يقول ابن عطاء الله السكندري: ”متى وردت الواردات الإلهية إليك،هدمت العوائد عليك (إنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها)”. لعلك قد علمت الفرق بين المعارف التي تسري إلى العقل عن طريق التعلم والمعاناة والتأمل، وإعمال الفكر،وبين الحقائق التي ترد إلى القلب رأساً من لدن العالمين جل جلاله.. إن المعارف التي تسري إلى العقل بطرقها المألوفة من تعلم وإعمال للفكر ونحو ذلك،لا تقوى دائماً على كنس الأوهام الباطلة والرغائب الهابطة والعوائد السيئة من القلب أو النفس، ذلك لأن المعارف التي تسلك إلى صاحبها هذا السبيل لا تجد مستقرها إلا في الوعي والعقل، ولا سلطان لأي منهما على النفس ولا على شيء من عواطف القلب ووجدانه. وقد سبق أن ذكرت لك في أكثر من مناسبة أن الذي يتحكم بسلوك الإنسان إنما هو-على الأغلب- عاطفته القلبية ورغائبه النفسية. ولو كان السلوك الإنساني إلى العقل وقراره، لما احتاجت المجتمات الإنسانية إلى أن تأخذ ناشئتها بمبادئ التربية،وقد علمت أن التربية مهما اختلفت مناهجها وتطورت مفاهيمها،لا تعدو أن تكون إلا سعياً إلى إخضاع العاطفة والرغبات النفسية لما يقضي به العقل. ولعلك تعلم أن المجتمع كان ولا يزال مليئا بالعلماء الذين حشيت عقولهم بالعلوم والمعارف التي تضعهم أمام حقائق الكون والبراهين الناطقة بوجود المكون ووحدانيته، ومع ذلك فقد بقي سلوكهم وما تنطق به ألسنتهم بمعزل عن الالتزام بما تقضي به معارفهم وعلومهم التي حصلوا عليها وخزنوها في أوعية مداركهم وعقولهم، وإن جلّ المستشرقين، فيما تراه من مخزوناتهم العلمية السامية وأعمالهم السلوكية التائهة،مظهر دقيق لهذه الحقيقة. بل أكثر ما تجد في المسلمين من حملوا في عقولهم من العلوم التي من شأنها أن تقربهم إلى الله وأن تجعلهم المثل الأعلى في السلوك الأخلاقي وصدق العبودية لله عز وجل، ولكنك تنظر فتجدهم أبعد ما يكونون عن الانضباط بمقتضات تلك العلوم، وتتأمل فتجد أنهم إنما اتخذوها في حياتهم ابتغاء رزق، ومطيّة إلى رغبة من رغبات النفس، وخادما لتحقيق عاطفة أو هوى مما يهتاج به القلب، والذي أعنيه، أن عملية التعلم لا تثمر وحدها الانضباط بالسلوك المنسجم مع مقتضيات ما استقر في الذهن من المدركات والحقائق العلمية، بل لابدَّ معها من وجود العامل التربوي الذي يؤخذ به المتعلم، طبق الوسائل التربوية السليمة. أما الحقائق العلمية التي تأتي ضمن واردات متجهة من الله تعالى إلى القلب مباشرة، فلها شأن مختلف، وأنت تعلم أننا إنما نعني هنا الحقائق العلمية المقربة إلى الله تعالى والتي من شأنها أن تنبه الإنسان من سكرة أهوائه وغفلاته. إن الواردات التي تفد إلى قلب الإنسان من تجليات الله وفيض رحماته، لا تتجه إلى العقول لتستقر وتُحبس فيها على سبيل الدراية لها والعلم بها، وإنما تتجه رأساً بمؤثراتها وساطعات أنوارها إلى القلوب، وقد علمت أن القلوب هي أعشاش العواطف والرغائب، وهي مكمن الأشواق والتعلقات والأهواء. فما ظنك بقلب تراكمت فيه ظلمات الأهواء والرغائب والغرائز الشهوانية، ودواعي الحنين إلى زيف الحياة الترابية، وفجأة تلقى من خلال تجليات الله عليه واردات ملأت جوانبه بساطعات الأنوار الربانية، ثم ما هو إلا أن انجلت هذه الأنوار عن حقائق علمية وجدت مستقرها فيه يقيناً ووجداناً؟ مما لا ريب أن بوارق هذه الواردات التي استقرت في حنايا القلب، تبدد كل ما قد تراكم فيه من الظلمات الأهواء والرغائب الجانحة وما يعبرون عنه بالأمراض القلبية الكثيرة، وذلك هو شأن النور إذ يداهم فلول الظلام. وتجسيدا لهذه الحقيقة، ورغبةً في إبراز واقعها المجرب والمتكرر في حياة الذين تعرضوا لهذه الواردات أيدها ابن عطاء الله بالمعنى الذي دلّ عليه قوله تعالى:”إنَّ الملوك إِذا دَخَلُوا قريةً أَفْسَدوها”(النمل). ومكمن التأييد الذي قصد إليه ابن عطاء الله،إنما هو التنظير وليس القياس أو التشبيه، فليس بين الواردات الإلهية وملوك الأرض من تناسب بينهما يبرر الربط بينهما بأي تشبيه أو قياس، وليس بين ما تحدثه الواردات الإلهية في القلب من إحلال نور الهداية والعرفان فيه، وما قد يحدثه الملوك لدى اقتحامهم مدينة ما من أعمال الفساد فيه ،أي تناسب يبرر الربط بينهما بأي تشبيه أو قياس. ولكن الآية إنما سيقت مساق التنظير،للتركيز على المعنى المراد وتأكيده، وهو أن من شأن الواردات الربانية إذا اتجهت أشعتها إلى القلب أن تطرد فيه ما قد تراكم فيه من الظلمات والأهواء والرغائب والعواطف الترابية الغريزية الجانحة. دعني أضعك الآن أمام نموذج يبرز واقعية هذا الذي يقرره ابن عطاء في حكمته هذه. فضيل ابن عياض، كان في أول امره مسرفاً على نفسه قاطع طريق،لصاً تسور البيوت في ظلمات الليالي ليسرق ما فيها، وكان يختلف إلى فتاة يهواها،وبينما كان يتسور جدار دار في الهزيع الثاني من الليالي ليفوز بما قد يعثر عليه فيها من مال، سمع صوت تال يتلو قول الله تعالى: ”أَلَم يَأْنِ للَّذين آمَنُوا أَنْ تخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكرِ اللهِ ومَا نَزَل مِنَ الحقِّ وَلا يَكُونُوا كالَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَستْ قُلُوبُهُ”(الحدد). ما إن طرقت هذه الآية الربانية سمعه، حتى سرت منها شعلة إلى قلبه الذي تكاثفت فيه ظلمات الانحرفات والأهواء،فأنارت مصباحه المنطفئ وأوقدت شعلته الخامدة، وإذا هو ينادي بصوت مجلجل اخترق سكون الليل من حوله: بلى يارب.. لقد آن! وتحول في اللحظة ذاتها فسقط في المكان الذي تسلّق، وأسرع كالملدوغ لا يلوي على شيء، هارباً من ماضيه كله. إن الذي تلقى منه كلمات هذه الآية التي طرقت سمعه، لم يكن وعيه وعقله.. بل اتجهت قبسا من نور،من خلال وارد رباني، إلى قلبه مباشرة، فلما استضاء قلبه بساطع نورها، تبددت الظلمات المتراكمة فيه، وتساقطت من جنباته الأهواء والرعونات التي كانت عالقة به، واستيقظت الفطرة الإيمانية التي أودعها الله في الروح الإنسانية أياً كان صاحبها، فعثر على هويته عبداً مملوكاً له ولياً لأمره قيّوما على هويته عبداً مملوكاً لله، واهتدى إلى ربه مالكاً له ولياً لأمره قيّوما على شأنه، فانطلق هارباً من ماضيه، باحثاً عن أقرب سبيل للاصطلاح مع ربه. ولو أنه استقبلها بعقله وتفكيره أولاً، إذن لما أعطاها من تفكيره أكثر من لحظات، هذا إن استوقفه العقل للتفكير فيها،ولأقبل إلى شأنه الذي جاء من أجله، لأن رعونته النفسية كانت هي المهيمنة عليه إذ ذاك، وهيهات للفكر أو الوعي أن يقاوم هياجها واندفاعها.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء..يقول تعالى: ”اللَّه يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيهِ مَنْ يُنِيبُ”.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي