الهدنة في بلدات سورية عدة رعتها الأممالمتحدة وجرى التفاوض في شأنها في تركيا بحضور إيراني مباشر، وهي تشمل الزبداني قرب دمشق، والفوعة وكفريا وبنّش وتفتناز ورام حمدان ومعرة مصرين قرب إدلب. وقبل أن تدخل الهدنة حيّز التطبيق، جرت تظاهرات في بلدة سراقب يطالب سكانها بأن تشملهم أيضاً لينجوا من ويلات الحرب. إذا قدّر للهدنة الصمود، يتحقق سلام ما في بلدات سورية حطمتها الحرب وأرهقت أهلها. وربما تبنى على نجاح هذه الهدنة إجراءات مماثلة في غير بلدة ومدينة في سورية، في رعاية الأممالمتحدة ونتيجة جهود تركية وإيرانية. هكذا تتقدم أنقرة وطهران في صورة الضاغط على المتحاربين والممهد لسلام سوري - سوري وإن كان محدوداً. يحصل الضغط هذا فيما العالم منشغل بتعزيز الحضور العسكري الروسي في الساحل السوري والسجالات بين الدول الكبرى حول مسار الحل السياسي ومصير الرئيس بشار الأسد: هل يترك منصبه بعد المرحلة الانتقالية أم أن انطلاق هذه المرحلة مشروط باستقالته أو إسقاطه؟ وبدا في السجال الدولي كأن مصير سورية ارتبط هذه المرة بمدى اتفاق واشنطنوموسكو على طبيعة الحل السياسي للأزمة المستعصية وعلى طبيعة نفوذ كل منهما في سورية المستقبل، بلا بشار الأسد عاجلاً أو آجلاً. فلا معنى، بالتالي، لصراخ محترفي المعارضة ومحترفي الموالاة حول مصيره السياسي. محترفون فاتهم القطار يبحثون عن دور وإن كان صوتياً في الحل الدولي العتيد. محادثات الوصول إلى الهدنة في البلدات السورية السبع أظهرت حضوراً إيرانياً واضحاً في الحرب السورية بشهادة الأممالمتحدة الراعية، لكن تركيا اكتفت بتقديم مكان المحادثات وبدور فاعل من وراء الستار، فهي ضغطت على الجماعات المعارضة المسلحة، ومنها ”جبهة النصرة”، لإنجاح اتفاق الهدنة. هذا الدور الخفيّ لتركيا لم يعد يخفي شيئاً، لأن الخصم والحليف والمراقب يدركون جيداً دورها النشط بل الرئيسي في الحرب السورية، وهي لم تكن لترضى بهدنة البلدات السبع إلا استدراكاً لنفوذها المهدد من واشنطنوموسكو. هنا يلتقي الإيراني والتركي بصفتهما مقاولَين فرعيَين، أو بتعبير أهل الاقتصاد ”مقاولين من الباطن”، في الحرب السورية، حتى إذا حضر المقاولان الرئيسيان، الأميركي والروسي، يضعف شأنهما ويتراجع نفوذهما. وهنا لا بد أن نتوقع بعد توصل الكبار إلى حل سياسي للحرب السورية، أن يحاول الإيراني والتركي التمرد، في حدود معينة، للمحافظة على بعض المصالح في سورية المريضة الممددة في غرفة عمليات المستشفى الدولي. الإيراني والتركي صديقان لدودان، وهما يتشابهان في اعتماد ثنائية القومية والإسلاموية في نظامهما السياسي، فالإيراني يحتفظ بالنزعة القومية لاستقطاب شعبه في مراحل الصراع، خصوصاً في المعركة الطويلة لانتزاع الحق بإنتاج الطاقة النووية السلمية، تلك المعركة التي اقتضت تعرضه لحصار وعقوبات أنهكت حياة مواطنيه. وهو يحتفظ في الوقت نفسه بالنزعة الإسلاموية محاولاً بلا نجاح أن يقود العالم الإسلامي، وبنجاح في اكتساب ولاء كثيرين من شيعة العالم. أما التركي، بقيادة رجب طيب أردوغان وحزبه، فيستخدم سيئات النزعة القومية في الحرب على مواطنيه الأكراد، وسيئات الإسلام السياسي في دعم جماعات ”الإخوان المسلمين” على تنوعهم في العالم الإسلامي، وصولاً أحياناً إلى رعاية غير معلنة لمتطرفين إسلاميين، وهو في الحالات كلها يوزع الآمال باستعادة عثمانية غابرة وعينه على المكانين القريبين، حلب السورية والموصل العراقية. يبقى أن أردوغان حين شهد قبل أيام الاحتفال بافتتاح جامع موسكو الكبير، تذكر جيداً كاثرين الثانية وهي ترفق الانتصار على العثمانيين ببناء مساجد للمسلمين الروس ومنع التعميد القسري وتدخل رجال الدين المسيحيين في حريات المسلمين. القيصر فلاديمير بوتين لم ينتزع شبه جزيرة القرم من فم السلطان العثماني، إنما قفز فوق اسطنبول ليستقر على الساحل السوري. لكن لعبة القيصر والسلطان صارت هزلية بوجود ”الراعي” الأميركي.