من خصائص الصلاة إن هذه الحكمة تتابع الحديث عن الخصائص التي تتميز بها الصلاة عن سائر العبادات الأخرى. فأول هذه الخصائص أنها محل المناجاة.. ولعلك تقول: إن العبد بوسعه أن يناجي ربه في كل الأحوال ومن خلال سائر العبادات، فأين هو وجه الخصوصية للصلاة في ذلك؟ والجواب أن ما يملكه الإنسان من ذلك في الأحوال العامة، هو التوجه إلى الله بالخطاب والدعاء ونحو ذلك، من طرف واحد، أي من طرفه هو، وهو مختلف عما يعبر عنه ابن عطاء الله هنا بالمناجاة، ذلك لأن هذا الوزن ”مفاعلة” يدلّ على معنى المشاركة، فخطاب المصلي لربه ليس خطاباً من طرف واحد، بل إن العبد كما يتجه إلى ربه فيها بالتوحيد والثناء والدعاء، يتوجه الرب جل جلاله فيها إلى عبده بالإجابة والمصافاة والقبول لا أدلَّ على ذلك من الحديث القدسي الذي جاء في أوله:”قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين..”. وكما أن الصلاة فيها خصوصية الحضور مع الله، فالمناجاة التي فيها لها خصوصية الحوار والأخذ والعطاء معه عز وجل.. والخاصية الثانية أنه معدن المصافاة، وهذه الكلمة تدلّ هي الأخرى بوحي وزنها: ”مفاعلة” على المشاركة. فكيف تدلّ على ذلك؟ إن كلمة ”مصافاة” مأخوذة من ”تصفية”، وتستعمل عادة في التعبير عن تصفية حساب بين اثنين،وإنما استعير هذا المعنى للطلب الذي يتجه به العبد في الصلاة أن يصفح عنه فيتجاوز عما تورط فيه من سيئات، معلناً له توبته عنها، وعزمه على الرجوع إليها، فيستجيب الله طلبه، ويصفح عنه ويمحو ما قد ثبتته الملائكة على صحائفه من سيئات (بعد تكامل الشروط والأركان، والمصافاة مع أصحاب الحقوق لأن حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحّة). أما الخاصية الثالثة فهي أن الصلاة أشبه ما تكون بساحة أو ميدان يتعرض فيه المصلي لأسرار علوية تهبط إلى قلبه، وأنوار ربانية تسري في كيانه وتمتزج بروحه. فكيف يتم ذلك وما الدليل عليه؟ والجواب أن الإنسان إذ يكون خارج الصلاة معرّضا لأنواع الغفلات والكثير من أسباب اللهو والنسيان، إذ الشأن فيه أن يكون منصرفاً إلى شؤونه الدنيوية المتنوعة التي لا غنى للإنسان عنها، ولابد أن يتكون من هذه الشواغل الكثيرة المتلاحقة حجاب يحجبه عن الله وعن التأمل في الدار الآخرة والمصير الذي هو مقبلٌ إليه، وحتى لو أتيح له أن يصحو من سكر دنياه وشواغله لبضع دقائق، تعود شواغله وأفكاره الدنيوية لتتسرب إليه وتستولي عليه. ولكن إذا أقبل يلبي النداء إلى الصلاة، واتجه إلى القبلة وقد أخذ أهبته للوقوف بين يدي الله، ودخل حضرة الله مكبراً، وبدأ يكلمه ويناجيه فإن الله يقبلُ عليه، وما ما معنى إقبال الله عليه؟ معناه يتجلى عليه، أي على قلبه ومشاعره الروحية، باللطف إلى الحديث الذي يخاطب به ربه بل إلى جواب الله له.. وعندئذ تتنزل من الأسرار العلوية مالا يعلمه إلا الله على قلب المصلي وتفيض مشاعره بأنوار التجليات الإلهية المتمثلة في الخشوع والمهابة والتعظيم والحب.. وسر خصوصية الصلاة في ذلك هو أنه في جملتها ليست إلا دخولاً في حضرة الله عز وجل، واستضافة من الله لعبده، فإذا سلم فقد خرج من حضرة الله، وانتهت استضافة الله له، وعندئذ تعود إليه الدنيا التي انفصلت عنه مؤقتًا بسائر شواغلها وملهياتها ومنسياتها. إن الصلاة تكشف عن بالغ لطف الله بعباده، وواسع فضله عليهم ورحمته بهم، وهو أن الله أحب أن يكرم عباده بأضعاف ما أكرمهم من استضافتهم إليه، واستقبالهم في واحة حضرته،ولكنه علم ضعفهم وعجزهم عن تحمل التردد على أعتابه خمسين مرة، كل يوم وليلة، فلم يحملهم من ذلك إلا العشْرَ، خمس مرات فقط كل يوم وليلة.. ولما علم احتياجهم إلى رحمته وصفحه وجوده، خفف عنهم تحمّل العبء، دون أن يخفف لهم من المثوبة والأجر، فهي كما تعلم في الأداء خمس صلوات فقط، ولكنها في الأجر خمسون كاملة. فهذا معنى قوله: علم وجود الضعف منك فقلل أعدادها، وعلم احتياجك إلى فضله فكثر أمدادها. أليس عجيباً أن يكون المرء مسلما ثم يكون زاهدا في استضافة الله له؟.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.