لم تكن الاعتداءات التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس قبل أيام وأسفرت عن عشرات القتلى والجرحى إلا الحدث الأخير، حتى لحظة كتابة هذا المقال على الأقل، في سلسلة من الهجمات المتتالية التي ضربت عدداً من المدن والبلدان داخل العالم الإسلامي وخارجه على مدار الأيام السابقة على اعتداءات باريس. كما أن هذه السلسلة لم تكن سوى آخر سلسلة، مرة أخرى حتى الآن، ضمن سلاسل الضربات التي تضرب العالم بأسره من حين إلى آخر على مدار سنوات ممتدة أصبحت تطول أكثر وأكثر. ومن الصحيح على الإطلاق أن أعمال العنف والإرهاب ليس لها وطن ولا عقيدة ولا دين، ولا يقتصر مرتكبوها على عرق أو قومية أو أمة أو شعب، وهو ما سبق أن أشرت إليه في مقال سابق قبل أسابيع في هذا المكان، لكن الصحيح أيضاً هو أنه، وللأسف، على مدار العقود الثلاثة الماضية خصوصاً زادت باضطراد واستمرار نسبة عمليات العنف والإرهاب التي تقوم بها جماعات وتنظيمات تَنسُب نفسها إلى الدين الإسلامي وينسُب مدبروها ومنفذوها أنفسهم إلى أبناء هذا الدين الحنيف. وغني عن البيان أنه بعد كل عمل إرهابي يحدث داخل العالم الإسلامي أو خارجه، بات يتكرر مشهد مسارعة حكومات البلدان الإسلامية وقادة أو ممثلي المنظمات الحكومية الإسلامية ذات الطابع الدولي إلى شجب مثل هذه الأعمال، وتأكيد أن الإسلام والمسلمين منها براء، وبالتوازي مع ذلك يتكرر خروج قادة أو ممثلي المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية، سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه، ليدينوا بأشد العبارات تلك العمليات ومرتكبيها، ويؤكدوا أن هؤلاء لا ينتمون إلى ”صحيح الدين”، كما أن كبار رجال الدين وعلماءه يحرصون، عقب كل عمل إرهابي، على أن يعيدوا تأكيد أن الإسلام دين الاعتدال والوسطية، وأنه يدعو إلى التسامح واحترام غير المسلمين ومعتقداتهم والتعايش السلمي معهم، ويبرزون حرمة الدماء والمال والعرض، سواء للمسلمين أو غير المسلمين، في الإسلام. كذلك، فإن من المتفق عليه أن قيام من ينسب نفسه إلى الإسلام بتدبير عمل إرهابي أو تنفيذه لا يجب السماح باتخاذه مبرراً أو ذريعة من جانب بعضهم لإضفاء مشروعية على تشريعات أو قوانين أو إجراءات تمييزية بحق المسلمين أو أفعال انتقامية ضد المسلمين في البلدان التي يشكلون فيها أقلية، ولا حتى توظيفه كوسيلة لكسب التأييد في لعبة السياسة الداخلية في هذه البلدان، وأخيراً ألا يدفع إلى الواجهة مجدداً تلك الآراء اليمينية المتطرفة التي تخرج من وقت إلى آخر في تلك البلدان لتدعو إلى ”إعادة هؤلاء المسلمين من حيث أتوا”، من دون إدراك أن جزءاً لا بأس به من هؤلاء المسلمين يحمل جنسية تلك البلدان، كما أن منهم من ينتمي إلى الجيل الثاني أو الثالث من مواطني هذه البلدان ولا يعرف له وطناً آخر منذ ميلاده. ومن المفارقات المؤسفة أن تلك السلسلة الأخيرة من الهجمات العاصفة حصلت بعد أيام من اختتام المؤتمر التاسع لوزراء ثقافة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي في العاصمة العمانية مسقط، وهو المؤتمر الذي وإن أعاد التنديد بظاهرة ”الإسلاموفوبيا”، خصوصاً في الغرب، وانتقد التيارات التي تُحرّض على الكراهية ضد المسلمين وتُروج لصور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين، فإنه حرص بالمقدار نفسه من القوة في لغة الخطاب ومفرداته على أن يؤكد الحاجة إلى تكثيف الجهود ومضاعفة العمل لتطهير الثقافة الإسلامية مما علق بها من شوائب باتت تمثل الغطاء الفكري والمرجعية الثقافية لجماعات وأفراد يسيئون تفسير النصوص الدينية المقدسة ويلوون معانيها لتتلاءم مع توجهاتهم التي اعتبرها المؤتمر متطرفة ومتشددة، وتناقض جوهر الرسالة الإسلامية السمحاء وما حملته من دعوة إلى السلام والبناء والتعاون. بالتالي، فقد بدا من هذا المشهد العام كأن هناك من أبناء الدين الإسلامي من يصرون على صم آذانهم عن أي نصح أو رأي سديد يدعوهم إلى مراجعة ما هم عليه من تشدد وتطرف في الفكر بهدف تصويب المفاهيم وتصحيح التفاسير بما يعود إلى جوهر الدعوة وصحيحها، وبما يصب لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، وبما يعيد إلى الإسلام وجهته الإنسانية ورونقه الحضاري والثقافي الذي أثرى العالم لقرون طويلة، ولم يكتف بنقل ما حققته فلسفات وعقائد وحضارات وثقافات سابقة عليه من تقدم وتطور، والحفاظ على إنجازاتها في أزمنة كانت بقية البشرية خارج حدود العالم الإسلامي تعيش فيها عصور ظلامها، بل إنه طوّر من تلك المعطيات وأثراها، وأضاف إليها الكثير من واقع ما أتى به من قيم ومبادئ ومثل عليا مثلت مرحلة متقدمة من مراحل التطور الإنساني، وذلك في نسيج متناغم ومنسجم من عطاء العرب وغير العرب، بل والمسلمين وغير المسلمين، ممن عملوا واجتهدوا وأبدعوا وابتكروا تحت راية الحضارة العربية الإسلامية. وإضافة إلى ما لمسه المؤتمر من مواطن خلل تحتاج إلى وقفة ومراجعة وتمحيص اليوم قبل غد، فإنه بات من قبيل المكابرة والاستسهال الدفع من جانب بعضهم بأن الثقافة الإسلامية بوضعها الراهن في أحسن حال، وأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وأن من يقوم بأعمال العنف والإرهاب هم مجرد مجموعة من المضللين أو العاجزين عن الفهم الصحيح لمعاني الإسلام وأهدافه النبيلة. كذلك، فقد أصبح من قبيل التبسيط المخل مجرد القول أن الثقافة الإسلامية تتعرض لمؤامرة خارجية تود القضاء على وجودها والإجهاز على إنجازاتها، فكل ثقافة في العالم قد تتعرض لمؤامرات أو مخططات تستهدف احتواءها أو ترويضها أو القضاء عليها كلية، لكن العبرة لا تكون في وجود مثل هذه المؤامرات أو المخططات، بل في المناعة الذاتية التي تتمتع بها تلك الثقافة والقوة المنبعثة من داخلها، ودرجة تماسكها، وانسجامها مع ذاتها ومع مكوناتها، فهذه المقومات هي وحدها الكفيلة بتمكين تلك الثقافة من التصدي لما يراد بها من تهميش أو تحريف أو تشويه أو شطط ومواجهته وتجاوزه وإلحاق الهزيمة به. فمن الثابت أن الأمر يحتاج إلى جهد متواصل، وإلى تناسق في المواقف وتوزيع أمثل للأدوار من جانب مختلف الأطراف المعنية بالثقافة الإسلامية ومكوناتها، بما في ذلك الخطاب الديني ومفرداته، بهدف وضع أسس متفق عليها وتحقق الغرض المطلوب نتيجة إطلاق عملية المراجعة اللازمة لمحتويات مجمل ما نطلق عليه ”الثقافة الإسلامية”، وذلك بهدف الفرز بين الغث والسمين، مع الأخذ في الاعتبار جوهر الرسالة الإسلامية ومبادئها الأصلية، إضافة إلى ما حقق لها الازدهار والرواج في عصور تألقها داخل العالم الإسلامي وخارجه، وما بها مما يتسم بالعموم والشمول مقابل ما يتصف بالخصوصية والنسبية، وكذلك الأخذ في الاعتبار معطيات الواقع الذي نعيش اليوم، سواء من جهة العالم من حولنا أو حاجات المسلمين ومصالحهم كأفراد وكأمة، وكحضارة وكثقافة. ولا ينبغي أن يتجاهل هذا الجهد الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة أهمية التركيز على الدراسة المتأنية لواقع المسلمين داخل المجتمعات ذات الغالبية من غير المسلمين، والبحث الموضوعي في حقيقة ما يواجهونه، بعيداً من التهويل أو التهوين، بل بهدف التوصل إلى فهم متعمق للأسباب المتنوعة الأبعاد التي تكمن وراء ما يواجهونه أو يعانون منه في تلك المجتمعات، وكم منه مسؤولية الحكومات أو الرأي العام أو الشعوب التي يحيون بين ظهرانيها، وكم هو مسؤولية تيارات متطرفة معادية لهم ولعقيدتهم، ولكن، وبالدرجة نفسها من الموضوعية والتعمق، كم منه مسؤوليتهم هم أنفسهم، وكم منه مسؤولية العالم الإسلامي بحكوماته ومنظماته، وأخيراً كم منه مسؤولية تيارات وشخصيات متطرفة محسوبة على الإسلام تمثل البنية التحتية للعنف من خلال الحض على الكراهية والتحريض عليها بما يجعل من أتباع مثل هذه الأفكار، خصوصاً من النشء والشباب، مؤهلين للانتقال إلى المرحلة التالية لذلك، وهي تبني العنف والتخطيط له وتدبيره أو القيام به وتنفيذه. لكن، يجب عدم فهم ما سبق كأن المستهدف فقط هو تبني مثل هذا المسعى تجاه المجتمعات غير الإسلامية وبالنسبة إلى الأقليات المسلمة التي تعيش فيها - بل إن الطرح نفسه يجب أن يتم تبنيه، ومن باب أولى، داخل العالم الإسلامي، حيث يتعين وضع اليد على مكامن القصور وأوجه الخلل، وبلورة استراتيجية للتعامل معها على المستوى الثقافي والصعيد الفكري، وعبر حسن توظيف آليات مثل وسائل الإعلام، بأنواعها المختلفة، ودور العلم بمناهجها ومن يقوم بالتدريس فيها، ودور العبادة بخطابها وبمن يقوم بالخطبة أو الوعظ أو الدعوة فيها، والأندية الاجتماعية والمراكز الشبابية والثقافية، بل والأسرة ذاتها، وأي آليات أخرى من الممكن أن تحقق الفائدة المرجوة في إطار هذه المسؤولية الصعبة والتاريخية، ولكن الحتمية والضرورية والعاجلة في الوقت نفسه.