عندما انطلقت ثورة السوريين في مارس 2011، تركز رد السلطة في أمرين” كان الأول إطلاق يد الأجهزة الأمنية للمضي في خطوات العنف الدموي ومتمماته بهدف الحد من حركة المتظاهرين والمحتجين ومعارضي النظام، وكان الثاني تشغيل جهاز دعائي إعلامي جبار، هدفه الحرب على عقول السوريين وغيرهم من خلال بث المعلومات والمعطيات، بل وخلق وإذاعة ما يتوافق من وقائع وأحداث مع استراتيجية النظام في التأثير على العقول وإعادة رسم مواقف السوريين وضبط تصرفاتهم وتحركاتهم، وبهذا المعنى فقد كان الرد الثاني هو الأبلغ، وإن كان الأقل ظهورا في الصورة والأقل دموية وصخبا، رغم أن آلته لم تكن أبدا أقل قوة وحجما في التأثير من الجهاز الأمني، وقد كان الأخير بكل جبروته وقوته جزءا من تلك الآلة. لقد ركز الجهاز الدعائي الإعلامي للنظام على رسم صورة مغايرة للثورة والمشاركين فيها الذين رفعوا مطالب الحرية والعدالة والمساواة، ومنذ بداية الأحداث توالت الأخبار والمعلومات عن مسلحين وإرهابيين وأصوليين ووافدين أجانب، وعن عملاء مرتبطين بالخارج الذي يمتد قوسه ليشمل بلدانا وشخصيات عربية وأجنبية، وأن ما يقوم به هؤلاء هو جزء من مؤامرة ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية ضد النظام ومواقفه وسياساته، وكأن الأمر هكذا بالفعل، وطور النظام حملته على مدار عامين ونصف، مستغلا إضافة إلى الإعلام والدعاية وشركات العلاقات العامة، كل المنابر والأنشطة في المستويات المحلية والإقليمية والدولية للتأثير على الرأي العام والمؤسسات الدولية وعلى الحكومات المهتمة بالأوضاع في سوريا لجعل فهمها للأحداث وموقفها منها في نقطة الحياد، إن لم يكن في موقف المؤيد للنظام والمعادي للثورة على نحو ما يرغب النظام. ولئن استندت حرب النظام ضد الثورة وتعبيراتها وأهدافها إلى استراتيجية وأدوات معينة، مما يعطيها طابع الحرب المنظمة على العقول في سوريا وخارجها، فإن حلفاء النظام في المستويين الإقليمي والدولي، وبخاصة ثلاثي حزب الله في لبنان وإيران وروسيا، انخرطوا في تلك الحرب بطابعها المنظم ووفقا للاستراتيجية السورية، وغالبا فإن مستويات أدائهم الإعلامي والدعائي فيها كان الأفضل مقارنة بأداء النظام على الأقل في ما يتعلق بالإعلام. ووسط الحرب الإعلامية الدعائية للنظام وحلفائه على العقول وفي مواجهة الثورة، اندلعت حرب أخرى في مستوى الشارع لها نفس الأهداف في التأثير على العقول والمواقف، شارك أنصار النظام وفلوله، إلى جانب طابور خامس، شكل المتعيشون على هامش الثورة القسم الرئيس منه، ركزت على أوضاع الثورة وما يجري فيها وحولها من أحداث وتطورات سياسية وميدانية، إضافة إلى الأوضاع المتردية لملايين السوريين، وخصوصا أوضاع المهجرين في الداخل واللاجئين إلى بلدان الجوار، وما يحيط بالجيش السوري الحر والتشكيلات العسكرية للجماعات الإسلامية المتشددة من أخوات ”القاعدة”، وبصورة عامة فقد ركزت تلك الحرب على الجوانب السلبية لواقع المعارضة السورية وجماعاتها وعلى ترديات الواقع الميداني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ورغم أهمية طرح الموضوعات السابقة في الحرب على العقول في مستوياتها المتعددة، فإن الأهم كان التركيز على وجود جماعات التطرف الإسلامي، وخصوصا تنظيمي جبهة النصرة ودولة العراق والشام المنتمين إلى جماعات ”القاعدة”، واعتبارها القوة الرئيسة في التشكيلات المسلحة من النواحي العددية والتسليحية، والقول إنها الطرف الأقوى والأشد فعالية في واقع الصراع المسلح القائم في سوريا، إضافة إلى تأكيد أن ثمة تعاطفا سياسيا وشعبيا مع تلك الجماعات، وكلها أحكام وتقديرات لا تستند إلى الواقع ومعطياته وأرقامه، التي لا تشكل أسرارا في واقع سوري معروف ومكشوف لدرجة كبيرة. إن الأخطر في حرب العقول حول سوريا ما قامت به أجهزة استخبارية أجنبية ودولية، روجت فيه لوجود جماعات ”القاعدة” وتنظيماتها مثل ”النصرة” و”دولة العراق والشام” وتضخيم لوزنها ونشاطاتها، وقد ساهمت في صياغة سياسات دولية مرتبكة وملتبسة في القضية السورية، ساهمت بدورها في تحميل السوريين فاتورة أكبر للصراع بين النظام والثورة عبر إطالة أمد الصراع وتغيير مساراته إلى صراع مع التطرف خلافا لكونه صراعا بين الثورة والنظام، الأمر الذي يجعل النظام مستفيدا رئيسا من هذا التحول. لقد حققت تلك الحرب بعضا من نجاحات في أماكن ومستويات مختلفة، لكنها في الساحة الأولى والأهم، وهي ساحة الداخل السوري، فشلت في تحقيق مثل تلك النجاحات، ليس فقط نتيجة معرفة السوريين بالحقائق والمعطيات الواقعية المحيطة بالجماعات الإسلامية المتطرفة ووزنها فقط، بل بسبب إدراك السوريين أن تدخلات مكشوفة من جانب النظام وقوى إقليمية ودولية، لا يمكن أن تكون القوة الحاسمة في التأثير على عقول السوريين وواقع البلاد، وخصوصا لجهة استمرار الصراع بين النظام ومعارضيه على أرضية التغيير إلى نظام ديمقراطي يوفر الحرية والعدالة والمساواة للسوريين.