أسرار القلوب. يقول ابن عطاء الله السكندري: ”مطلع الأنوار، القُلوبُ والأسرار” تطلق كلمة القلب عند علماء الطب والتشريح على العضلة الكامنة في أسفل الجانب الأيسر من الصدر، والتي أنيط بها أجل وظائف الحياة..غير أن المعنى الذي يقصد إليه بيان الله في القرآن، ومن ثم علماء السلوك والتربية، بكلمة ”القلب”شيء آخر فما هو المعنى الثاني الذي يقصدون إليه؟ بعضهم يرى أن المراد بالقلب العقل، وربما استدلوا على ذلك بقول الله تعالى: ”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كَانَ لهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمعَ وَهُوَ شهيدٌ”(ق).أي لمن يتمتع بأدة الإدراك والفهم، وإنما أداتهما العقل. وبعضهم يرى أن المراد بالقلب العواطف الدافعة والرادعة والممجدة إذ تتجلى فاعليتها على القلب ذاته بمعناه الطبي، ومرادهم بهذه العواطف الثلاث، الحب، والخوف، والتعظيم والتمجيد. والحق أن القلب ورد في القرآن بكلا المعنيين، ورد بمعنى العقل كما استشهدنا سابِقا وورد بمعنى السر الذي ينعكس على عضلة القلب فتنبثق منه العواطف الثلاث وذلك في مثل قوله تعالى: ”ثمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلكَ فَهِيَ كَالحِجارةِ أَوْ أَشَّدُ قسوةً”(البقرة) ومثل قوله تعالى: ”أَلَمْ يَأْنِ للَّذِينَ آمنُوا أَنْ تَخشعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله”(الحديد) إذ من الواضح أن قسوة القلب وخشوعه ووجله من عوارض العاطفة لا العقل والإدراك. بل بوسعنا أن نقول كلمة وجيزة جامعة، عن الأسرار الثلاثة. الحياة، والإدراك، والقلب الذي هو مكمن العواطف، وهي أن مصدر هذه الأسرار الثلاثة إنما هو الروح، الذي هو سر هذه الأسرار الثلاثة كلها، إذا أشرقت على الخلايا من الجسد تكون فيها ما نسميه الحياة، وهي الثمرة الأولى للروح، وإذا أشرقت على حجيرات الدماغ تكون فيها ما نسميه العقل والإدراك، وإذا أشرقت على عضلة القلب انبعثت منه عاطفة الحب والخوف والتعظيم. وهذا يعني أن الوعي والإدراك إنما يشرقان بسرّ الروح على الدماغ لا على القلب، كما ظن بعضهم، فإن وجدت من يعبر بالقلب على العقل والوعي فذلك تعبير مجازي من قبيل ما يسمونه بالاستخدام.. على أنني أنبه إلى أنه لا الدماغ ولا عضلة القلب ليس لأي منهما تأثير الوعي والإدراك ولا على شيء من العواطف، وإنما شاء الله أن يكون كل منهما مظهراً لتجليات الإدراك والعواطف.. نخلص من هذا الذي قلناه إلى أن المراد بكلمة القلب في هذه الحكمة، السر الذي يشرق على عضلة القلب فتنبثق منه مشاعر الحب والخوف والتعظيم، وليس المراد به هنا العقل والإدراك، على مذهب من يطلقون كلمة القلب عليهما.. لكن ما صلة الروح بهذه العواطف حتى تكون ثمرة لإشراقها على القلب؟ أساس هذه الصلة ما هو معروف من أن الروح سر من أسرار الله، وأن الله عز وجل نسبها إلى ذاته العلية بقوله: ”فَإِّذا سوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لًهُ ساجِدِنَ”(الحجر) فهي وثيقة الصلة بالله، وعندما قضى الله بحكمته السامية أن تحبس داخل هذا الجسد الإنساني إلى حين، إنما أهبطها إليه من الملأ الأعلى الذي كانت منعمة فيه مستأنسة به.فهي تظل اليوم -وهي في محبسها من هذا الجسد- تعاني من الشوق والحنين إلى العالم الذي أهبطت منه، وإلى خالقها الذي ميزها بأسرار القرب منه وشرف النسبة إليه وقد صور ابن سينا هذه الحقيقة بأبلغ بيان في قصيدته التي افتتحها عن الروح بقوله: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزّر وتمّنع. ولما قضى الله عز وجل أن تكون عضلة القلب محلاً لتجلياته ظهرت كوامن الشوق والحب والمهابة في طوايا الروح لله عز وجل، عندما أشرقت الروح على القلب الذي جعله الله شرطا ومظهراً لتلك المشاعر. ولكن لماذا لا تنصرف هذه المشاعر بمقتضى هذا الذي تم بيانه إلى الله دون غيره؟ إنَّ المشاعر عندما لقي بظلالها على القلب، ترى فيها الغرائز والشهوات النفسيةُ التي تحيط بالقلب، خير ترجمان لأهوائها وأشواقها فتقيدها وتصادرها لحسابها، فيخيل إلى صاحب هذا القلب أن حنينه إنما هو إلى الصور والأشكال التي تعلقت بها غرائزه، وأن حبه إنما هو لفلان أو فلانة من الناس أو للزخارف الدنيوية التي تهفو إليها نفسه، فيلتبس عليه من جراء ذلك، الحب القدسي الهابط إليه عن طريق الروح، بالحب الغريزي الهابط إليه عن طريق الغرائز والنفس، ويمتزجان لتصبح الغلبة لصوت الغرائز والأهواء، ولتغدو المشاعر العلوية التي أشرقت على قلبه ترجمة لرعونات نفسه ورغائبها. وهنا تتجلى المهمة التربوية التي يجب على السالك أن يأخذ نفسه بها، إنها تتلخص في أن يعمل جاهدًا على إزالة هذا اللبس، وعلى فك الاشتباك بين المشاعر القدسية الفطرية الهابطة إليه عن طريق الروح، والمتمثلة في محبة الله ومهابته وتعظيمه، وبين المشاعر الغريزية المتسربة إلى قلبه عن طريق الشهوات والأهواء النفسية. والسبيل إلى فك هذا الاشتباك الإكثار من ذكر الله ومراقبته، بالسبل والآداب التي حدثتُك عنها في أكثر من مناسبة مرت..وأيسر طريق لمراقبته وذكره أن تربط النعم بالمنعم المتفضل بها عليك.. ”ومن لم يجعل اللهُ له نوراً فما لَه ُمن نُور”(النور) المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي