حددت العلاقة التركية - العربية بالعثمانية حتى أكون مشارفاً للدقة، إذ هي المرحلة القاتمة للعلاقة بينهما، ومن دون تحديد لهذه اللحظة فإننا سننزل حتى بداية التماس العربي - التركي العفوي الذي بدأ عام 54 للهجرة، ، إذ ظلت العلاقة بين العرب والأتراك منذ دخولهم الإسلام سجالية لا ترقى إلى مرحلة الطغيان حتى اللحظة العثمانية المظلمة. فجأة ومن دون مقدمات تبلور التعارف أو التقارب العربي - التركي، بل وأضحت تركيا مهجوسة بالأمن والوعي والمستقبل العربي، وبات الإسلامويون العرب يرون في تركيا شيئاً آخر غير المختزن في اللاوعي والذاكرة العتيقة المريرة تجاه العثمانيين. قبل الثورات العربية بدأت القنوات العربية تضخ المسلسلات التركية، التي تشتمل في تلافيفها القيم غير المتسقة مع قيمنا الاجتماعية، وهنا كانت بداية اكتشاف الجمهور العربي لتركيا فحسب، التي تلاها الدهشة من العالم التركي من قبل العرب الذي استكمل الإعجاب بالتوجه للسياحة والاستثمار في تركيا، وذلك كجزء من ذهنية الانفتاح التركي على المحيط العربي مع وصول حزب العدالة الإسلاموي إلى السلطة في تركيا بعد دهر من الانكفاء أو الاحتجاب عن محيطها العربي. تركيا الأردوغانية تجاوزت هذا الانكفاء الجغرافي التاريخي مع جيرانها العرب، وما كان يحفه من نأي عن التدخلات مع دول الجوار والمحيط العربي، خصوصاً كما كانت السياسة التركية منذ عقود. مع وصول حزب العدالة الإسلاموي، بدأت بوادر الرغبة في الانفتاح على الجيران والتواصل ”الندي” المموه بتصفير المشكلات مع الجيران، لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ تغيرت الرؤية السياسية التركية التي كانت تعتمد الحياد وذلك لحظة محرقة الثورات العربية، لمرحلة أن نصبت ”تركيا أردوغان” أو بالأصح ”تركيا أوغلو” التوسعية إلى شرطي ومسؤول عن الثورات العربية، وتحولت تركيا إلى عنصر تعبئة وتأجيج وتخريب، رغبة في الهيمنة والتمكن من العبث والهيمنة في الجغرافيا العربية أولاً، وثانياً لتدعيم الإسلام السياسي العربي ”الإخوانية” الذي تتقاطع معه آيديولوجياً. السؤال الأهم برأيي عن سر الحميمية والعشق الذي يجده الإسلامويون العرب في الأحضان التركية العثمانية؟ برأيي يعود لأمرين يتداخلان ويتخارجان في الآن نفسه: الأول: عدم ارتباط الإسلامويون العرب بعمقهم القومي (العروبة) بما تحفل به من تاريخ وأمجاد وحضارة، وباعث ذلك هو التعالي على العروبة بوصفها قومية، وأن الإسلام هو القيمة الأعلى التي تنضوي فيها القوميات والعرقيات. هكذا تعاطى الإسلامويون العرب مع مفهوم العروبة بموازاة الإسلام، وأن التماهي بالدين بالضرورة يشتمل القطيعة مع القومية، وأحياناً الحرب عليها باعتبارها جاهلية ووثنية لا تتسق مع المنطلقات الدينية. هذه الذهنية الحركية لا تدرك ولا تريد أن تدرك أن الساسة الأتراك ”الأردوغانية العثمانية” وإن دشنوا الخطاب الديني الوجداني فإنهم لا يفتأون سراً وجهراً عن الاحتفال بالقومية التركية الطورانية المتعالية، في الوقت الذي يزينون فيها شعاراتهم السياسية بالخطابات الروحية. الثاني: يوتوبيا أو عقيدة الخلافة التي ترعرعت باكراً في الفكر الإسلاموي الإخواني لحظة نشوئه بعد سقوط ما يسمى ”الخلافة العثمانية” ظلت مستبطنة وقارة عميقاً غور البطانة الشعورية في الإسلام السياسي العربي عموماً والإخواني خصوصاً، وظل حلم الخلافة الصوتيم الأهم في فكر الإسلام السياسي العربي فإنه بقي مهجوساً بمهد آخر خلافة إسلامية لعقود متطاولة، تماس هذا الحلم لحظة الثورات العربية بطموحات الأفندية والباشوية العثمانية الجديدة، التي تخلقت مع الحزب التركي الحاكم إسلاموي الخطاب ”العدالة والتنمية”، التي تسعى إلى التوسع على حساب العالم العربي مهجوساً بذكريات الإمبراطورية العثمانية، وليس ذلك سراً فقد ألمح إلى ذلك أحمد داود أوغلو بأحقية تركيا في التوسع على حساب مستعمراتها القديمة، يعني بذلك المحيط العربي، المشكلة أن عرابي الإسلام السياسي العربي بسبب ضعف مكونهم السياسي والفكري والقومي لا يمتلكون الوعي الذي يمكنهم من فهم العبث والرغبويات والأطماع السياسية التركية، ولذلك تماهوا مع السياسة التركية التوسعية معتبرين أنها الطريق إلى الجنة (جنة الخلافة)، ولم يضعوا نصب إدراكهم أنه لا يوجد في السياسة حميميات وعشق أو دين وقيم، ولذلك مارست السياسة التركية الاستثمار في جماعات الإسلام السياسي العربي، وعلى رأسها جماعة الإخوان وجعلتها حصان طروادة في تدخلاتها في العالم العربي. الإسلامويون العرب تعاطوا التبادل العاطفي مع الذهنية السياسية الأردوغانية، وذلك من طرف واحد وذلك عبر التواصل مع الأتراك من خلال الحميمية الدينية المبتوتة تماماً عن العمق والمصالح القومية، بينما الأتراك يستبطنون البعد القومي ويعتبرونه الأساس في سياستهم، وإن خاتلوا الإسلام العربي بالطموحات الدينية ويوتوبيا الخلافة، التي هي خدر الوعي في البطانة الشعورية لدى الإسلام السياسي العربي البئيس فكرياً وسياسياً. المأزق والتهافت الفكري في المدرك الإسلاموي العربي يستكن في هشاشة وضمور اللاوعي والذاكرة التاريخية أو انفصالهم عنها، وذلك في عدم استيعابهم واستعادتهم لذكريات التاريخ العثماني العربي المرير، وما اشتمله من قرون مظلمة مقتصة من التاريخ العربي، وكيف كانت تلك القرون الأربعة للهيمنة العثمانية على العرب صفحات معتمة ومؤلمة للذاكرة العربية التي لا تجد في العثمانيين غير الاستبداد والظلم، والأخطر من ذلك السحق والتفكيك المنهجي للهوية والوعي العربي، كيف لذاكرة الإسلام السياسي العربي أن تمنح حلمها وطموحاتها لقومية تحمل الصَغار والتدوين للجغرافيا والتاريخ العربي، لا يحتاج الباحث إلى حفريات عميقة لتقصي ومناشدة التاريخ، ليكتشف كيف كان الأتراك العثمانيون أسوأ لحظة مر بها الوعي والهوية العربية، وتحول فيها العرب إلى أمة خارج التغطية والوجود التاريخي، مع ما مرت به الحضارة العربية من نكسات من عهد الإمبراطورية العباسية إلا أنها لم تعرف ذلك الهوان والانكسار والخفوت الذي واجهته من الإمبراطورية التركية العرقية المتعالية على العرب، لاسيما الذين كانوا سبباً لدخول العرق التركي في الإسلام والتاريخ. الإسلامويون العرب، تناسوا كل هذا التاريخ المحمل بالويلات والطمس والإمحاء للهوية العربية من العثمانيين، لمصلحة أطماع الهيمنة الظرفية التي تعدهم به الوعود العثمانية الباشوية الجديدة، على حساب التاريخ والحضارة العربية المجيدة، تحت ذريعة التعالي الروحي الديني على القوميات، وباتوا مِعول هدم للأجنبي والطارئ على الوسط العربي. (الحصاد) لا في العير ولا في النفير كما قيل هو واقع جماعات الإسلام السياسي العربي في علاقتهم وعشقهم الممنوع مع فلول تركيا العثمانية ”الأردغانية”، فلم يحافظوا على سيادة وكرامة أوطانهم ولا هويتهم القومية، وفي الآن ذاته لم ولن يحصلوا من الأتراك على أحلام جنة الخلافة. سؤال مهم للإسلامويين العرب، أين كنا فكرياً وثقافياً وهوياتياً وإنسانياً أيام ما يسمى الخلافة العثمانية؟ ألا تشكل تلك اللحظة مواتاً وغياباً كلياً للوجود العربي؟ وهل نُسي أن تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل عام 1949، التي اغتصبت رقعة مقدسة من العالم العربي. لن أظل أذكر وأحرض في ذاكرة الإسلام السياسي العربي السادرة في الأحلام والوعود اليباب.