر استقراره بوادي الزناتي، علما أن عائلة بن باديس كانت تملك أراضي زراعية بالناحية، فضلا عن مخزن للحيوب بذات القرية، فكان والد بن باديس محمد كثير التردد عليها لذلك، وكان ينزل في الغالب ضيفا على عائلة مهري، وكان إبنه عبد الحميد ينزل بها أيام العطل خاصة، فكان يشاهد أحيانا أمام مخزن العائلة وبيده كتاب يطالعه، وليس مستبعدا أن يكون الشيخ عمار سمى إبنه الأوسط عبد الحميد وليد الخروب في 3 أفريل 1926 باسم زميله وصديقه حبا وتقديرا له بوادي الزناتي إذا نشأ الإبن عبد الحميد وترعرع في كنف عائلة تقليدية ولما بلغ سن التمدرس بدأ بداية تقليدية كذلك، بحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ الطاهر بومدين الذي استقدمه من سطيف القاضي عيسى بن مهيدي لتعليم أبنائه، وفي هذا الطور من التعليم فقد والده (1933)، فكفله شقيقه الأكبر الشيخ مولود الذي خلف والده كذلك في الإمامة والتدريس. وفي سنة 1938 فتحت بالقرية مدرسة خاصة باسم “مدرسة التهذيب” فالتحق بها الصبي عبد الحميد، دون الإنقطاع عن حفظ القرآن الذي ختمه في السنة الموالية. ومن أساتذته في هذه المدرسة فضلا عن شقيقه مولود وصديقه عبد الرحمان بالعڤون الشيخ العربي عجالي الصائغي (من عين البيضاء) والعلامة أبو حفص الزموري (برج بوعريريج). وعلى سنة العائلة دائما، كان عبد الحميد في شبابه الباكر يرتدي الزي التقليدي (العباءة والعمامة)، ويحفظ صبيان القرية القرآن الكريم، ويؤم المصلين في التراويح خلال شهر رمضان، وأصبح ابتداء من 1945 معلما بمدرسة التهذيب بأجر شهري متواضع، لايزيد عن ألف فرنك قديم (10 دنانير!) (3). وتعلم عبد الحميد الفرنسية بمجهود شخصي، لأن العائلة دأبت على ألا ترسل أبناءها إلى المدرسة الفرنسية، احتراما لذكرى أحد الأجداد، سجن لأنه رفض تمدرس أبنائه فيها، لكن كبار العائلة كانوا مع ذلك يشجعون الأبناء على تعلم الفرنسية، عندما يبلغون سنا معينة. في بداية الحرب العالمية الثانية، أخذ حزب الشعب الجزائري يوسع نن شاطه السري بعد حضره في سبتمبر 1939، وامتد نشاطه هذا إلى وادي الزناتي بتأسيس الخلية الأولى، وكان من بين عناصرها الشيخان الصديقان مولود مهري وعبد الرحمان بالعقون. وفي خريف 1942، قبيل نزول قوات الحلفاء بالجزائر (8 نوفمبر)، وجد الفتى عبد الحميد (16 سنة) نفسه في دوامة هذه الحركة، وبعد نحو عام ونصف من التمرس بالنضال السري، والتدرج في سلم المسؤولية، عاش تجربة “أحباب البيان والحرية” وهو أول ائتلاف وطني إصلاحي، على أساس أرضية سياسية “بيان الشعب الجزائري” تحت غطء هذا الإئتلاف الواعد، كلف عبد الحميد بشؤون الشبيبة، فما لبث أن برهن عن موهبة فذة في التأطير والتنشيط، كانت وادي الزناتي، رغم صغرها تتوفر على 10 مقاهي، تشكل ملجأ للشاب الذي لا يعرف ما يفعل بوقته، فسارع المناضل الشاب بإنقاذه بتأسيس نوع من النوادي المتخصصة: رياضة، تسلية، مسرح، موسيقى.. وتمكن بذلك من استقطاب شباب القرية، ما في ذلك أبناء الأعيان والقياد وحرس الغاب.. كما أعطى الحركة الكشفية نفسا جديدا، بواسطة “فوج الضياء“.. هذه الحيوية كانت عنوان طموح، نلمسه في بيتين من نظمه، كان كثيرا ما يترنم بهما: أيها المهري قم..-.. في الليالي والظلم واسلك سبيلك مثلما..-.. كانت جدودك في القدم (4) لكن بعد سنة فقط من النشاط الفياض في ظل هذه الحركة الإئتلافية ، عاش المناضل الشاب تجربة مؤلمة، إقدام سلطات الإحتلال على حل “أحباب البيان والحرية” في خضم مجازر 8 ماي 1945 ومضاعفاتها، وترتب عن ذلك عودة الحليفين الوطني والإصلاحي كل إلى مواقعه المبدئية، وتلا ذلك نوع من الجفاء، وتمت معالجته بالقرية معالجة سياسية، توجت بالإتفاق التالي: أن يسير كل في اتجاهه، مع متابعة نقدية لمسيرة هذا الطرف أو ذاك، فمن يدرك في مرحلة ما من المشوار أنه على خطأ، يراجع موقفه وينظم إلى الطرف المصيب، وفعلا تم بعد فترة من المتابعة، إقناع عناصر “حزب البيان” (فرحات عباس)، بالإنضمام إلى حزب الشعب، علما أن الحركة الإصلاحية بوادي الزناتي كان ضعيفة ولم تكن مهيكلة. بين الدراسة والسياسة في خريف 1946 شارك المناضل الشاب عبد الحميد مهري، في حملة تشريعيات نوفمبر التي قرر حزب الشعب الجزائري المحظور المشاركة فيها - أول مرة باسم واجاهة شرعية هي “حركة انتصار الحريات الديمقرطية”، وكانت الحملة فرصة لإبراز جانب آخر من شخصيته: موهبته الخطابية أيضا، فقد رشحت الحركة بدائرة ڤالمة الصيدلي محمد بن تفتيفة، فألقى المناضل الطالب خطابا مساندا، أبكى الجمهور الحاضر بقوة الحجة وصدق الإيمان.(5) وفي خريف السنة الموالي قرر الإلتحاق بتونس، لتحقيق أمنية إتمام الدراسة، سواء بعين المكان أو بأي قطر عربي من المشرق. غادر وادي الزناتي مزودا من أخيه الشيخ مولود بنصيحة ثمينة “أن يجعل تحصيل العلم هدفه الأسمى، قبل الإنشغال بنيل الشهادات“.. وقد انتهز لذلك فرصة قرار من إدارة الإحتلال، يرخص التنقل إلى تونس باستعمال بطاقة التعريف فقط. وكانت قبل ذلك تشترط جواز السفر الذي لم يكن يومئذ في متناول عامة الجزائريين. ولما وصل سارع بالتسجيل في جامع الزيتونة حسب الطريقة السائدة، وهي أن يدّعي المرشح مستوى معينا فيمتحن فيه، وقد إدّعى مستوى السنة الثانية ونجح. غير أن الحراك السياسي السائد في البلد المضيف ما لبث أن زاحم الدراسة، فلم يرد اتباعها بانتظام على عام ونصف، ليواصلها بعد ذلك كطالب حر. استأنف مهري نشاطه النضالي انطلاقا من محيطه المباشر: محيط الطلبة الجزائريين، بالسعي إلى تعزيز تواجدهم في خلايا حزب الشعب السري دائما وكان يساعده فى ذلك في البداية زميل من العاصمة يدعي مبارك ماضي.(6) كانت الأرضية ممهدة بتونس، فلقيت الدعوة قبولا حسنا، ونفسر ذلك بالتكامل الإيديولوجي السياسي الطبيعي، بين الحركة الإصلاحية بعمقها العربي الإسلامي، والحركة الوطنية التي تعطي نفس العمق بعدا سياسيا ثوريا، فبفضل هذه القاعدة المشتركة الصلبة، كانت عملية الإستقطاب والتحفيز سهلة نسبيا. بعد فترة وجيزة، تجلت نتائج هذا السعي الذكي المنهجي الدؤوب، في رجوح الكفة لصالح الطلبة الوطنيين وتجلى ذلك بشكل واضح أثناء تجديد مكتب جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين. بعد هذا النجاح على الصعيد الطلابي، اتجه مهري ورفاقه إلى دعم تنظيم الجالية، وشملت العملية أهم المدن من تونس إلى بنزرت مرورا بباجة وماطر..إلخ.. وفي بلدة منزل بورڤيبة مثلا حيث الأميرالية الفرنسية تم استقطاب قدماء البحرية المقيمين بها. كان مهري مكلفا كذلك بتمثيل “حركة انتصار الحريات الديمقراطية“ لدى الدستور الجديد، وقد وجد لأداء هذه المهمة الدقيقة سندا قويا في مناضل قديم مغمور هو محمد دحماني، من قدماء مناضلي نجم شمال إفريقيا بتونس. وفي إطار العلاقات بين الحركتين زار تونس أثناء وجود المناضل مهري هناك عدد من قادة المنظمة الخاصة منهم: أحمد بن بلة الذي زارها مرتين أو ثلاثة لمحاولة إقناع حزب الدستور بتأسيس تنظيم شبه عسكري مماثل “للمنظمة الخاصة” محمد بوضياف الذي جاء رفقة المناضل محمد عصامي، في مهمة شراء كمية من الأسلحة من ليبيا، وتخزينها بتونس في انتظار نقلها إلى الجزائر محمد العربي بن مهيدي: في ممهمة تدريب مناضلين تونسيين على الحرب الثورية ووسائلها. وأنشأ مهري ورفاقه لجنة إعلام لأداء مهامهم التحسيسة، كان المناضل الكاتب الطاهر ڤيڤة من أبرز عناصرها، وقد انضم إليه عبد الله شريط إثر عودته من رحلته الدراسية بدمشق، ومن أعضائها الطلبة: قاسم رزيق، الحارث الثريدي، أحمد مرزوق..(7) وكانت عناصر اللجنة تتقاسم المهام فيما بينها بالكتابة في الصحف (التونسية)، فكان مهري مثلا يكتب في “الزهرة” ورزيق في “النهضة” وشريط في “الصباح”.. وكانت اللجنة إلى جانب ذلك تصدر نشرة سرية بعنوان “الدليل” وكانت لجمعية الطلبة كذلك نشاطات جانبية منها: إنشاء مكتبة الطلبة، بتبرعات المحسنين عينا ونقدا. التدريب على الخطابة والكتابة الصحفية. المسرح، فقد أخرجت ومثلت مسرحية طارق بن زياد للكاتب التونسي محمد الحيب، وقد تم عرض المسرحية في عدد من المدن الجزائرية، وكان من أبطالها عبد الحميد بوتمجت في دور طارق والأمين بشيشي في دور رودريغاز. مع عبان رمضان في سطيف في ربيع 1948 استعانت قيادة “حركة الإنتصار“ بعدد من الطلبة الزيتونيين للمشاركة في حملة انتخاب أول مجلس جزائري، تطبيقا للقانون الخاص بالجزائر الصادر في 20 سبتمبر 1947. كان مهري طبعا على رأس هؤلاء الطلبة، لكن بعد انتهاء الحملة، رأت قيادة حركة الإنتصار أن تعينه على رأس دائرة سطيف، مساعدا لرمضان عبان مسؤول نفس الولاية، وقد مكث هناك بضعة أشهر، قبل تحويله إلى دائرة قسنطينة التي كان على رأسها عمار بجريدة، وإثر إصابته بمرض هناك، طلب إعفاءه من مهمته والترخيص له بالعودة إلى تونس. طبعا كان الأمن الفرنسي يتابع نشاط الطلبة الوطنيين بتونس، لاسيما مصالح العقيد “شون” الشهيرة.. وكان من الطبيعي أن يثير مهري اهتمامها بنشاطاته المتعددة والعميقة، وشكوكها حول حقيقة الدور الذي يمثله، دور يتجاوز بكثير قناع الطالب الزيتوني الذي يتستر به. وهكذا استطاعت تلك المصالح أن تعرف أنه الممثل الرسمي لحركة الإنتصار، وكانت بعض الصحف المحلية قد لمحت إلى ذلك أكثر من مرة. وقد انتهى كل ذلك إلى اعتقاله في ديسمبر 1951 وحبسه في ظروف سيئة جدا بالمحافظة المركزية للشرطة في باب البحر، وما لبث أن أبعد إلى الجزائر بقرار من المقيم العام، إستنادا إلى أمر ملكي قديم، يجيز نفي أي شخص يمكن أن يشكل تهديدا أمنيا ما بمكان إقامته، وبناء على ذلك أخرج مقيدا، ليخلي سبيله في المنطقة الحدودية. تزامن ذلك مع أحداث 18 يناير 1952، جراء اعتقال الحبيب بورقيبة ورفاقه في المكتب السياسي لحزب الدستور وقد فتحت تلكم الأحداث باب العمل المسلح، باتجاه تحرير تونس من نظام الحماية الفرنسية المسلط عليها بموجب معاهدة باردو في 18 ماي 1881. (يتبع) (1) عبد القادر مهري (ابن شقيقه الأكبر الشيخ مولود) صحيفة الأحرار، مارس 2012 (عدد خاص بمناسبة تأبينية الفقيد) (2) عبد الرحمان بالعقون في مذكراته، منشورات دحلب، الجزائر 2000. (3) و (4) شهادة زميله محمد الصالح رحاب، أدلى بها إلى الكاتب. (5) محمد الهادي طيروش، الأحرار (المصدر السابق). (6) اشتهر في بداية الثورة بإسمه الحركي شبايطة، أعدم بطرابلس في ظروف غامضة سنة 1956 (أو أواخر 55)، بأمر من الثنائي بن بلة مهساس. (7) ثلاثتهم من شهداء الثورة، استشهد رزيق بالولاية السادسة سنة 1959، بينمنا استشهد الثريدي ومرزووق ناحية الصومام من الولاية الثالثة. وكان الثريدي أمينا عام لجمعية الطلبة الزيتونيين إلى جانب رئيسها رزيق سنة 1952.