مدح الله تعالى المؤمنين وأثنى عليهم، ووصفهم بالخشوع له في أجل عباداتهم، ورتب على ذلك الفوز والفلاح، فقال جل وعلا: »قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون«. وأصل الخشوع هو لين القلب ورقته، وسكونه وخضوعه، وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب، تبعه خشوع جميع الجوارح، لأنها تابعة له، وقد رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه. وفي معنى الخشوع في الصلاة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو الخشوع في القلب، وأن تلين للمرء المسلم كنفك، وألا تلتفت في صلاتك يميناً وشمالاً. وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: »الذين هم في صلاتهم خاشعون«، قال: خائفون ساكنون. وعن الحسن رحمه الله قال: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح. وقال ابن سيرين رحمه الله : كانوا يقولون لا يجاوز بصره مصلاه. يقول الشيخ عبدالرحمن السديس: هذا هو منهج السلف رحمهم الله الذين كانت قلوبهم تستشعر رهبة الوقوف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات، ويغشى أرواحهم جلال الله وعظمته، وهم يقفون بين يديه، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل عندما يشتغلون بمناجاة الجبار جل جلاله، ويتوارى عن حسهم في تلك الحالة كل ما حولهم، فيتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة، وعندئد تتضاءل الماديات، وتتلاشى جميع المغريات، وحينئذ تكون الصلاة راحة قلبية، وطمأنينة نفسية، وقرة عين حقيقية، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): »وجعلت قرة عيني في الصلاة«. وفي المسند أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: »قم يا بلال فأرحنا بالصلاة«. إنها الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة، لكي تشعر من خلال أدائها أنها تناجي من بيده ملكوت كل شيء، وإن المصلي حينما يكبّر ويرفع يديه إنما يعظم الله تعالى، وإذا وضع اليمنى على اليسرى فهو ذل بين يدي مولاه، وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن المراد بذلك؟ فقال: هو ذل بين يدي عزيز! وإذا ركع فهو إقرار بعظمة الله، وإذا سجد فهو تواضع أمام علو الله تبارك وتعالى. وهكذا يكون المسلم في صلاته يوثق الصلة بالله، ليفوز بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد. أخرج الإمام مسلم وغيره عن عثمان رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم): »ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله«. إن المصلي الحق هو الذي يقيم الصلاة كاملة الفرائض والأركان، مستوفية الشروط والواجبات والآداب، يستغرق فيها القلب، ويتفاعل من خلاله الوجدان، ويحافظ عليها محافظة تامة قدر الطاقة، يبعثه على ذلك قلب يقظ، وشعور صادق، وإحساس مرهف، وضمير حي، فينصرف بكليته إلى الصلاة، لأن الخشوع فيها إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثارها على غيرها. ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد، فالذي يجعل الصلاة مرتعاً للتفكير في أمور دنياه وحلا للهواجس في مشاغله، قلبه في كل واد، وهمه في كل مكان، يختلس الشيطان من صلاته، بكثرة التفاته، وعبثه بملابسه ويده، ورجله وجوارحه، وربما أخل بطمأنينتها ولم يعِ ما قرأ فيها، فيخشى أن ترد عليه صلاته، فقد ورد: أن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، فلا يتم ركوعها، ولا سجودها ولا خشوعه.