مايزال الكثير من إخواننا المشارقة أسرى نظرتهم التقليدية للمنطقة المغاربية وللجزائر على وجه الخصوص• منذ أيام قرأت مقالا في صحيفة خليجية للكاتب اللبناني "رضي السماك"، يقول فيه ما نصه: "إن أبناء النخبة المتعلمة والمثقفة في المشرق العربي، ولاسيما الشاميين منهم، أكثر قدرة على النطق السليم بالفصحى بصرامة لغوية من أبناء النخبة المتعلمة والمثقفة المغاربية، التي عادة ما يشوب نطقها بالعربية الفصحى، التنطع الشديد الشاذ في نطق مخارج بعض الحروف، وتطغى عندهم بشدة نبرة النطق اللهجوي على نبرة النطق الفصيح السليم الاعتيادي"• لا أخفي عليكم استغرابي الشديد وأنا أقرأ هذا الكلام الذي تفوح منه رائحة ما يمكن أن أطلق عليه "العنصرية اللغوية" أو المزايدة اللغوية على أحسن الظنون• وكأن اللغة العربية قالب واحد لا شريك له، قالب محنط لا يعرف أسرار تحنيطه سوى المشارقة• والأعجب من ذلك أن صاحب المقال يصف الجزائريين والمغاربة بالذات بسوء النطق العربي الفصيح بسبب "طغيان اللغة الفرنسية على اللسان المغاربي"• من الناحية التاريخية نجد أن "إبن مالك"، صاحب الألفية الشهيرة في النحو والتي ظلت تدرس في الأزهر أكثر من ألف سنة وماتزال إلى اليوم، هو جزائري بل ومن أصل أمازيغي، كما أن صاحب أعظم قصيدتين على الإطلاق في المديح النبوي (البردة والهمزية) هو الإمام البوصيري الجزائري، الذي يعود أصله إلى مدينة دلس، ولست بحاجة إلى نقل جميع ما في معاجم أعلام الجزائر من الفقهاء والعلماء واللغويين والشعراء وغيرهم• عندما يتحدث بعض المشارقة عن العربية، نشعر كأنهم يجهلون أو يتجاهلون أنه في الأصل لا توجد لغة عربية واحدة، بل لغات عربية متعددة تمثل في مجملها "اللسان العربي"• فالعرب في جاهليتهم كانت لهم عدة لغات كانت تعتبر آنذاك بمثابة لهجات تختلف من قبيلة إلى أخرى، وبالتالي لم تكن ثمة فصحى واحدة، بل "فصحات" أو "فصحيات" على القياس اللغوي• ولذلك نزل القرآن الكريم على سبعة أحرف، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، وذلك لتسهيل قراءته على جميع القبائل وبجميع اللغات و"الفصحيات" التي كانت موجودة• كما أن قريشا، التي نزل القرآن الكريم أساسا بلغتها أو "بلهجتها" على وجه أدق، لم تكن تنطق الهمزة في كلمة "قرآن" كما لم تكن تنطقها في كلمات أخرى مثل "المؤمنون" و"المؤتون" وغيرها، وهو المعمول به اليوم في رواية ورش عن نافع الذائعة في المنطقة المغاربية• فإذا كانت ثمة منطقة أقرب إلى لغة قريش في النطق بالفصحى فهي بلا شك المنطقة المغاربية ومنها الجزائر• وفي مخارج الحروف وأساليب النطق، نجد أيضا أن العرب كانوا مختلفين، فبعضهم ينطق الحاء عينا كما في قوله تعالى من سورة يوسف "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين"• فبعض العرب تنطقها "عتى عين"• ومن خلال النصوص الثابتة في السنة، نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوب جميع الأساليب التي كان العرب يقرأون القرآن الكريم بها على الرغم من اختلافها، وكان يقول بعد سماعه لكل قراءة: "هكذا أنزلت" وذلك من باب التوسيع على الأمة• وحتى لا يتصور أحد أن مسألة "لغات العرب" هي مجرد اختلاف بسيط في بعض الكلمات، كما حاول أحدهم أن يقنعني، فلابد أن نقول إن السنة الصحيحة تؤكد وجود عرب لم يكن أهل مكة ولا أهل المدينة يفهمون من كلامهم حرفا واحدا، وقد استمر هذا الوضع حتى عصور الخلافة العباسية، حتى إن بعض كبار اللغويين من مستوى الأصمعي، لم يكونوا يفهمون حرفا واحدا من كلام بعض العرب، لشدة الاختلاف والغرابة فيما يستعملونه من كلمات وألفاظ• ومن الطبيعي أن تتأثر اللهجات المغاربية، كما المشرقية، بلغات المحتلين الذين تعاقبوا على المنطقتين مثل التركية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، فضلا عن اللغات القديمة العائدة إلى ما قبل الفتح الإسلامي• وتدل الدراسات الحديثة على أن اللهجات المغاربية السائدة اليوم في الحواضر الشمالية الكبرى، هي نفسها اللهجات التي كانت سائدة في الأندلس قبل سقوطها وهجرة أهلها نحو السواحل المغاربية• ومن هنا فإن النطق المغاربي بالفصحى هو نفسه النطق الأندلسي• وبلغني عن أستاذة جزائرية وأخرى أمريكية تدرسان في جامعة كولومبيا بنيويورك أنه في معهد اللسانيات بهذه الجامعة يدرس مثل يسمى "الحالة الجزائرية" والتي تعني أن الجزائريين على خلاف الشعوب والأمم، يمتلكون وحدهم القابلية لتعلم جميع اللغات ونطقها نطقا صحيحا لا يختلف عن نطق أهلها• أما مسألة وجود اللغة الفرنسية أو "طغيانها" على اللسان المغاربي والجزائري على وجه الخصوص - كما يرى بعض المشارقة - فهذا عنصر إيجابي وليس سلبيا• وهنا أستذكر الأساتذة الجزائريين والمشارقة الذين كانوا يدرسون لنا اللغة العربية وقد كنا في أقسام مفرنسة، حيث كانوا يقولون لنا بالحرف الواحد : إن التلاميذ المفرنسين أو المزدوجين، متمكنون من العربية في الجانبين النحوي والأدائي أكثر بكثير من التلاميذ المعربين• وهذا ليس طعنا في التعريب ولا في المعربين، ولكنها شهادة للتاريخ ليس أكثر• وفي جانب الأداء اللغوي، نلاحظ أن الفصحى التي يستعملها أغلب المشارقة اليوم والتي تطغى على الفضائيات والإذاعات، هي لغة غير معربة أو ما يسمى لغة "سكن تسلم" وهي لا تدل على التمكن من اللغة• أما أساليب النطق العربي فمن الطبيعي أن تختلف من منطقة إلى أخرى• ولا أتصور أن ثمة أسلوبا "أصليا" في النطق العربي على أساس اختلاف لغات العرب قديما رغم وحدة لسانهم• كما أننا لا نملك اليوم تسجيلات صوتية نقيس عليها النبرة الأصلية للنطق العربي الجاهلي الفصيح ومدى اقترابه أو ابتعاده سواء في المشرق أو في المغرب، عن نبرة النطق اللهجوي• وفي النهاية لكل منطقة جماليتها "الفصحوية"، وقد وجدت من المثقفين المشارقة والشاميين بالذات، من يفضلون النطق المغاربي والجزائري بالعربية الفصحى، على النطق المشرقي• يكتبها من الشارقة : سعيد جاب الخير