لقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطُّبيين، وما عرف القوم قدر أنفسهم ولا مبلغ حمقهم، ومع ذلك لازال في الصدر متسع لجرأتهم وصبر على وقاحتهم، يخاطبني السفيه بكل حمق فآبى أن أكون له مجيبا يزداد سفاهة فأزداد حلما كعود زاده الإحراق طيبا أن ينزل الإنسان بمستواه إلى الدرك الذي وصل إليه بعض الإعلاميين والفنانين وفئات محددة من المصريين فتلك لعمري هي السفاهة التي ما بعدها سفاهة، والوقاحة التي جاوزت كل وقاحة، ولكن ما ضر السحابَ نبحُ الكلاب ولا غطى الشمسَ غبارُ التراب، إن هي إلا ضرطات أطلقها القوم يريدون ضر غيرهم بها فارتدت روائحها النتنة عليهم فأصبحوا يهرفون بما لا يعرفون ويخبطون بأقوالهم خبط عشواء، فلا أرضا قطعوا ولا ظهرا أبقوا، بل انكشفت سوءاتهم أمام كل الناس بعد أن زين لهم الحاكم أعمالهم وظنوا أنهم على شيئ وهم يشتمون الشعب الجزائري برمته ويصفونه بما يأبى القلم الشريف أن يخطه واللسان الصادق أن يتفوه به، ولكنه الكَلَبُ أصابهم فأعمى أبصارهم، وانطلقوا مسعورين ينهشون لحوم المسلمين لا لشيئ سوى أنهم خسروا مباراة سياسية قبل أن تكون رياضية، والكل أفاق لهذا الأمر وعلم حقيقته وتأويله، فانقلب السحر على الساحر وانطلت الحيلة على صاحبها وقد قيل: ''من حفر حفرة لأخيه سقط فيها لم أكتب هذا الموضوع لأدافع عن مناصري الفريق الوطني أو المباراة الكروية، فذاك أمر عففت عنه لساني وكففت عنه عيني، بل إني قلت منذ البداية أن هذه المقابلة أعطيت أكثر مما تستحق وأنها ستكون مسعر حرب مهما كان الفائز فيها، وإنما كتبت هذا الموضوع لأرد على أدعياء القومية العربية ممن حسبوا أنفسهم أقحاح اللسان فيها وأولى من غيرهم بها، وأن الشعب الجزائري ما هو إلا صورة للشعب المرتمي في أحضان فرنسا-كما ادعوا وقالوا- ولهذا فإني لن أناقشهم في إثبات عروبتنا لأنه لا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل، وإنما سأبين بالأدلة التاريخية أن التعصب للقومية العربية هو الذي قوض أركان الدولة الإسلامية في القرن الماضي وجعل الدول العربية لقما سائغة في أفواه الأوربيين. فالقومية التي يتغنون بها فكرة منتنة دفنها الإسلام وأحل محلها روح الأخوة والتفاضل بالتقوى والعمل الصالح، لقول الله عز وجل: ''إن أكرمكم عند الله أتقاكم'' وهم اليوم كما بالأمس يريدون إحياءها تأسيا بالتجربة الغربية الملحدة التي عانت من ويلات السلطة الكنسية والإقطاعية، فاتخذت من شعار القومية والإصلاح الديني وسيلة للخروج من التسلط الديني للكنيسة الكاثوليكية فكان شعارها آنذاك: ''أشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس'' وعليه فهي مص طلح دخيل وفكرة غربية من مخلفات عصر النهضة الأوروبية تسللت إلى مجتمعنا الإسلامي الموحد بوحدة العقيدة والخالق ولواء الدولة العثمانية، وأحدثت فيه انفصالا وشقاقا لازلنا نعاني ويلاته إلى يومنا من خلال هذه النداءات الشاذة التي أصبحنا نسمعها من بعض الإعلاميين المصريين الممتلئين حنقا وغيضا على الشعب الجزائري والتي يدعون من خلالها إلى القطيعة والعداء بحجة أننا شعب عدائي وغير عربي. يقول ضابط المخابرات البريطاني لورنس -مهندس مؤامرة إسقاط الدولة العثمانية باسم القومية العربية-: » لقد كنت أؤمن بالحركة العربية إيمانا عميقا، وكنت واثقا قبل أن أحضر إلى الحجاز أنها هي الفكرة التي ستمزق تركيا شذر مذر« . والحقيقة هي أن المفكرين من دعاة القومية في العالم الإسلامي قد خلطوا بين نوعين من القومية، إما لأنهم قصدوا ذلك ابتغاء خلط الحق بالباطل، وإما أنهم جاهلون بجغرافية كل فكرة منهما، والحق والواقع أنهما شيئان مختلفان ومعنيان متعاكسان، أحدهما إيجابي مطلوب والثاني سلبي مرفوض وإنما وقع الإختلاف بين النوعين لاختلاف متعلقاتهما والأطر التي يطرح كل منهما فيها . النوع الأول: النوع الأول من القومية هو الذي يحمل معنى إيجابيا، حيث تطرح فيه مقابل الاستغلال والاستعمار الأجنبي، وهي بهذا المعنى أبعد ما تكون عن معاني العرقية والتعصب للتراب والدم، وأقرب ما تكون من معنى الاستجابة العكسية لإرادة الهيمنة ومحو الشخصية، وفي هذا المعنى يصب قول الشاعر الإفريقي شاندل:» إن القومية لا تتحقق عندما تولد الأمة، لكنها تتحقق عندما تهدد الأمة بالفناء«. ومن هنا فالمقصود بالمعنى الإيجابي للقومية هو تلك الحركة التحررية المضادة للإمبريالية عند الأمم المستعمرة، والسبب في ذلك أن الاستعمار في سحنته الإمبريالية السياسية الاقتصادية والثقافية المميتة، يهجم على مجتمع ما ذي تاريخ وثقافة وشخصية معنوية ومادية تسمى » الأمة« وذلك من أجل أن يمحو خصائصها الماهوية والمادية والقومية والإغارة على ثرواتها، وقتل تاريخها، والقضاء على أصالتها واستقلالها، حتى تجد نفسها فاقدة لكل محتوياتها الإنسانية والذاتية، ومن ثم تستسلم للذلة والتبعية، والتلون والتقليد ...ولكن هذه الأطروحة التي أرادها الاستعمار لم تتحقق، بل أدت إلى ظهور عكسها، المتمثل في مقاومة الشعوب المضطهدة للاستعمار الإمبريالي باسم القومية والأصالة والاستقلالية، ولذلك فإنه يمكن اعتبار هذه القومية بأنها تمرد على العبودية التي أرادها الاستعمار، وسحب للعنق واليد من القيد وكفاح من أجل النجاة والاستقلال، ولا أجد في هذه اللحظة مثالا أحسن مقاومة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي الذي أراد أن يمحو شخصيته القومية أو هويته التاريخية والحضارية بإشاعته لمقولة » البحر الأبيض المتوسط يشق فرنسا كما يشق نهر السين باريس...« هذا الشعب الذي قال عنه أدعياء العروبة اليوم بأنه لو كان يملك الرجولة ما بقيت فرنسا محتلة له كل تلك المدة ''كبرت كلمة تخرج من أفواههم''، فقومية الشعب الجزائري في محاربة الاستعمار هي تمرد على العبودية ومحو الشخصية اللتين أرادهما الاستعمار، ولا شيء غير هذا، لأننا لو قلنا بأنها كانت تعبيرا عن القومية العربية لوقعنا في خطأ تاريخي لأن فكرة القومية العربية لم تكن قد ظهرت بعد في العالم الحديث( [1]). يقول أحد الباحثين: » ...كذلك كان التأكيد على القومية العربية في الجزائر وتونس ومراكش ضروريا لمقاومة المشروعات الفرنسية ولكن طريقة عرض هذا الشعار يجب أن تتغير بعد زوال القهر القومي الموجه ضد القومية الكبرى...وإذا كان الإسلام هو الرباط الوثيق الذي يربط بين العرب والبربر والأكراد والشركس والتركمان، فلماذا نستبعده ونرفع علم القوميات إلا إذا كان الهدف هو إثارة الحرب القومية« ([2]) يفهم - من خلال ما سبق - أن تسمية حركة التحرر من الاستعمار الغربي '' قومية '' هو عمل إجرائي أو تعبير مجازي الهدف من ورائه توصيل فكرة تمسك الشعوب بجذورها القومية والثقافية على حد سواء، فرواد الثورة الجزائرية لم يقولوا إننا نجاهد من أجل القومية، وإنما يفهم هذا من خلال رفضهم المباشر لفرنسة الجزائر، و ماعدا هذا فإن القومية عندما تذكر مطلقة من أي قيد، لا يفهم منها إلا القومية التي ظهرت في الغرب كخاصية من خصائص فكر النهضة الأوروبية، تستهدف الحد من سلطات الكنيسة البابوية، ولا يمكن بحال من الأحوال تشبيه سلطة الخلافة الإسلامية بسلطة الكنيسة، واتخاذ ذلك ذريعة لإحياء النعرات القومية والعرقية كما يفعل شواذ الأمة اليوم من خلال إعلامهم المغرض الخسيس. النوع الثاني: وهو الذي يحمل معنى سلبيا حيث يقول أحد المفكرين : » هذان النوعان من القومية يتشابهان في الظاهر وعن بعد لكن في الباطن وحقيقة الأمر لا وجه للتشابه بينهما أبدا«([3]) والظاهر الذي يوحي بتشابههما أن كلتاهما طرحت في مقابل الاستغلال والاستعمار الأجنبي، ولكن لكل منهما جغرافيته وظروفه التي طرح فيها، وجغرافية الطرح الثاني الذي يمثل المعنى السلبي للقومية، جاءت استنادا لنظريات أوروبا حول القومية، التي تستبعد الدين من تحديد خصائص الأمة فقد شبه -هذا الطرح- السلطة الدينية التي كانت تمارسها الدولة العثمانية بسلطة الكنيسة في القرون الوسطى، كما شبه السلطة الزمنية المتمثلة في حكم الدولة العثمانية بالحكم الإستعماري الإمبريالي وهذا خطأ منهجي كبير لأن التشابه في الأسماء لم يكن ولن يكون أبدا مؤشرا للتشابه والتماثل في الحقائق. يقول القبطي الصليبي الحاقد على الإسلام أحد دعاة القومية سلامة موسى: » كنا نحن الأمة العربية فيما بين 1715 - 1800 نعيش في ظلام لا يختلف عن ظلام القرون الوسطى، بل ربما يزيد بسبب الإحتلال العثماني«([4]) وهو يعتقد أن الذي أخرجهم من هذا الظلام هو الإنتداب البريطاني والفرنسي عجبا ''وإن تعجب فعجب قولهمس لقد استورد هؤلاء فكرة » القومية« من أوروبا، كما استوردوا الكثير من الأفكار القاتلة، وكان الذي حملها إليهم ضابط المخابرات الإنجليزي لورنس الذي وعد العرب بمنحهم الاستقلال القومي، عندما يتمردون على الحكم العثماني ويخرجون من تحت مظلته، وهم في ذلك يجهلون بأن لكل فكرة جغرافيتها ومقامها الذي تطرح فيه، ولذلك فبمجرد قيام هذه المدرسة -التي كانت تمثل حركة تحررية في الغرب- في المجتمع الإسلامي تمزقت الإمبراطورية العثمانية، وأصبحت قطعا وأشلاء في يد الاستعمار يقول المفكر علي شريعتي: » وبأي حماس وشوق كان العرب الأشقياء ينظرون إلى لعاب لورنس الإنجليزي وفمه، ذلك الذي كان جلب لهم القومية كهدية من إنجلترا، وعلى الفور انتشرت الفلسفات والأشعار والأناشيد والأبحاث الاجتماعية والتاريخية في تمجيد القومية في أنحاء العالم الإسلامي الموحد، وذلك دون أن يفكر مفكرونا وأحرارنا في جغرافية الكلمة ويسألون: لماذا شاعت هذه الكلمة في هذا الوقت وفي هذه المنطقة دفعة واحدة؟ ...ولم يمر وقت طويل حتى رأينا العالم الإسلامي قد تمزق إلى عدد من اللبانات وكل لبان تحول إلى لقمة سائغة في فم الاستعمار الغربي « ([5]) فالأفكار كالأدوية عندما توضع في غير محلها، فإنها لا تحقق العلاج المطلوب، بل ربما زادت في تفاقم المرض، وأدت إلى ظهور أمراض أخرى أكثر تعقيدا، وهذا الذي حدث مع فكرة القومية العربية، التي برزت على ساحة المجتمع الإسلامي في القرن التاسع عشر، وامتدت جذورها إلى اليوم، حيث تبنّى العرب ? آنذاك ? الفكرة طمعا في النهضة والتحضر، والخروج من دائرة التأخر التي رأوا في الحكم العثماني سببا لها، فكانت نتيجة ذلك عكس ما طلبوا ووجدوا ما لم يشتهوا، حيث زادت مشاكلهم وتفاقمت بنقض بريطانيا لعهودها السابقة بمنحهم الاستقلال في حالة تعاونهم معها و انتصارهم على العثمانيين (نموذج الجامعة الإسلامية آنذاك )، وبخيانة بريطانيا لهم تحولت مسيرتهم من الاتجاه نحو النهضة، إلى محاولة التحرر من الاستعمار الذي شتت الصفوف، فحصل على السيادة والتحكم في رقاب المسلمين بسبب أولئك المغترين بالقومية الذين لم يحفظوا الدرس ولم يستوعبوه إلى اليوم( [6])