تبني المخرجة تونس آيت علي مسرحية ”الثلث الخالي” على فكرة بسيطة تنطلق من قصة ثلاثة نسوة تجمعهن ظروف واحدة وموضوع واحد يتعلق بالرجل، هذا الرجل الذي يعد المعادلة الصعبة في مسرحية نسائية تمثيلا وإخراجا فبين امرأة طال انتظارها لرجل يتزوج بها، وبين أخرى كرهت من زوجها الذي اضطهدها واستبدلها بامرأة أخرى، في حين توجد ”الخامسة” وهي المرأة الثالثة التي لا هم لها سوى مواصلة الحياة بعيدا عن الرجال لأنها تؤمن بفكرة الاعتماد على الذات وصنع نسها بنفسها والقدرة على إثبات وجودها دون رجل في حياتها. مسرحية ”الثلث الخالي” التي عرضت، مساء أمس، بمسرح وهران الجهوي والتي تدخل في إطار المنافسة الرسمية لمهرجان المسرح العربي في دورته التاسعة، من إخراج تونس آيت علي، تأليف محمد شواط، أداء كل من بهلول حورية، أمال دلهوم وريمة عطال، سينوغرافيا خواثرة شوقي، موسيقى حسين سماتي، الإضاءة لفاروق رضاونة، كوريغرافيا توفيق قارة ومساعد إخراج فارس بوسعدة، ومن إنتاج مسرح العلمة الجهوي في الجزائر، يختصر العرض قصة ثلاث نسوة في مقتبل العمر يلتقين صدفة منهن المتزوجة التي عاشت المرارة الزوجية والعاشقة التي مازالت تبحث عن الحبيب المنتظر والمتمردة التي تريد أن تصنع لحياتها عالما مثاليا، ثلاثتهن يحاكمن في محاكمة افتراضية ويطرح السؤال من المذنب هنا المرأة أم الرجل؟ الأسطورة الشعبية في الجزائر تتحدث عن الثلث الخالي الذي هو في الأصل الربع الخالي، وكما هو معروف فإن هذه المنطقة معروف انعدام ظروف الحياة فيها نظرا لقساوة الطبيعة، حالة الضياع التي عاشها الرحالة الذين قصدوا منطقة الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية، تحيلنا إلى ضياع تعيشه النسوة في المسرحية، وهو ضياع من نوع آخر وانعكاس بين الواقع والعالم الافتراضي لحالة نفسية صعبة تمر بها ثلاث نسوة يجمعهن هم واحد، وهو الرجل الذي كان بطل مسرحية نسائية. المشهد الأول من المسرحية يختصر الحالة النفسية لتلك النسوة، فملابسهن وسينوغرافيا العرض وطريقة النزول إلى الخشبة بالحبال وسط الظلمة تعطي الدلالة على الوضع الذي تعيشه النسوة وتعكس حالة الاضطراب عندهن، يتقاسمن هما واحدا، الأولى تتمنى يوم عرسها أن تكون مشعة كالجوهر، تنتظر ذلك اليوم لأنها وعدت بالزواج ولكن الرجل سافر ووعدها بالزواج بعد رجوعه ولكنه لم يعد، والأخرى عاشت معه حتى كرهته لأنه يعاملها بجفاء، والثالثة لا تريد رجلا في حياتها. يدور نقاش بين الثلاثة حول هم واحد يجمعهن وهو الرجل والجدوى من الزواج، حوار بمسحة من الكوميديا، لعبت عليها المخرجة حتى لا تقع في السوداوية التي يتسم بها العرض، وكأنها أحيانا تذهب إلى الكوميديا السوداء حتى تكسر الإيقاع نوعا ما وتغير ريتم العرض معتمدة على الأداء الجيد للممثلات اللواتي قمن باستغلال فضاء العرض، من خلال الحركة الجيدة على الخشبة، وساعدهن في ذلك الإدارة الجيدة للممثل من طرف المخرجة التي ظهرت لمستها في العمل، ما يدل بأن الكتابة الثانية للنص كانت موجودة والرؤية الإخراجية واضحة في المسرحية. لعبت المخرجة على ثنائية الزواج والطلاق، واحدة من النسوة تقول ”زوجوني” والأخرى ترد عليها ”طلقوني”، لكل واحدة منهن دوافعها، ما يجعلهن يدخلن في نقاش يذهب أحيانا إلى حالة هيستيريا أو نوبات نفسية صعبة تنتابهن، المتزوجة منهن ورثت مالا ولكنها صرفت كل شيء على زوجها الذي انقلب عليها بعدها، والأخرى تصرخ وتقول زوجوني، حيث اصبح الزواج عندها هاجسا، والثالثة ”الخامسة” تعايرهن وتدعوهن للاعتماد على أنفسهن، يدخلن في دوامة ويعشن الحلم، حالات استغلتها المخرجة كإيقاع مناسب ربطته بحركات راقصة كانت مدروسة بعناية وقعها توفيق قارة مع موسيقى مصاحبة لحسين سماتي ارتكزت أحيانا على إيقاعات الموسيقى الإفريقية وبعض التمازج محليا مع ”الدف”، في حين ذهب في أحايين أخرى إلى موسيقى الراب وحتى كلاسيكيات فرنسية حسب سير العرض واللحظة المسرحية. يدخل العرض مرحلة المناجاة، مرحلة المحاكمة وهي بمثابة البحث عن الخلاص والحل، تنادي إحداهما القاضي في هذه المحاكمة الافتراضية ”سيادة القاضي اعطيني الحل كي أمحيه من رأسي وأنا راضية بالحكم، ولكن ليس حكم الإعدام”، وتخاطب الأخرى وتتساءل ”ماذا أفعل بالرجل في وقت أشقى لتحقيق طموحي؟”، وتذهب الثالثة إلى السؤال المحوري الذي تدور حوله المسرحية وقضية من الذنب هي أم هو المرأة أم الرجل، أسئلة بقيت دون إجابة لأنها ليست الواقع، وهو ما تبرره المخرجة تونس آيت علي لكونها اشتغلت على المحاكمة وحاولت أن تكون في نطاق المنطق أي أن المرأة تعبر عن ما تعيشه، ولكن لا يمكن أن تحاكم في الوجود لهذا اختارت أن تكون المحاكمة افتراضية، موضحة أنها اشتغلت على النص وفق رؤيتها الإخراجية والرسالة التي أرادت إيصالها من خلال مجانبة السطحية في الطرح والذهاب نحو العمق في العمل. تأرجح العمل بين الواقع والعبث، والذي عزته المخرجة بكونه يحمل هامشا أكبر من الحرية خصوصا عند تناول مواضيع تعتبر ”طابوهات”، فهذا يمنح المخرج حرية أكبر في التعامل مع الموضوع، وحتى هامش الخيال يزيد والتساؤلات تكثر، والتي تشدنا لحالة الضياع الشبيهة بالعبث التي تعيشها النسوة والنهاية الغير متوقعة فحتى من تنبذ الرجال يتضح أنها كانت متزوجة وفقدت زوجها في جريمة للظلاميين، بالتالي الهم الواحد والضياع واحد والمكان واحد والسؤال واحد من ينقذهن من ” الثلث الخالي”؟. استعملت المخرجة لغة حوارية بسيطة معتمدة على التدوير بين الممثلين مع الاستعانة بالجمل القصيرة ذات المحمول الواحد، ما ساهم في خلق إيقاع متناغم داخل العرض، واكب حركية الأحداث، وسرعتها الانسيابية، مثلما يحصل في اللقطات السينمائية السريعة والوجيزة، وهذا الإيقاع يدفع لتتابع الأفعال منطقيا ويجعل كثرة التعاقب في التسلسل الدرامي للعمل، ما يخلق وتيرة معينة تغطي نوعا ما على فراغ الفضاء على الخشبة، كما لعبت المخرجة على رمزية حبال المشنقة في دلالة على المحاكمة، واستغلت الحبل كمتكئ في فضاء فارغ لعبت فيه على وتيرة الإنارة والموسيقى والكوريغرافيا، ووفقت في هذا التوظيف إلى حد بعيد، كما استعانت بحركة الممثلين لشغل الفضاء، حيث يلاحظ تحرك الممثلين باستمرار جاعلة الخشبة كالربع الخالي منعدم المعالم الثابتة. رغم بعض النقائص على مستوى النص من خلال غياب الانتقال في مراحل الألم، والسقوط في فخ التكرار في الحديث عن الألم ما يسقط العرض في فخ الرتابة، إلا أن تاء التأنيث في العرض وقفت على كل شيء جميل في المسرحية، مع وجود تنسيق قوي في الإضاءة والموسيقى، مع تسجيل نقطة سوداء تمكن في بعض النقص على مستوى البنية الدرامية التي لم تمنح المخرجة متسعا للتوظيف الفني على الركح، لكن هذا لم يمنع المخرجة من تقديم جماليات على مستوى العرض مع استغلال الفضاء، والأداء الجيد للممثلات، حيث أصابت المخرجة في الكاستينغ إلى حد بعيد، بحكم تألق اللواتي قدمن بما يليق بالعرض، وهناك شيء أساسي وهو العمل الكبير الذي قامت به المخرجة على مستوى إدارة الممثل، حيث ورغم أن الفضاء كان مفتوحا إلا أنها ملأته بالموسيقى والكوريغرافيا، وهذا ذكاء يحسب لطاقم العمل، ناهيك على الكتابة الثانية للنص والمقترحة عن طريق الأغاني والحركات التعبيرية التي خلقت جوا فنيا جميلا.