لم يفهم ”الرئيس” كلام الحارس، ولم يفهم أكثر ما سبب كل هذا الحاجز وفي هذا المكان، ولماذا يقول عنه إنه ليس الرئيس؟ حاول أن يسأل السائق مرة أخرى، لكنه راح يبحث عن الكلمات، فهو لم يتعود أن يسأل كثيرا، تعود إعطاء الأوامر، والآخرون ينفذون بدون مناقشة. اعتقد للحظة أن هناك كمينا آخر في طريقه نصبته هذه المرة المجاهدة الرمز جميلة بوحيرد، فهذه العمارة التي تقطن فيها على مقربة من الحاجز، تساءل في نفسه: هل تجرأت مرة أخرى؟ هل فعلتها؟ ولم ينتبه للسائق وهو يلف راجعا محاولا الوصول إلى المرادية من الجهة الأخرى. لم يسأل، بل راح لأول مرة منذ مغادرته العالية يتفرس في وجوه المارة. انتابته حيرة، ما هذا الذي أراه؟ - قال في نفسه - لماذا كل هذه اللحى الكثة، هل توقف مصنع ”سفير إينوكس” عن الإنتاج ولم يجد الرجال شفرات للحلاقة؟! ولماذا استبدلت النساء الحايك بأغطية الرأس هذه والجلابيب؟ خجل من طرح السؤال على سائقه، خوفا من أن يسيء به الظن، فأجل السؤال إلى حين، أو ربما أنسته فيه كل تلك اللافتات المكتوبة بالفرنسية فقط على واجهة المحلات ”يا إلاهي ماذا فعلوا بالتعريب؟!”، نطقها عن غير قصد. وقاطعه السائق مشيرا بيده إلى الأعلى، هنا مكاتب بن غبريط وزيرة التربية! بن من؟! بن غبريط، هي ثمرة من ثمرات ثورة التعليم التي زرعتها، واحدة من جميلات المرحلة! ألا تعرفها؟ أنت إذا لا تقرأ الصحف ولا تتابع الفايس بوك والتويتر؟! ”أنا لا أعرف لا فايس بوك، ولا فايس أمك، هل هي أفلام جديدة عن الثورة التحريرية المظفرة؟!”. خلينا من المحاجيات تاعك، اديني على المكتب بسرعة، لأتأكد حقا أنني في الجزائر، لأن الذين أراهم في الشارع لا يشبهون الشعب الجزائري الذي أعرفه، واحد يقول لي ”ولاش سماح أولاش”، منذ متى يتجرأون على الحديث بالقبائلية؟! ويتفادى الرئيس مرة أخرى ذكر اسم آيت أحمد، حتى لا يكشف سرا بينهما؟! يرد السائق محاولا اختصار ربع قرن من حرية التعبير في كلمات، ويوضح ”هناك إذاعة وتلفزيونات وبرامج بالأمازيغية، وهي لغة وطنية تدرس في المدارس، ألا تعرف أن الرئيس بوتفليقة دسترها؟!”. ”دسترها، دسترها” - يقول في نفسه… لكن كلمة الرئيس، ذكرته بمكتبه وببرنامج عودته لبضعة أيام إلى الحياة، فقال محاولا استرجاع نبرة صوته الواثقة ”الرئيس... من هو الطاهر بن الطاهر الذي يجلس على كرسيَّ؟!”، قالها بصوت مرتفع أرعب السائق، لكن هذا الأخير استرجع شيئا من هدوئه، لأن كلام الرؤساء لم يعد يرعب أحدا، منذ صارت الصحافة تنتقدهم يوميا بكل جرأة، وأحيانا بوقاحة! فرد قائلا ”بل هو الطاهر بن طاهر المطهر، وقد طهرهم بالفعل، وعلى اللحم الحي”!! رغم ذكائه ودهائه، فلأول مرة يجد الرئيس العائد مثل الشهداء نفسه عاجزا عن الفهم؟! أليس هو وحده الطاهر بن الطاهر؟! وصل إلى ساحة محمد الصديق بن يحيى، قرأ اللافتة وتذكر الرجل الذي كان يعرف معدنه النفيس وحنكته الديبلوماسية، طلب من السائق التوقف ليترحم أمام اسم الرجل. ولكن مرة أخرى الحرس الجمهوري كان له بالمرصاد، فهم لم يتعودوا على ”الدي أس” السوداء هنا! لكن أحدهم عرفها، فما زال يتذكر صور الأخبار بالأبيض والأسود، فطلب من زملائه إبعاد بنادقهم، فملامح الرجل ليست غريبة، ”إنه الموستاش.. إنه الموستاش”، صرخ بكل ما أوتي صوته من قوة، راكضا نحو الرجل محاولا أخذ ”سالفي” معه، فلا أحد سيصدقه أنه التقى بومدين وأنه عاد إلى المرادية ”سيدي الرئيس، سيدي الرئيس، اسمح لي بسالفي معك!”. ”سالفي؟! ما هذه الكلمة سالفي، فايس أمك، تويتر.. أين أنا؟!”. أنت هنا أمام الرئاسة، لكن طلب منا منعك من الدخول، انتظر حتى نأخذ الإذن! قال للسائق هيا عد بي إلى العالية، أنا لا آخذ إذنا من أحد! لكن السائق ذكره بمهمته التي جاء من أجلها، مهمة نبيلة، لن يفصح عنها وعن برنامجه في هذه الأيام القليلة إلا لما ينتهي! يأمر السائق ”هيا إذا إلى إقامة زرالدة لأرتاح قليلا”! السائق ”زرالدة، لا! لن يسمح لنا هناك أيضا؟!”. يا إلاهي ما ذنبي أنا أكلف نفسي بتغطية هذه العودة ومتابعة نشاطات الرجل العائد؟ ما هذه الورطة التي وضعت نفسي فيها، فأنا لست زميلي حميدة العياشي، لا أعرف كيف أطرح على الرؤساء سؤال ”كم سعر البطاطا في السوق” ولا سرد الأقاصيص؟!... - يتبع -