إنَّ مما يميز أجواء هذا الشهرِ المباركِ معالي الاخلاقِ، فهو شهر البعدِ عن الخصوماتِ والنزاعات، وهو شهر التآلفِ والمحبةِ بين المسلمين، وقد دعا الإسلامُ إلى التحلّي لمكارم الأخلاق، ورغب في حسنِ الخلق، فجعله سبباً لدخولِ من يتحلى به الجنه، إذ جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ”سُئِلَ رسوُلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ أكثَرَ ما يُدخلُ النَّاس الجنَّةَ فقال: تقوَى الله، وحُسْنِ الخلُقِ”. وعدَّ صاحبُ الخلقِ الحسنِ من خيارِ المسلمين وأكملِهم إيماناً، وأخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ حُسنَ الخُلُق هو أثقَلُ الأعمالِ في ميزانِ المؤمن، كما أخبرَ أنَّ حُسنَ الخُلُق قد يبلغُ بصاحبِه درجة الصائمِ القائم، وبيّن أن صاحبَ الخلقِ الحسنِ هم أحبُّ الناس إليه، وأقربُهم منه مجلساً يوم القيامة. ويكفي أن تقرأ في سيرته الشريفة، وتنظرَ كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل الناس كلَّهم؟كيف كان يعاملُ أزواجَه؟كيف كان يعامل أقاربَه؟ كيف كان يعامل أصحابه؟ كيف كان يعامل أعداءَه أيضا؟ وهذا جليٌ جداً في سيرته صلى الله عليه وسلم حين زكاه الله تعالى بقوله: ”وإنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” وحين سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِه صلى الله عليه وسلم قالت: ”أَلَسْتَ تقْرأُ القرآنَ؟قيل: بَلَ، قالَتْ: فإنَّ نبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان القرآن”وقد صرَّحَ هو بالغاية من بعثَتِهِ، بقوله صلى الله عليه وسلم: ”إنما بُعِثْتُ لأتَمِّم صالحَ الأخلاَقِ” والخلقُ الكريمُ هو محصِّلةُ العبادات في الإسلام، وبدونه تبقى طقوساً وحَركاتٍ لا قيمة لها ولا فائدة منها، وإن كان حُسنُ الخلقِ مطلباً شرعياً في كلِّ الأيام والشُّهور، فإنه في رمضانَ أوجبُ وأولى، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً واضحاً لحسن الأخلاق في شهر رمضان حين قال: ”فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليَقُلْ إنِّي امرؤٌ صائمٌ”(متفق عليه). فبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أوضح مِثالٍ على تحلي الصائم بالأخلاق الفاضلة، وقد يكون الصيامُ مظنّةَ أن يثورَ المكلفُ إذا استُثير، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائمَ عن سوءِ الخلق، وبيّنَ أنه لا يَخلُقٌ به أن يفحِشَ في القول، أو أنْ يعلُوَ صوتُه صائحاً عند مخاصمةِ غيرِه، وأن يُقابل إيذاء غيرِه له بالسبِّ أو الشتم أو غيرهما بمثلِه، وإنما ينبغي عليه إذا قُصِد بهذا الإيذاء أنْ يقول: إنِّي امرُؤٌ صائمٌ، مذكراً نفسهَ وغيره بما ينبغي أن يتحلَّى به الصائم من حسن الخلق، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”وإذا كانَ يومُ صومِ أحدِكُمْ فلا يرفُثْ ولا يصخبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ إنِّي امرُؤٌ صائمٌ”. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: ”والمُراَدُ بالرَّفَثِ هنا الكلامُ الفاحشُ وهو يُطلقُ على هذا وعلى الجماع ومقدماته وعلى ذِكرِهِ مَعَ النِّساءِ أو مُطْلَقاً ويُحْتَمَلُ أن يَكُونَ لما هوَ أعمُّ مِنهاَ قولُهُ: ولا يجهل أي لا يفعل شيئاً من أفعالِ أهلِ الجهلِ كالصيَّاحِ والسَّفَهِ ونَحوِ ذَلِكَ”. والنهي عن الرَّفَثِ و الصَّخب في الصيام لا يقتضي إباحتَهما في غيره، وإنما يتأكدُ النهي عنهما في الصيام، وكذلك الأمرُ في عدم مقابلة الإيذاء بمثله في الصيام، لا يقتضي الأمرَ بمقابلةِ الإيذاءِ بمثله في غيره، بل قد رغب الشارعُ الحكيم بمقابلةِ الإساءةِ بالإحسانِ قال تعالى: ”ولاَ تسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئةُ، ادفَع بالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإذاَ الَّذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنَّهُ وليٌ حميمٌ” وما أحوجنا إلى التعامل بحسنِ الخلقِ في هذا الشهر الكريم، فإن الصومَ يهذِّب الخُلُقَ، ويربّي النَّفس، ويعوِّدُ الصبر، إنَ هذا الشهرَ فرصةٌ لنا أن نربي أنفسنا على كفِّ الأذى، والإكثار من الصدقات، وحبِّ الإصلاح، وصدقِ اللسانِ، وقلَّةِ الكلام، وصلة الأرحام، وشكر النِّعم، والابتعاد عن السباب، واللعان، والغيبةِ، والنميمةِ، والحقدِ، والبخلِ والحسدِ، وأن تحبَّ للآخرين ما نحبُّ لنفسك. وحسنُ الخلقِ يُطالبُ به المسلمُ مع جميع الخلقِ، المسلم منهم والكافر، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحسنُ إلىَ من يُحسنُ إليه من الكفار، كما هو ثابت في وقائع عديدة من السيرة النبوية الشريفة، ومما يُنقلُ في ذلك عن مجاهدٍ رحمه الله قال: ”كُنتُ عندَ عبْدِ اللهِ بنُ عَمْرو رضي الله عنهما وغلامُهُ يسلُخُ شاةً، فقال يا غلامُ، إذا سَلَخْتَ فابدأ بجارنا اليَهُوديِّ، حتى قال ذلك مِرراً، فقالوا له: كمْ تقولُ هذا؟فقالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليهِ وسلم لمْ يزلْ يوصينا بالجَارِ حتى خَشِيناَ أنه سيُوَرثُهُ”. ولعله كان تطبيقا عملياً من هذا الصحابي الجليل لما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ”ما زالَ يوصينِي جبريلُ بالجارِ حتَّى ظنَنْتُ أنَّهُ سيُوَرِّثُهُ”.