الثورجية في مصر - الذين يمتلكون حقوق ملكية ثورة 25 يناير (يعلم الله من أعطاهم هذا الحق وتحت أي مشروعية) أثاروا ”هوجة” في وسائل الصحافة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وطبعا الفضائيات المدعومة بسخاء من الأقزام الذين بدوا للحمقى كبارا. الهوجة تدعي أن الثورة راحت وسُرقت من المصريين. السبب؟ إسقاط المحكمة التهم عن الرئيس المخلوع حسني مبارك، في قضية موت المتظاهرين في ثورة ال18 يوما. وجدت نفسي مشاركا في أكثر من برنامج في فضائيات باللغة الإنجليزية تناقش القضية من منظور سياسي لا قانوني. أدمن معدو البرامج على إشراك الإخوانجية والإخوانجيات الهستيريات ومعلقين عرب (لا مصريين) من الفيلق الناصري العروبجي، وغاب القانونيون عن برامج مناقشات حكم قضائي. حاولت أن أركز على النقاط القانونية والقضائية، ومقدمو البرامج مصرون على أنها لعبة سياسية لإجهاض الثورة وإعادة المباركيين. القضاء عادة لا يعطي وزنا للاعتبارات السياسية أو الآيديولوجية أو حتى الأخلاقية، بل يتعامل في إطار القانون (ما يعد أدلة قانونية وما ينظمه القانون من عقوبات أو غرامات) في إطار عرف القضاء وتقاليده. الرئيس السابق مبارك يقضي بالفعل عقوبة الحبس في قضايا تتعلق بسوء الإدارة والتفريط في المال العام وإهداره. القضية الثانية أكثر خطورة، لأنها تتعلق بمسؤولية قتل متظاهرين. المحامون، سواء في النيابة كادعاء (مكتب المدعي العام في تسمية أخرى)، أو في الدفاع أو هيئة القضاء، والمحلفين (في البلدان التي تتبع هذا النظام) يقدمون الأدلة ويفحصونها كأدلة لا تدع مجالا للشك. أدلة مادية كالبصمات وعينات من الحامض النووي DNA للمتهم في مكان الجريمة، وأدوات القتل وملحقاتها، كأداة حادة أو أسلحة نارية (وتشمل أدلة طب شرعي، كمطابقة طلقات رصاص في جسم الضحية للسلاح الذي أطلقت منه في حوزة المتهم، وحجم الثقب الذي نفذت منه الطلقات إلى جسم الضحية) وأدلة مادية - ظرفية كصور للمتهم يصوب سلاحه نحو الضحية أو يهدده به، أو صور فيديو كاميرات الحراسة، ومكالمات مسجلة للمتهم يحرض على القتل أو يأمر به، أو وثائق إصدار أوامر إطلاق النار على الضحايا بتوقيع المتهم. ثم أدلة الشهود بعد حلف اليمين بأنهم شاهدوا المتهم يطلق النار أو يعطي الأوامر محرضا على إطلاق النار. وعادة ما يحاول الخصم (الدفاع أو الاتهام) إعادة استجواب الشهود ومقارنة أقوالهم ومدى دقة حاستي السمع والبصر لديهم، وإذا كانوا محايدين أو يحملون ضغينة. وعادة لا يأخذ القضاة بشهادة الشهود وحدهم أو حتى اعتراف متهم كأدلة منفصلة، بل كمكمل للأدلة المادية والظرفية. تفاصيل ضرورية لفهم لماذا صعب على هيئة المحكمة أن تجد أدلة كافية للحكم بإدانة رئيس أسبق، أو وزير سابق في تهمة قتل المتظاهرين. وقد يكون مبارك ووزراؤه مذنبين فعلا، وقد يكونون في براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لكن ما قدمه الاتهام من أدلة لم يكن كافيا للإدانة من الناحية القضائية. وحتى لو وجدت الأدلة بالفعل، فإن مبارك يكون مذنبا فقط في تهمتي التحريض على قتل المتظاهرين أو التآمر على قتل المتظاهرين، وليس قتل المتظاهرين، لأن ذلك، من وجهة نظر الأدلة القانونية، يعني إثبات أنه أمسك بسلاح ناري بنفسه وأطلق الرصاص على الناس. للأسف، يصر الثورجية المصريون - ومحللو الفضائيات غير المصريين (لدوافع أخرى) - على أن محاكمة رئيس سابق لا بد أن تكون سياسية. ولا أعرف بالضبط معنى المحاكمة السياسية أو محاكم الثورة (الفرنسية والصينية والبلشفية والإيرانية) سوى أنها غطاء لتشريع مهرجانات القتل الجماعي الهمجية التي يتخلى فيها الأفراد عن إنسانيتهم وإيمانهم بالعدالة، فتذوب هويتهم في كتلة غوغائية متعطشة للدماء بدوافع الانتقام، عائدين لا شعوريا لبدائية إنسان ما قبل العصر الحجري. وإذا كنا نريد لمصر التقدم والازدهار (أو العودة للماضي القريب فيما قبل أزمة مارس ”آذار” 1954) أليس من الأفضل إعلاء حكم القانون وكلمته وتساوي الجميع أمامه؟ ألا يعني ذلك المحافظة على استقلال القضاء وتعصب العدالة بقناع العمى؟ العدالة عمياء ممسكة بميزان حساس؛ فهي لا ترى مراكز قوة أو ضعف، لا ترى ظروفا سياسية أو آيديولوجية، وإنما تزن الأدلة في ميزانها. وإذا كانت ثورة 25 يناير اندلعت للإصلاح وإنهاء الفساد والتقدم بالمصريين، فإن ثورة 30 يونيو كانت بالضرورة لإعادة حكم القانون، ومنع ”الإخوان” وإرهابهم من القضاء على القانون ومؤسساته. ألم يصرخ هؤلاء الثورجية: ”يا للهول”، عندما أقال الرئيس محمد مرسي النائب العام والقضاة (لأن النيابة طلبت استدعاءه في تهمة قتل حراس سجن وادي النطرون أثناء هربه بمساعدة مسلحين من حماس)؟ ألم يحتج الثورجية ويشاركون في وثيقة العشرين مليونا مطالبين مرسي بالاستقالة، عندما حاصر بطلجية ”الإخوان” وإرهابيو جهازهم السري المحكمة الدستورية لمنع القضاة من النظر في قانونية الأوامر الجمهورية التي صدرت ضد استقلال القضاء؟ احتجاجات اليوم تناقض مواقفهم السابقة، وتشكل سابقة جد خطيرة في سحب مصر بعيدا عن طريق الاستقرار - ومصابيح إنارة هذه الطريق هو حكم القانون واستقلال القضاء - والانحدار نحو الفوضى ومحاكم الغوغاء، ونصب المشانق على أعمدة الكهرباء، كما شاهدنا في بلدان الاضطرابات، وهو ما لم تشهده مصر قط. الأفضل أن يوجه الثورجية المصريون طاقاتهم نحو اليقظة لما يحيط بمصر من أخطار، وها هم إرهابيو البغدادي والظواهري و”داعش” من حلفاء ”الإخوان” يقيمون معسكرات التدريب على حدود مصر في صحراء ليبيا. على الثورجية وموجهي الرأي العام في مصر إعداده لمرحلة جد خطيرة، وعليهم أن يطالبوا الجيش والطيران المصري بشن أعنف الغارات المستمرة على هذه المعسكرات لتدميرها تماما، واجتثاث هذا السرطان الخبيث، قبل أن يتسلل عبر الحدود إلى مصر. القانون الدولي واضح؛ المادتان 51 و52 تمنحان مصر الحق الكامل في شن الغارات، بل ودخول الأراضي الليبية لاستئصال المعسكرات والقبض على مجرمي ”داعش” وتقديمهم للمحاكمة. القانون نفسه الذي وظفته أميركا والتحالف لتشريع غزو أفغانستان، والتدخل في الصومال وبلدان الكاريبي وأميركا الوسطى، واستخدمته كذلك إسرائيل في غارات متعددة على معسكرات الفدائيين الفلسطينيين في لبنان والأردن. فالقانون والالتزام به، سواء قانون البلاد أو الدولي، يعني الاستقرار، ويعني أيضا التعامل بحزم وقوة مع الأخطار التي تهدد أمن الوطن، مثل حق مصر في تدمير معسكرات الإرهابيين في ليبيا أو في أي بلد مجاور، إذا كان وجودها يشكل تهديدا لأمن مصر، وهو حق مشروع في القانون، إذا تذكر المصريون احترام القانون.