أعاد البيان الذي أصدرته تشكيلات عسكرية سورية مؤخرا إلى الواجهة جدلا سوريا، كان جرى التغاضي عنه أو إهماله، وهو الموقف من جماعات التطرف الديني، إذ احتوى البيان رأيا لهذه الجماعات في مستقبل سوريا، لا يتبنى فكرة الدولة الإسلامية خلافا لموقف أبرزها والذي دعا إلى دولة إسلامية في وقت سابق باعتباره مستقبل الدولة السورية. ورغم أن بعض المعنيين والمتابعين للقضية السورية، رأى في هذا التحول مجرد تكتيك سياسي، يتوافق مع ضرورات المرحلة التي يجتازها الوضع السوري، فإن آخرين انقسموا ما بين مستنكر وآخر متوافق مع هذا التحول، والأمر في ذلك إنما يعكس جدلا سوريا، كان قد بدأ مع الظهور الملموس للتشكيلات الدينية المسلحة قبيل نهاية العام الأول من ثورة السوريين ضد نظام الأسد، وقيام بعض تلك الجماعات بالإعلان عن عمليات ضد مقرات للنظام وبعض رموزه العسكرية والأمنية، وهو أمر استدعى ظهور حس شعبي أكثري من الناحيتين السياسية والاجتماعية مؤيد لتلك الجماعات ولعملياتها، امتد في بعض الحالات ليشمل قادة في المعارضة السورية بمن فيهم شخصيات قيادية ذات تاريخ يساري وديمقراطي وليبرالي. وبالتوازي مع الموقف السابق الداعم للتشكيلات الدينية المسلحة في المستويين الشعبي والمعارض، فإن حسا شعبيا غلب عليه الطابع الأقلوي السياسي والاجتماعي، أعلن رفضه لوجود وعمليات تلك التشكيلات ونتائجها، وتبنى بعض قادة في المعارضة الموقف ذاته، فعارضوا تلك التشكيلات، واتخذوا موقفا حذرا من عملياتها ونتائجها. وللحق فإن الموقفين اعتراهما بعض الارتباك، لأن عوامل خارجة عن الموضوع تدخلت في كل منهما. فالذين أيدوا التشكيلات الدينية المسلحة وعملياتها، إنما كانوا يرونها في جملة الردود على وحشية نظام الأسد وسياساته حيال الشعب السوري وما أشاعته من قتل وتهجير للسوريين وتدمير بلدهم دون أن يعطوا أهمية للتوجهات الآيديولوجية لتلك الجماعات وهدفها الأخير في إقامة سلطة دينية استبدادية، لا تختلف كثيرا عن السلطة الآيديولوجية الاستبدادية لنظام الأسد، فيما استند المعارضون إلى معرفتهم بالعلاقة التي حكمت النظام مع جماعات التطرف الديني، والتي كثيرا ما وظفها في صراعاته الداخلية والخارجية كما في تجربة موقف النظام من الوضع في العراق وتطوراته. وأضاف هؤلاء إلى أسباب معارضتهم حذرهم التاريخي من التنظيمات الدينية وتوجهاتها، خاصة وقد صار لهذه التشكيلات أسنان مسلحة وقوى دعم مادي كبيرة من المحيط الإقليمي والدولي. وكرست تجربة الثلاث سنوات الماضية من الصراع السوري، خلاصات أكثرها في منطقة التوافق السوري، أولها أن التشكيلات الدينية المسلحة، بلورت هدفا رئيسيا لها في إقامة دولة إسلامية، وهو هدف يتناقض مع الهدف الرئيسي الذي انطلقت الثورة السورية لتحقيقه، هدف الدولة الديمقراطية التي توفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، والثاني أن هذه التشكيلات، جعلت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ساحة عملها الرئيسي، وعزلت نفسها في أغلب الأوقات والمواقع عن خطوط التماس في الصراع مع قوات الأسد، وخاضت صراعات مع قوى الجيش الحر والتشكيلات الثورية المحلية في محاولة لتصفيتها والسيطرة على الأرض، وفرضت سلوكيات وممارسات على المواطنين، تكرس استبدادا دينيا مسلحا، يتنافى وأفكار الديمقراطية والتعددية والحرية وحقوق الإنسان، بل إنها خاضت صراعات سياسية وأخرى مسلحة فيما بينها، وحولت في نهاية الأمر الحياة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى جحيم حقيقي، بما يعنيه ذلك من توافق مع جوهر سياسة نظام الأسد في كل المناطق السورية، وهو ما جعل معسكرات ومقرات وخطوط تحرك التشكيلات الدينية خارج أهداف أسلحة النظام بما فيها سلاحه الجوي الذي لم يكن يوفر المدنيين في الأماكن السورية الأخرى فيجعلها هدفا للبراميل المتفجرة. وإذ كشف ما سبق جوهر التشكيلات الدينية وأهدافها عبر ممارساتها، ولم يعد بالإمكان تأييدها والدفاع عن ممارساتها، فقد لجأ بعض من تبقى من المؤيدين لها إلى مفاضلة بين بعض تلك التشكيلات، مثل القول: إن {النصرة} أفضل من {داعش} من الناحية الآيديولوجية والعلاقة مع الخارج، متناسين تنافس التشكيلين في وقت سابق على تمثيل تنظيم القاعدة في سوريا قبل أن يحسم الأمر للأول، وصار البعض يميز بين التشكيلات كما في القول، بأن ممارسات {داعش} أكثر تشددا ووحشية مقارنة ب{النصرة}، وبعضهم يميز بين قادة تلك التشكيلات وعناصرها متجاهلين الطبيعة الحديدية الصلبة لتلك التنظيمات وخضوع الأفراد للقادة وفق منطق ديني. لقد ساهمت تلك الرؤى، ليس في تمدد التشكيلات الدينية المتطرفة والمتشددة وتقويتها على حساب قوى الثورة المدنية والعسكرية الشعبية فقط، بل ساهمت في تشويه وجه الثورة السورية بإسباغ طابع متشدد متطرف على الثورة وإبرازها ”ثورة متطرفين” و”قتلة متشددين” لدى أوساط الرأي العام العالمي، وكلفت السوريين مزيدا من الخسائر البشرية والمادية، وزادت من معاناة السوريين وتهجيرهم، وهي في الأهم من ذلك أطالت في عمر النظام وجعلت من الصراع السوري معه، يدخل متاهات ومسارب لم يكن له أن يدخلها لولا تمدد وتقوية التشكيلات الدينية المسلحة. ويفرض واقع الحال إنهاء المنطق الأعوج ومواجهته في التعامل مع التطرف الديني بتشكيلاته وأهدافه وممارساته، والقول: إن التشكيلات الدينية إنما تقف على ذات الأرضية في تعاملها مع الشعب السوري وثورته، وإن الحق رفع كل غطاء آيديولوجي أو سياسي أو وطني أو أخلاقي عن تلك الجماعات، مما سيفرض عليها الانحسار والتقوقع أو إجراء تحولات سياسية، ينبغي أن تكون تحت المراقبة والتدقيق لتتوافق تحولاتها السياسية مع ممارساتها على نحو ما يمكن أن يكون عليه حال التشكيلات التي وقعت ميثاق الشرف الثوري مؤخرا، لأن السوريين باتوا يريدون أفعالا لا أقوالا.