أهمية الثقافة في إنقاذ العالم العربي من الانحطاط، ضرورة توفّر ملكتيّ النقد والإبداع، دور المثقف العضوي في التضحية من أجل شعبه وبلده، عدم جدوى انقسام الأدب العربي إلى مغاربي ومشرقي، ومواضيع أخرى تناولها الدكتور المصري صلاح السروي، وهو أستاذ مساعد الأدب الحديث في جامعة الحلوان في حواره مع "المساء". - إذا كانت الثقافة المنقذ الحقيقي للعالم العربي من الانحطاط الذي يعيش فيه فكيف يمكن لها أن تحقّق ذلك وهي تتعرض للرقابة والتهميش؟. * أنا معك تماما في أنّ الثقافة هي المنقذ الحقيقي وهي طوق النجاة الحقيقي وربما الوحيد الذي يمكن أن ينتشل الإنسان العربي من التخلّف ومن هوة السلفية والرجوع وعدم القدرة على الالتحاق بالعصر، أزمتنا الحقيقية الآن تكمن في طبيعة تقليدية وتراثية للكتلة الرئيسية من مجتمعاتنا، وربما تجد بعض الصعوبة في التلاؤم مع معطيات العصر، علاوة على الخوف باتجاه الغريب والجديد، فالعقلية العربية عقلية غير جسورة وغير شجاعة في تعاطيها مع المستجدات ابتداء من الاختراعات التكنولوجية وانتهاء بالأفكار والرؤى، وعندما يتعلق الأمر بكلّ الدعوات الداعية إلى تطوير المجتمعات كالدعوة لتحديد السكان التي تصطدم دائما بفكرة الحرام والحلال، كذلك الأمر فيما يتعلق بالتعامل مع البنوك وغيرها، أنا أراها تمثّل عقبة حقيقية اتجاه التقدّم وحتى وان تمتعت هذه المجتمعات بنخب وصفوات مثقفة يمكن أن تمثل قشرة خارجية براقة لهذه المجتمعات، بينما بكلّ أسف النواة الحقيقية للمجتمع ما زالت تعيش في عصور سابقة، من هذه الناحية يصبح العمل الثقافي عملا استراتيجيا ذا أهمية محورية ويصبح دور المثقف دورا كبيرا جدا يتعدى حدود تقديمه أفكارا جديدة إلى أن يصبح المنقذ والجسر الذي يمكن أن تبنيه هذه المجتمعات مع الحاضر والمستقبل في نفس الآن. - ولكن كيف يمكن للمثقف أن يقوم بهذا الدور الكبير؟ * قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب تعريف الثقافة أولا، من المهم أن نعرف حدود الثقافة وحدود المثقف أيضا، طبعا الثقافة بالمعنى المتداول هي غير الثقافة بالمعنى القاموسي اللغوي للكلمة، لا يوجد مجتمع ليس لديه ثقافة حتى المجتمعات البدائية لديها ثقافة لأنّ الثقافة في النهاية قضية أنماط تفكير وسلوك، وليس هناك أمة بدون أنماط تفكير وسلوك فلكلّ أمّة ثقافة أمّا الثقافة بالمعنى المتداول والمتعارف عليها ألاّ وهي تلك المعرفة المجاوزة لحركة الواقع والناظرة للمستقبل والناقدة للقائم والراغبة في التغيير فهذا ما نحن بصدد الحديث عنه. إذن هناك المثقف الذي ينبغي أن نعرف حدوده فلا توجد طبقة اسمها المثقفون، لأن كلّ مثقف على حدة وهو عالم قائم بذاته وله مشارب خاصة، بنية مزاجية ونمط تفكيري وآلية استخراج واستنتاج خاصة أيضا، فليس كلّ من يكتب مثقفا أي بهذا المعنى الشامل للكلمة لأنّه حتى أنماط الكتابة مختلفة فهناك الكتابة الإبداعية، الكتابة النقدية وهناك كتابة سياسية واجتماعية وغير ذلك، أعتقد أنّ المثقف هو ذلك الذي له قدر من المعرفة يجعله يطرح أمام نفسه غايات تتجاوز حدود مصلحة الذاتية إلى أن تصبح ممثلة لمصالح الأمة بالكامل، هذا المثقف هو المثقف العضوي ذلك الشخص الذي تتجاوز آماله وأهدافه حدود مصالحه الشخصية والخاصة، لكي تصبح مصالح الأمة بكاملها فهو الشخص الذي يحمل هموم الوطن وهموم الإنسانية على عاتقه، والمنوط به ليس طرح نظريات جديدة بقدر ما هو مطلوب طرح رؤية ذهنية جديدة بنية ذهنية جديدة.. "منتاليتي" جديدة. - وعلى ماذا تقوم هذه "المنتاليتي" الجديدة؟. * هي قائمة على فكرة النقد والإبداع، فلا يمكن لأي أمّة أن تخرج من وضعيتها التقليدية التراثية إلى وضعية أكثر رحابة إلاّ إذا تعاملت مع هذين المفهومين وهما النقد والإبداع، ونتحدّث أوّلا عن النقد فيجب أن تتمتّع الأمة العربية بحاسة نقدية وبوعي نقدي، بوعي لا يأخذ الأمور على أنّها مسلم بها من حيث الصواب ولا على أنّها مرفوضة من حيث الخطأ يعني أنّ لدينا تراثا إنسانيا وليس ملائكيا وفيه الكثير من الأخطاء والوقائع المجاوزة لاحتمال الإنسان، لدينا مذابح حدثت في تاريخنا وأشكال التسلّط والعنف مثلما لدينا أصحاب دعوات إصلاحية كبيرة وأفكار فلسفية وصوفية كبيرة أيضا. - حسبكم، هل توجد حدود للعقل؟ * حدود العقل هي المادة وما وراء المادة لا مجال فيه للعقل وهو مجال فيه الاستحسان، مثلا القلب، الراحة النفسية وإلى ما غير ذلك، هذا فيما يتعلق بالميتافيزيقا، أمّا عن الفيزيقا فهذه حدود المعرفة العلمية وأستطيع أن أقول أنّ هناك واقعة تاريخية هي واقعة مادية بالنسبة لي قد حدثت، أي هناك نظرية علمية أونقدية يمكنني أن أختبرها في المخبر، هذه مادة بالنسبة لي يمكنني أن أحلّلها وأناقشها وأطبّقها، أمّا فيما يتعلّق بالميتافيزيقا فهذا مجال الدين تلك المنطقة لا دور للعقل فيها بدون شك. - إذن للعقل حدود في الميتافيزيقا؟ * ليس محدودا ولكنه لا يمتلك معطيات البحث في هذا المجال، ففي مجال الميتافيزيقا لا مجال للبرهان هناك فقط مجال للتصديق أوغير تصديق، للإيمان أوغير إيمان، إذا خلطنا بين الاثنتين أصبحت هناك الكارثة، إذا ألغينا بهذا المنهج الثبوتي اليقيني التسليمي في مجال الحياة العملية أصبحت هناك الكارثة، أصبح كل داعية قادرا على قيادة الرعاع، أصبح كلّ دجال قادرا على أن يقود البشر، وتلك هي مأساتنا فهناك من يقول علينا بإعادة الخلافة، فبأيّ معطيات نعيد الخلافة؟ أيّ خلافة؟ خلافة الله أوخلافة الرسول؟، خلافة من على وجه التحديد؟، الشأن السياسي هل هو شأن إنساني أوإلهي؟، هذه القضايا مهمة للغاية عندما نكرّس ملكة النقد فيها وتصبح قابلة للنقاش عقليا وموضوعيا ونقديا باستعمال العقل نصبح قادرين على أن نمحص ما لدينا من قضايا، النقد ليس فقط نقد ماضينا وتراثنا وهو أمر بالغ الأهمية حتى لا ندخل في المصيدة مرتين. نحن بكل أسف ندخل مرات في المصيدة، ننقد الماضي حتى لا نقع في أخطائه وملابساته، وعدم القدرة على نقد الذات يجعلنا غير قادرين على تطوير الذات هذا الأمر بالغ الأهمية إذن نقد التراث والذات أمران مهمان وأيضا نقد الآخر فهناك من يقول أنّ البديل هو نقل التجربة الغربية الأوربية دون اعتبار خصوصية الظاهرة الاجتماعية والتاريخية الخاصة بنا ولا مراعاة الشروط المكانية والزمنية الخاصة بالمجتمع العربي التي هي بدورها لها خصائص ومسار تميّزها بدون شك مما يجعل أنّه ما يصلح للغرب قد لا يصلح بالضرورة للشرق لأنّ هناك مشوارا تاريخيا تمّ اجتيازه من قبل المجتمع الغربي لذلك مهم أيضا نقد التجربة الغربية التي هي محل نقد عندهم. - ومن له أحقية النقد، خاصة أنّ الناقد كيفما كان موضوعيا فهو في خلاصة الأمر إنسان أي ذاتي؟ * الذي يمتلك أحقية النقد هو المثقف الواعي العضوي الذي استقررنا عليه والذي يحمل هموما تتجاوز مصالحه الذاتية، أمّا عن الذاتية فهي موجودة عندما نتيح مجال النقد ويصبح موقفي الشخصي منك مثلا بمعزل عن موقفي الموضوعي، فالنقد ليس فقط طريقة عقلية ومنطقية في التفكير لكنّه أيضا نقد أخلاقي، فنحن في المجتمعات العربية لدينا اعتقاد أنّ من ينقدني هو يكرهني، هذا يعني أن هناك خلطا بين الموقف الموضوعي والشخصي وهو دليل على المراهقة الفكرية أي " أننا لم نتخط بعد حدود الطفولة تلك التي تنص على حب الأم كيفما كانت لأنها المرضعة وبالتالي هي منزهة عن الخطأ. فنقد شيء يعني الاهتمام به وليس كرهه، ولم يتطوّر الغرب إلاّ بهذه الروح، بهذه الوضعية في التفكير، إذن نقد الذات ونقد الآخر أمر مهم، هذا النقد يستلزم ماذا، يستلزم أنّني أكتشف عناصر النقص المعينة، هنا تأتي الملكة الثانية وهي ملكة الإبداع وملكة الإبداع كملكة النقد تحتاج إلى سقف مرتفع للغاية من الحرية. - كيف تحدّدون علاقة النقد بالإبداع؟ * غياب النقد يؤدّي إلى غياب الإبداع وغياب الإبداع يؤدي إلى التخلّف، ويؤدي إلى أن أبقى عاجزا مستهلكا منتظرا لأن يفيء علي الآخرون بمساعداتهم وبنظرياتهم وبأجهزتهم العلمية، أنا أتصوّر أنّ هاتين الملكتين بتلك البنية الذهنية القائمة على احترام العقل وتقديره وإيلائه الاحترام واحترم العلم باعتباره أحد أهم تجليات العقل وأحد أهم منتجاته وبالجرأة على النقد والجسارة على الإبداع، أتصوّر أنّ بهذه الوصفة يمكننا أن نخرج من أزمتنا في مجتمعاتنا العربية. - كيف هو حال الثقافة في أيامنا، هل تعيش نهضة معتبرة أم أياما حالكة؟ * لو اعتبرنا أنّ الثقافة هنا تعني الإبداع الأدبي فهي لا شك تعيش حالة ازدهار بشكل عام في المجتمعات العربية إذا قسنا الأمر من ناحية كمّ الإصدارات من قصة ورواية ومسرحية، لكن أخشى أنّنا لدينا كمّ أكثر منه كيف، فهناك عدد كبير من الإصدارات لكن ليست لدينا نوعية تضاهي ما هو معترف به على مستوى العالم. كنّا في الستينيات أكثر قدرة على إنتاج كيف ثقافي أفضل من الآن حيث كانت لدينا رموز ثقافية كبرى نفتقدها الآن كطه حسين في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وكان لدينا أيضا العقاد، أحمد أمين، كاتب ياسين ونجيب محفوظ والآن لدينا أدونيس وبوجدرة وحجازي وهم أبناء جيل الخمسينيات والستينيات، أخشى أنّنا مازلنا نعيش في نتاج حقبة الستينيات، ربّما السبعينيون ومن جاء بعدهم لم يستطيعوا أن يحقّقوا من القيمة والجدارة ما حقّقه السابقون. وفي هذا السياق أصدر العقاد كتابه الديوان وكان عمره ثلاثين عاما، الآن هناك من بلغوا الخمسين عاما ولم يقدّموا شيئا ذا بال، ربما الظرف مختلف أيضا، ولكن أعتبر أنّ الهجمة السلفية التي جاءت على مستوى العالم العربي بشكل عام كان لها دور كبير في تراجع الإبداع العربي، وربما كان أيضا نتيجة الإخفاقات العربية المتوالية بدءا من 67 حتى الآن وهذا الإحساس المفعم بالهزيمة والانحصار والتردي فعنفوان التحرّر الذي ساد في الستينات ربما كان له دور أيضا في جعل المثقف العربي والمبدع العربي يشعر بقدر ما بخيبة الأمل وانعدام الفائدة، ولكي لا أكون متشائما فأنا أتصوّر أنّ عددا من هؤلاء المبدعين المعاصرين سيكون لهم شأن في المستقبل القريب وعلى أي حال هذه الأمة لا تعقم، ودائما الحراك لا يؤدي إلا إلى الخير. - ونحن نعيش هذا الظرف الذي نحتاج فيه إلى الوحدة بدلا من الفرقة فإلام يعود تقسيم الأدب العربي إلى مغربي ومشرقي؟ * أظن أنّ المشكلة الكبرى في ظهور مثل هذا السؤال تكمن في ما صنعه الاستعمار من مشكل لغوي على وجه التحديد في منطقة المغرب العربي أقصد الجزائر، تونس والمغرب، هذا الحاجز اللغوي جعل بعضا من المغاربة يكونون ربما أقرب من المركز الفرنسي منه إلى المركز العربي وأصبح التفاعل مع الحركة الإبداعية العربية يحتاج إلى قدر من التخصّص، أعتقد أنّ الحاجز اللغوي هذا حاجز بالغ الخطر ومشاريع التعريب التي جاءت بعد الاستقلال لعبت دورا مهما في جزّ هذه الهوة، وخلال عشر سنوات الأخيرة أصبحت ألمس المزيد من التقارب بين المشرق والمغرب، قرأنا للطاهر بن جلون ووطار وبوجدرة، كما شهدت حقبة الثمانينيات على وجه التحديد حضورا مغاربيا قويا وكان هذا عن طريق الترجمة، بحيث استخدم القرب اللغوي من اللغة الفرنسية بشكل ايجابي فأصبح جسرا ما بين الثقافة الفرنسية والعربية وترجمت كتب قيمة مثل جوليا كريستيفا وبارت على أيد مغاربة. ينبغي أن تستخدم هذه الخصوصية اللغوية حتى تكون جسرا لا أن تكون فاصلا ما بين المثقفين العرب فيما بينهم، وهذا الأمر الايجابي هو الأكثر فاعلية في هذا الزمن، نعم يجب أن نفعّل هذا الجسر أكثر، وأشير إلى الكلام الذي قيل بين المفكرين محمد عابد الجابري وحسن حنفي القائم على أساس أن هناك خصوصية للعقل المشرقي وخصوصية للعقل المغربي الذي أراه كلاما مضحكا للغاية، على أية حال هناك علاقات أكاديمية وثقافية أشهدها بنفسي بين كتاب "مشارقة" و"مغاربة"، وفي حقيقة الأمر هذا التقسيم غير موجود، يأتون إلينا وينشرون عندنا ونقدّمهم في ندواتنا والعكس صحيح، وهناك علاقات بالغة الوثاقة لكن لا بأس أن أقول أنّ هناك خصوصية لمنطقة المغرب العربي جسّدها الميراث الكولونيالي المتمثّل في ازدواجية اللغة العربية والفرنسية. - أمام الثقافة طريق طويل للوصول إلى مبتغاها في العالم العربي، فما هي أهم العراقيل التي تواجهها في ذلك؟ * هناك مشاكل كثيرة في الدول العربية والمثقف محاصر بين سلطتين وقوتين مانعتين قاهرتين، الأولى هي السلطة الدينية والثانية سياسية، هناك مشكلة في ما يتعلق بالسلطة السياسية التي لا تقبل إلاّ بالخضوع التام في أغلب الأحيان والمشكلة مع السلطة الدينية من حيث محاولة للثابت -وهو الدين -التحكّم في المتغير -وهو الإبداع-، المثقف العربي مظلوم وأكاد أقول أنّ هناك طرفا ثالثا وهو المجتمع نفسه الذي لا يقبل إلاّ بمن ينافق مستقراته ويكرّس ما ورثه من الأقدمين، هناك مشكلة تثار في مصر منذ خمس سنوات متعلّقة بختان الإناث، وهذا أمر غير صحي وغير ديني والمؤسف أنّ العادة تأخذ في بعض الأحيان ذات القداسة التي يأخذها الدين. نحن أمام مشكلة اجتماعية أيضا، فمجتمعاتنا لم تنهض جميعها بل نهض البعض منها وبقي البعض الآخر في سبات فنجد أن لدينا مجدي يعقوب، فاروق الباز وأسماء كبيرة، بينما لدينا اكثر من 40 في المائة أميون لم يقرؤوا إطلاقا، وهذا المشكل طوّرته خصوصية تطوّرنا، فنحن تطوّرنا في الفترة الاستعمارية، بعضنا سافر إلى الخارج وتلقى تعليما عصريا وبعضنا لم يتلق ذات التعليم، إلى غير ذلك فإذا بالمجتمع يصبح مجتمعا منقسما إلى عدّة مجتمعات في حقيقة الأمر، على أيّة حال المثقف العربي همومه كثيرة وأعداؤه كثيرون وأزمته كبيرة وأنا أظن أنه قد آن الأوان لوجود هذه النخبة العربية القادرة على أن تفتح النار على الجميع وعلى نفسها أيضا، نحن في أمسّ الحاجة لها وهي توجد كأفراد لا كتيار، تفتح نار النقد والعقل والتشريح والإبداع والمواجهة. - أمام الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها المجتمعات العربية، هل هناك اهتمام بالثقافة؟ * لو تحسّنت الظروف الاجتماعية لن تكون هناك حاجة إلى مثقف فيكون المجتمع قد بارح أزمته، الضرورة تمليها وجود مثقف هي وجود أزمة، المثقف هو قائد الأمة والمضحي لأجلها مثقف يمكنه أن يدفع ثمن رؤيته ووعيه وان لا يكره وطنه ولا يكره شعبه.