وبين الفينة والأخرى يحدث نفسه في صمت وئيد ويخاطبها تارة ويؤنبها تارة أخرى.."أين أنت يا فارس..؟ أين هي شظايا أحلامك وطموحاتك الشهية..؟ لماذا تستلذ رحيق العذاب من أزاهير غربتك الضيقة.؟لماذا يا فارس لا تمتطي قوارب الموت وتمضي إلى هناك.؟ هناك من وراء البحر حيث العيش الرغيد والأمل السعيد.؟ أما آن لك يا فارس أن تقبل عرائس الربيع، وتطرد عنك رواسب الدهر.؟ لماذا لا تمضي لفتك أمل سرمدي هناك تحت شمس مشرقة.. يا لها من هواجس شيطانية ألمت به وبتفكيره المقيد.. وبعد هذه المحاورات النفسية المنهكة، أغلق نافذة الشرفة وتأبط محفظته السوداء وخرج محيطا حاملا معه ألوان شتى من زوابع الهموم التي أعيت كاهله المتعبة. لم يجد بدا من فك طلاسم حياته وتفكيره المبعثر ونصحه وتنويره إلى سبل الرشاد..لكن دون جدوى. وأول محطة حل بها مقهى الأحلام، حيث وجد بها شلة من أترابه وخلانه يتجاذبون ألوان الحديث الممل تتخللهم قهقهات هستيرية.. فشده فضول الشباب لفك لغز هذه الضحكات، وبعد أن حياهم أصغى إليهم مليا وإذا بأحدهم يربت على كتفه الثقل وأردف إليه بصوت خافت "الحرفة.. الحرفة يا فارس..! فاستوعب هذه البرقية العاجلة فورا، والتي من خلالها تنفس عباب الصعداء الراقد في أعماقه والتفت إلى فريقه وبشائر السرور تكاد تخنقه، وانفجر كالبركان الثائر "أصحيح ما تقول ياصديقي؟ وكيف السبيل إلى.. فقطاعه أحد أصدقائه الأوفياء وسأله مستغربا سوء حالته "ما لك يافارس ترقد على أفرشة الأوهام ونواميس السعادة ترفرف مشرقة فوق رأسك؟ ما لك تقسو على قيثارة روحك الفياضة وهي تعزف لك أعذب الألحان والأنغام..؟ لماذا تحن يا فارس لوجع غريب لا تفقه أسراره؟ لماذا تهجر خرير الماء الرقراق الصافي هناك في أحضان وطنك الدافئ وترحل بعيدا عبر قوارب الضياع والإنفجار حيث تستقبلك أسراب الغربان السوداء الغادرة؟ وبعد هنيهة أومأ فارس برأسه وقد تشتت أفكاره وتربعت في ثنايا معاناته فاسترسل مجيبا صديقه "يارفيقي لقد توقف نبض سعادتي هنيهة.. واكفهرت دروب الحياة وبهارجها في وجه بغتة.. أفين الفمر..؟ أين المفر..؟ يارفيقي ما أصبو إليه هو قارب المنى يحملني لشاطئ أخضر غير شاطئ هذا ويجوب بي مدن الخلد وحدائق البهجة.. حيث حلاوة السحر والمغامرة.. فقاطعه صديقه مرة أخرى "أفهم من فحوى كلماتك أنك ترغب في الهجرة والرحيل إلى هناك.." فأجاب دون كلل ولا ملل. أجل أجل يارفيقي تلك هي غايتي ومتهى سعادتي المنشودة.. هذا هو مطر عشقي المنهمر من عيون السماء أنشدته ليغسل ويمسح عني بقع وبقايا أثواني الرثة والمهترئة. هذا هو حلمي المزركش، هذا هو فقاطعه رفيقاه ثانية بعد أن تشبثت أخيه الغضب أوداج وجهه واشترأبت خيوط الضجر أعماقه" فارس تذكر جيدا بقايا نصيحتي إليك.. وفكر مليّا بعواقب تفكيرك ومبتناك.. فارس آن الأوان أن تسرد عنك أشبا الكرى وتستيقظ من سباتك العميق.آن الأوان أت تنزع عنك أشواك الطريق.. فارس كيف تهجر وطنا طالما ناح لفقدان واحد من أمثالك..؟ كيف تجهر أملا باسقا تراءى لك في أحلامك..؟ فارس..! وظنك نسمة صباحية عليلة صامتة، فلماذا تعكرها بأهازيج الرحيل..؟ فارس..! وطنك أقحوانه صيفية بديعة الألوان.. فلماذا تدنس رائحتها وتهجر رحيقها عبر مرافئ الأحزان..؟ وبعد هذه الشذرات المسترسلة استدرك فارس عذوبة كلمات صديقه الندية حيث عمدت براكين أنفاسه الشجية بعد ما علت ابتسامة بيضاء محياه الشاحب، فاستقل محفظته السوداء سائرا وهو يترقب أمواج البحر المتراقصة من بعيد وبكل عميق ويستمتع بأناشيد النوارس اليبضاء المحلقة في الأفق، وهو يردد نغما حديدا وبصوت دافئ..أيتها النوارس لا ترحلي..؟ أيتها النوارس لا ترحلي..؟