”… وفي الأخبار أيضا حديث عن رفض عائلة آيت أحمد حضور الانفصالي فرحات مهني، الذي نصب نفسه رئيسا لدولة مستقلة في القبائل”. ”هل وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ أتجرأ أحدهم على إعلان انفصال القبائل، الأمر في غاية الخطورة”... وينتبه لأول مرة أن السائق ليس سائقه الأمين، الرجل المجاهد عمي الطيب، عمي الطيب الذي عرض نفسه للهلاك حماية للرئيس يوم محاولة المرحوم سليمان عميرات اغتيال بومدين، مقابل البريد المركزي.. عمي الطيب المجاهد الشجاع الأمين دفع برأس الرئيس إلى أسفل السيارة وتلقى هو مكانه الرصاصة.. جرح الرئيس في شاربه وتلقى عمي الطيب الرصاصة في غير مقتل.. وكان الرئيس بومدين هو من نقله حاملا إياه بين ذراعيه إلى مستشفى مصطفى باشا! ارتاب لأمر السائق، خاف أن يكون أحدهم أرسله ليفسد عليه مهمته التي استيقظ من أجلها من رقدته الأبدية. فباغته بالسؤال: ”من أنت؟ أنت لست عمي الطيب! أين عمي الطيب؟”. لا، لا سيدي الرئيس، ألا تدري أن عمك الطيب توفي هو الآخر منذ سنوات! أنا ابنه جئت لأكون حارسك الأمين ودليلك في هذه المهمة! ”كيف، هل أنت سائق أيضا؟ ألم تدرس وتدخل الجامعة؟ كيف، كيف يحصل هذا في الجزائر التي وضعت لبنتها، أيعقل أن يبقى ابن السائق سائقا، وابن الفلاح فلاحا، وأبناء الأسياد أسيادا، في الجزائر التي كافحنا وجاهدنا من أجل تحريرها؟”. يبتسم السائق لأنه وجد في كلام بومدين، ذلك الرجل الذي عرفه وهو طفل صغير، ونبرة صوته في خطاباته النارية التي كانت تجلجل الجزائر كلها، يوم كانت الشوارع تخلو من المارة ويسود الصمت المدن والقرى، ليشرب الجميع كلام الرئيس، ويرتوي من خطاباته التي كلها دروس وعبر وتحد، وترسم الطريق إلى مستقبل مزهر!”. ”آه كم اشتقنا لهذا الكلام سيدي الرئيس! كم نحن في حاجة لرسم معالم طريقنا من جديد. لقد تاهت البوصلة من جديد في منطقتنا العربية، آه لو تعلم ماذا يحدث للعالم العربي الذي ناضلت من أجل وحدته.. لكن هذا كلام آخر سيدي الرئيس!”. هوّن عليك - يضيف السائق - أنا لست سائقا، بل درست في الجامعة وإطار وثمرة من ثمرات ديمقراطية التعليم، جئت فقط لأجل هذه المهمة لأطمئن على سلامتك وراحتك، أنا من الجيل الذي تحرر على أيديكم، أما الأجيال الأخرى فيطول الكلام حول مصيرها وضياعها!!”. قل لي - يسأل الرئيس بعد أن اطمأن للرجل ولم يعد السؤال محرجا له - ”ما حكاية الحراڤة التي سمعتها في الأخبار منذ قليل؟ حرقوا ماذا؟ لماذا يحرقون عنابة بالذات ألا يكفيها ما لحقها، على يد ”المانشو؟!”. لا سيدي الرئيس، لم يحرقوا شيئا، الحرڤة هي ظاهرة مست كل شعوب إفريقيا وامتدت إلى دول ”الربيع العربي”، سوريا وليبيا وتونس، هم شباب ونساء ورجال من مختلف الأعمار يلقون بأنفسهم في قوارب الموت طمعا في الوصول إلى أوروبا، هربا من الفقر، ومن الحروب، لكن قلة قليلة فقط تصل إلى إسبانيا أو إيطاليا أو تركيا، والآلاف منهم يموتون يوميا في البحر؟”. الجزائريون عرفوا الظاهرة مع تصاعد موجة الإرهاب، هم يفضلون الموت على البقاء في الجزائر، شعارهم ”يأكلني الحوت وما ياكلنيش الدود”. العيش صار مغامرة في بلداننا.. الإرهاب والفساد، والحكام الجائرون.. لقد تحطمت الآمال، وتاهت الشعوب وفقدت الثقة في مستقبلها على أرضها. ماذا أقول سيدي الرئيس؟ الحكاية ستطول. ”ما هذا الربيع العربي الذي تتحدث عنه؟ ربيع وتهرب منه الشعوب.. هل هو شبيه بربيع براغ؟!”. لا! يرد نجل عمي الطيب - فهو لم يعد مجرد سائق، هو ابن عمي الطيب المجاهد والرجل الأمين - بل هو خراب عربي. ويضيف هيا ندخل ”سيبر كافيه” لأريك في مواقع الأنترنيت، الخراب الذي حل بسوريا والعراق وليبيا؟! ”أنتر.. ماذا؟”، يسأل الرئيس. آه، نسيت أن أقول لك إن العالم كله مرتبط عن طريق شبكة مثل الهاتف، لكنها تتيح لك قراءة الصحف ومشاهدة الصور والأفلام وتبادل الرسائل بين كل شعوب الأرض. شبكة ابتكرها الأمريكان، وقد ربطوا كل سكان الأرض بها، ومن خلالها يعرفون كل ما نفكر فيه، يعرفون ذكاءنا وغباءنا ويستغلون أفكارنا ويرعون خيبات آمالنا ليصنعوا منها قنابل متفجرة!! ”احبس، احبس من فضلك!”، يأمر الرئيس: ”يبدو أنني لن أستوعب كل ما تقول، لقد فاتني الكثير، وبضعة أيام لن تكفيني لأفهم كل شيء، أنا جئت في مهمة أن أزور مكتبي وأرى ماذا فعلوا بملفاتي (من بعدي)، هيا بنا إلى المكتب سأدخل مهما حاولوا منعي، فأنا الرئيس، أنا بومدين، لا أحد يقدر على منعي. هيا، هيا”. انتظر سيدي الرئيس، عندي فكرة أخرى، ملفاتك لم تعد موجودة في مكتب المرادية، هيا لنبحث عنها في جهات أخرى؟ جهات أخرى؟ أين؟ - يسأل الرجل العائد في تهجم وقلق - ”هل أتلفوا الملفات؟ هل حرقوها مثل الحراڤة؟!”. لنبدأ - يقترح السائق - بأهم قضية - القبائل مثلا - فغدا سيدفن آيت أحمد في قريته آث أحمد بعين الحمام، أنت تعرف أنه رفض أن يدفن إلى جوار المسؤولين في مقبرة العالية.. عارضكم في حياته، ويعارضكم في مماته! هيا نحضر جنازته. لا تخف، سيشرف عليها آلاف أعوان الأمن! لا تخف لن يصيبك أي مكروه! ”نعم! نعم! فكرة جميلة، إيه اشتقت إلى القبائل، ثم أنا أمازيغي أكثر من آيت أحمد، وسأحضر الجنازة، سأحضر الجنازة!! غدا رأس السنة أيضا.. أسڤاس أمڤاز!! - يتبع -