عناية الله بعباده يقول ابن عطاء الله السكندري: ”عنايته فيك لا لشيء منك، وأين كنت حين واجهتك عنايته وقابلتك رعايته؟لم يكن في أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الأفضال، وعظيم النوال”. قد يخيل إليك أن العناية الإلهية بك هي التابعة لصلاح حالك، فصلاح المرء هو السبب، وعناية الله به هي النتيجة والمسبب. ولكن هذا الخيال وهم والحقيقة نقيضه. عناية الله بالعبد لطف من الله في الأزل، أي قبل ان يوجد وقبل ان يخيَّرَ فيختار لنفسه أحد طرقي السعادة والشقاء. فكيف يكون اختياره اللاحق سبباً في العناية الربانية السابقة؟ هذه خلاصة معنى هذه الحكمة، وهي الحق الذي يجب المصير إليه والإيمان به. ولكنه مبعث لبعض المشكلات فلنقف عندها، لنتبين الجواب عنها. من هذه المشكلات أن الله تعالى يقول:”مَنْ عَمِلَ صالحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهو مؤمنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طيبةً ولنجزينَّهُمْ أجْرَهُمْ بِأَحسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ”(النحل). فقد رتب البيان الإلهي عناية الله بالعبد وتمتيعه بالحياة الطيبة، على إيمانه وعمله الصالح، وهو تقرير واضح لما يقوله ابن عطاء الله. ومنها ما هو مقررٌ ومكرر في كتاب الله تعالى من أن الناس يجزون يوم القيامة بما كانوا يعملون، والثواب الذي يدّخره الله لعباده الصالحين، من أجلّ مظاهر عنايته تعالى بهم، ولاشك أن الثواب هو المترتب على الصلاح، وليس الصلاح هو المترتب على الثواب. كما أن وجود الجنة والنار..دون أن يتقرر الواحد منهما مقراً لك، إلا بعد رحيلك من الدنيا، دليل على أن العناية الإلهية بالعبد معلقة على ما سينتهي إليه أمره من صلاح أو فساد، وهو يتعارض مع ما يقرره ابن عطاء الله في هذه الحكمة. والجواب عن هذه الإشكالات كلها أن الله أنبأنا في كلامه المبين، وفيما أخبرنا به سيدنا رسول الله أن كل مولود يولد على فطرة الإيمان بالله فقال عز وجل:”فطرةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ علَيْهاَ”(الروم).. ومعنى ذلك أن الله تعالى بث في كيان كل إنسان منذ أول نشأته رغائب الإيمان به وعوامل الانقياد لأمره والخضوع لسلطانه..وتلك هي جذور العناية وأساسها ومعينها، وهل في العناية الإلهية بالعبد ما هو أجل وأسمى من أن يغرس الله في أعماق نفسه عوامل التوجه إليه بالمعرفة، فالمحبة، فالانقياد لتعاليمه وأحكامه قبل أن يستيقظ إلى وجوده في هذه الحياة الدنيا، وقبل أن تتفتح براعم عقله، وقبل أن يبلغ أشدّه ويواجه غرائزه وأهواءه النفسية؟.. فعناية الله بك تجلت في الفطرة الإيمانية التي متعك بها، ثم إن الفطرة تجلت بدورها في الإيمان وفي الأعمال الصالحة التي قادتك الفطرة إليها، فكأن الله يعلق المزيد من عنايته التي يتفضل بها على عباده، على عنايته التي تكرم عليهم بها. وأعلم أخي أن العناية الربانية التي تعد الفطرة الإيمانية أساساً ومصدراً لها، هبة أكرم الله بها عباده جميعاً دون تفريق. غير أن عباد الله عز وجل مختلفون في استقبالهم لها وتعاملهم معها، فمنهم من تلقاها مرحِّباً بها متعاملاً معها، غير متجاهل لها ولا متأب ٍّ عليها، ومنهم من حجب نفسه عنها بحجاب التعالي والاستكبار. وصدق رسول الله القائل: ”كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى”. وفي هذا إجابة وافية عن السؤال التقليدي المتكرر: فإذا كانت استقامة الإنسان على أوامر الله وهديه نتيجة للعناية الربانية الأزلية، وكان انحرافه عن جادة الاستقامة نتيجة لحرمانه من هذه العناية، ففيم التكليف إذن، وما وجه الثواب للمحسن والمعاقبة للمسيء؟ فالله لم يحرم أياً من عباده من العناية الشاملة التي تكرم بها عليهم جميعاً، فإن الفطرة الإيمانية التي هي معين العناية الإلهية وأساسها، هية غاليةٌ عزيزةٌ من حضرة مولانا رب العالمين إلى عباده جميعاً.إذن فمن الخطأ البيِّن قول أحدهم: إن انحراف المنحرفين عن جادة الاستقامة والرشد، نتيجة لحرمانهم من العناية الربانية. كما أن من أعرض مستكبراً ومعرضاً عن مائدة المكرمة العامة التي دعا الله إليها عباده جميعاً، كان لابد أن يبوء بعواقب الحرمان الذي فرضه على نفسه..هذا هو وجه العقاب الذي ارتضوه لأنفسهم فأنزله الله عليهم.. زيادة على ذلك فإن هذه العناية تضاعفت فأورثت عباده الصالحين الذين أحسنوا استعمال هذه الهدية الربانية ما عبر عنه البيان الإلهي بالحياة الطيبة في الدنيا والأجر الكبير في الآخرة. إلا أنك قد تعيد فتسأل عن هذا الإشكال في ثوب جديد قائلا ولماذا لم تشمل عناية الله عز وجل هؤواء المستكبرين؟ إن هذه الهدية الربانية لا تستدعي أن يحرم الإنسان من حق الحرية والاختيار في موقفه منها وفي وجه التعامل معها... أعتقد أن هذا البيان من شأنه أن يزيل اللبس وأن يحلّ الإشكال وأن يجلّي لك الحق. والله الموفق والهادي لكل من رغب في التوفيق والهداية. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي