ثمة حقيقة يجب الاعتراف بها - وإن كانت مُرّة - وهي أن ”الإرهاب الفوضوي” اليوم هو طرف فاعل في السياق الإقليمي، وقد تجاوز مرحلة التكوين والتبني من قبل قوى إقليمية واستخباراتية بسبب إهمال الحالة السورية وتركها إلى ما آلت إليه؛ بحجة أن نظام الأسد الدموي أقل خطورة من الإرهاب و”القاعدة” و”داعش”، وهي حجة أثبتت الأيام سقمها، وأظهرت أن تحرّك العنف الفوضوي الذي يقوده ”داعش” و”النصرة” و”القاعدة” وعشرات الفصائل الصغيرة، هو تحرّك واعٍ بنفس سياسي، وليس مجرد حركات ساذجة تبحث عن خلاص أخروي، ومجتمعات منغلقة صغيرة لا تتجاوز محميات التدريب كما كانت الحال في ”التجربة الجهادية” منذ أفغانستان ومرورا بالبوسنة والهرسك والشيشان والصومال.. إلخ، والتي يمكن قراءة سياقها التاريخي من الداخل في كتاب أبو مصعب السوري ”المقاومة الإسلامية العالمية”. اليوم واقع جديد، فالحركات العنفية تخّلت عن عزلتها وباتت أكثر انفتاحًا على فروقات الواقع على الأرض، كما أن الخلاف الخجول بين مختلف الجماعات الإرهابية أصبح الآن دمويًا وشرسًا وصراع تصفية، وهو ما يدل على أن ثمة اختلافا في الأهداف الاستراتيجية لكل جماعة، وإن كانوا يتفقون على لغة ومفردات ومفاهيم الخطاب الذي يصدرون عنه، وهو مهم جدًا لكي نكفّ عن محاولة فهم مسار الإرهاب من خلال لغته الدينية التي هي - كما هي الحال في كل الفضاءات الدينية المعتدلة - موجهة للذات وللأتباع، ولكنها ليس لها أي تأثير على مواقف الجماعة السياسية. الصراع الإقليمي في الشام أخرج كل المشاريع الانقلابية ونيات بناء ”دول الخلافة” وليست دولة واحدة، فبعد احتلال ”داعش” تدمر والرمادي، فتحت نوافذ الأسئلة حول ما هي المناطق التالية بعد أن قويت شوكة ”جبهة النصرة”، المنافس الأشرس ل”داعش” الذي يتمدد بوتيرة مثيرة للقلق ومثيرة للسخط أكثر إذا ما تأملنا البرود الأميركي في التعليق على كل ما يصدر من ”داعش”. هدف ”جبهة النصرة” من ظهورها الإعلامي الأخير، كما جاء على لسان أميرها، هو انتزاع الشرعية من ”داعش”، والاحتفال بالانتصارات الأخيرة في إدلب وجسر الشغور وأريحا، كما أن حجم التهديدات المرسلة التي أطلقها بلا خطام ولا زمام الخليفة المرتقب الجولاني تجاه الجميع؛ من نظام الأسد إلى ”داعش” إلى حزب الله وإيران، يدلّ على نية لتقليد ”داعش” في التكنيك، لكن مع اختلاف الأهداف والمسار، ويزيد الأمر سوءًا إذا ما علمنا بامتداد ”جبهة النصرة” وشعبيتها في بعض البلدان بما يفوق حضور وسمعة ”داعش” أو ”القاعدة” التقليدية كما هي الحال في لبنان التي خصّها الجولاني بالذكر. صعود الإرهاب الفوضوي الآن بوصفه قوة إقليمية مستقلة، مردّه إلى أسباب تقليدية من تراجع قوة ”الدولة”، ودخول عدد من الدول الحدودية مع سوريا في حالة ”انكماش” أمني، فهي من جهة غير قادرة على مواجهة ”داعش”، وتخشى من اعتراض هذه المجموعات التي قد تستهدفها في الداخل بعد أن زرعت ”داعش” عددًا كبيرًا من خلاياها حول عواصم العالم، وهو أمر لا تخطئه العين لمن يقرأ ”معرّفات” داعش النشطة على ”تويتر” والبلدان التي تغطيها. ضعف الدولة يرافقه ضعف حتى المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، في بناء تصور واضح حول ”إرهاب المنطقة” في نسخته السنية أو الشيعية (الفروقات بين النسختين شكليّة). وبالتالي، فإن جزءًا من هذا الصمت يمكن فهمه في سياق انتظار أن تقوم التنظيمات بتصفية بعضها بعضا دون تدخل، وهو أمر مستبعد إذا ما علمنا بأن كل تنظيم يفضل أولوية التوسع وبناء المعسكرات واستقطاب الكوادر، أكثر من تصفية الخصوم أو استهداف النظام على الأقل في هذه المرحلة. رسائل الجولاني لا تقل دموية وخطورة عن أبو بكر البغدادي وعن كل قادة ورموز ”القاعدة” وأخواتها، ومجرد هجومه على النظام أو ”داعش” لا يعني أن نبرر ”إرهابه الناعم”، إذا ما جاز التعبير، ومن يعتقد أن وجود جماعات التطرف والعنف مؤقت كما كان في السابق ينتهي بمجرد تحرير الأرض، فهو يخيط عباءة من الأوهام الكبيرة التي يكذبها واقع العراق وليبيا والشام واليمن وسيناء مصر وتونس.