يقول ابن عطاء الله السكندري:” أصل كُل معصية وغفلة وشهوة، الرضا عن النفس. وأصل كل طاعة ويقظة وعفة،عدم الرضا منك عليها، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه”. خلا صة ما ترمي إليه هذه الحكمة، أن السبيل إلى مرضاة الله يتمثل في اتهام السالك نفسه وعدم رضاه عنها، وأن السبيل إلى سخطه يتمثل في إعجابه بنفسه ورضاه عنها. إن مُراد ابن عطاء بالنفس هنا - لأن النفس لها معاني عديدة في اللغة العربية-الغريزة الحيوانية المُركبة في كيان الإنسان، والتي تَجْمح به إلى الانقياد لما فيها من الأهواء والشهوات. ويبدو أنه مُصطلحٌ ديني مأخوذ من مثل قول الله تعالى: إنَّ النَّفسَ لأمّارَة بالسُّوء إلاَّ ما رَحِم ربِّي. (يوسف) ولكن من أين لابن عطاء الله أنَّ أصل كل معصية وغفلة وشهوة،الرضا عن النفس؟ومن أين له نقيضها؟ وما السبب في أن يكون هذا أصل كل معصية..إلخ وكيف السبيل إلى أن يكون المسلم غير راض عن نفسه،حتى لا يتورط في هذه المنزلقات؟ إن مصدر هذا الذي يقوله ابن عطاء الله،قول الله تعالى: ألمْ تر إلى الذين يُزكُّونَ أنفُسَهم بَلِ الله يُزَكّي من يشاءُ ولا يُظْلَمون فَتِيلا . (النساء) والاستفهام هنا استنكاري أي ألا ترى إلى قباحة شأنهم،إذ يمدحون أنفسهم ويعبرون عن إعجابهم بها ورضاهم عنها!!.. والمعنى لا تحكموا لها بالصلاح والسمو عن الزغل والشوائب، ولا تمدحوها وتُثنوا عليها بما قد تتوهمون.. فإن الله أعلم بما في نفوسكم منكم. إن السلوك هو النتيجة العملية لصراع الإنسان مع مشاعره ودوافعه النفسية، وإنه لوقْفٌ بين اختيارين لا ثالث لهما، أحدهما يُرضي الله عز وجل، ويخالف النفس والهوى، وثانيهما يرُضي الرغبة ومشتهياتها ويخالفُ أمر الله . إذا تبين لك الفرق، فلتعلم أن لا حرج ولا مانع من أن ينال السلوك من صاحبه شعور الرضا أو شعور بنقيضه، بل المطلوب من الإنسان أن يرضى عن العمل الصالح الذي وفقه الله له، وأن يكره العمل السيء الذي تورط فيه، وقادته النفس إليه.وعندما يرضى المسلم عن عمل صالح يَسَّره الله له وهداه إليه، فهو لن يُترجَم لدى التحقيق إلا بشكر الله عز وجل على ذلك، ومن ثم فإن أبعد ما يكون عن الإعجاب الذي نهى الله عنه، و أبعد ما يكون عن الرضا بالنفس، وإذا لم تتوافر لدى المسلم حَوافِزُ الرضا عن العمل الصالح الذي وُفق له،فلن تتوافر لديه إذن حوافز الكراهية للعمل القبيح الذي قد يَتورَّط فيه.. إذ يسقط بذلك،في تقديره، الفرق بينهما. غير أن على من رأى أن الله يوفقه للأعمال الصالحة ويُحَببها إليه، أن لا ينسب الفضل إلى نفسه، فيزعم أنها تسامت فوق شهواتها وأهوائها، وأصبحت مُبرأة من النقائص والغرائز الحيوانية بل عليه أن يعلم ان النفس ما زالت أمارة بالسوء، وأنه على خطر من وساوسها، وحوافزها، وإنما تداركه الله فأقدره على مخالفتها والتحرر من سلطانها، وبذلك يستغرق في مشاعر قُدسية وعلوية من شكر الله عز وجل،اقرأ إن شئت قوله: ويُطعمون الطعام على حُبه مسكينا ويتيماً وأسيرًا (الإنسان) ألا ترى قوله ”على حُبه” كيف أوضحت أن نفوسهم ما تزال على حالها من الشراهة وحب المال والتكالب عليه، ولكنهم بتوفيق من الله عز وجل جاهدوا أنفسهم وتسامو عن أهوائهم ورغائبها سعيا إلى مرضاة الله عز وجل. إن من يدعي أنه قد تخلص من الميل إلى هذه الشهوات في مرحلة من المراحل بالكلية، نقول له: أنك لم تعد مكلفا من قبل الله بشيء، إذ أصبحت نفسك سبَاقةً بكامل رغبتها وسرورها إلى هذا الذي يأمرك الله به، ولابد أن يصبح أمره عندئذ عبثاً وثوابه عليك باطلا!!.. لكن أمرُ الله نافذ وسيظل نافذا في حق عباده أجمعين. فالنفس البشرية تظل نَزَّاعة إلى شهواتها وأهوائها، ما دامت الحياة باقيىة، مع تفاوت في ذلك من حيث الكم والنوع، مابين الطفولة والشباب والكهولة والهرم يقول الله تعالى:”زيِّنَ للنّاس حُبُّ الشَّهوات مِنَ النّساء والبَنِينَ والقَناطِير المُقَنطَرَةِ من الذَّهب والفِضَّة والخَيلِ المُسَوَّمة والأنعامِ والحَرث ذلكَ متاعُ الحَياةِ الدُّنيا واللَّه عندَهُ حسْنُ المَآب. (آل عمران) أما عن السبيل إلى أن يكون المسلم غير راض عن نفسه حتى لا يتورط في الانقياد لها، فهو الامتثال إلى الله باستعمال دوائه، ذلك كله لأن الله قضى أن يكون الإنسان خطاء، قال تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفا (النساء)، ومنه فلابد أن يكون دائم الحذر على ذاته من نفسه. ويشير ابن عطاء في آخر حكمته إلى أن العلم يظل وسيلة وليس غاية، ولا يرقى أن يكون غاية في أي حال من الأحوال، فإما أن يُتخذ وسيلةً لإنارة الدرب أو وسيلة للمكر والخداع وإيذاء الآخرين. ومنبع الهداية والاستقامة أن يكون دائم الخوف على ذاته من نفسه، وأن يكون غير راض عنها، وبذلك تصبح العلوم والمعارف مصابيح هداية. وتتحقق معنى النفس المطمإنة، قال تعالى: ياأيَّتُها النَّفسُ المُطمئِنةُ،ارجِعي إِلَى ربِّك راضِية مَرضِيَّة فادْخُلي في عبادي وادخُلِي جَنَّتي . (الفجر) المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)