تعيش14عائلة بالبنايات المتواجدة بشارع11 محمد عداد، الكائن بالقصبة في قلب العاصمة ظروفا مزرية، قاسية وحياة صعبة، نتيجة غياب أبسط شروط الحياة الكريمة من غاز وماء وضروريات أخرى، بالإضافة إلى خطر الموت الذي يهددها من كل جانب بالنظر للحالة الكارثية التي آلت إليها العمارة الآيلة للانهيار نتيجة هشاشتها، ناهيك عن مشكل الضيق الذي يتخبط فيه السكان، وأغرب ما في الأمر أنهم يتقاسمون نفس المشاكل ويشتركون حتى في بيت خلاء واحد جماعي.. أمنية السكان هي النفاذ من المقصلة التي تتجدد مع كل يوم، لتقضي على أحلامهم إلى غاية حصولهم على سكن يأويهم وينسيهم همومهم. وصولنا إلى العمارة المتواجدة في القصبة، المعروفة بمعالمها الأثرية، والتي يسكنها هؤلاء منذ الاستقلال، كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا، تجولنا عبر ممراتها الضيقة، وسط جدرانها الهشة المسنودة بألواح خشبية من كل الجوانب، وكلنا حذر وحيطة خوفا من سقوط أجزاء من الحجارة أو انطباق العمارة علينا والتي يوحي مظهرها بأنها ستنقسم إلى نصفين، وعند بلوغنا السطح للمعاينة توجب علينا المرور من مدخل ضيق ومظلم لايمكنك حتى بلوغ السلالم، فتخال نفسك معلقا بين السماء والأرض... وأول من قابلناه هناك، كانت الحاجة "رقية" التي استقبلتنا بدموع تنهمر من خدودها المتجعدة، وداخل كوخها الصغير المتواجد بسفوح العمارة، وبكل حرقة تقول:"أرجوكم أنقدوني من هذا الجحيم.. لا أريد أن أموت أنا وزوجي في هذا الكوخ". اربعون سنة من الشقاء في كوخ داخل العمارة تتخبط الحاجة رقية وزوجها المعاق، وسط معاناة قاسية تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، بالكوخ المتواجد في سطح العمارة الذي لا يصلح لأي شيء، وانتهت مساحته الصغيرة جدا بمجرد دخولنا إليه، فالكوخ الذي حاولت هذه العائلة جعله السد المنيع لحماية أفرادها من نوائب الزمان، كان السبب الأول لمعاناة لا حدود لها تخللتها الكثير من الظروف القاسية، وتقول الحاجة رقية في هذا السياق "تجرعت كل أنواع الحرمان والشقاء في هذا الكوخ، فأنا لم أعرف معنى للنوم الهنيء، ففي فصل الشتاء أقضي وقتي في ترميم تلك الثقوب المتواجدة في السطح، كما أستخدم الدلاء حتى لا نغرق في مياه الأمطار، أما صيفا فأنا أقضيه في مطاردة الحشرات والجرذان التي جعلت من هذا الكوخ ملجأ لها، وفي نفس السياق -تضيف المتحدثة-، أنها في إحدى المرات تعرضت إلى هجوم من جرذ كبير، تسبب في دخولها المستشفى، واصلت الحاجة سرد تفاصيل معاناتها قائلة:" لا أتذكر كم مرة سقطت أجزاء الحجارة من السقف نظرا لكرة التصدعات بها ". .. إعاقات ضاعفت من مأساة العائلة ولم تنته مأساة هذه العائلة عند هذا الحد فقط، بل كتب على "الحاجة رقية" الإصابة بالعمى منذ سنوات، كما لم يسلم زوجها من الإعاقة بسبب الظروف القاسية التي يواجهونها، فهم يعيشون على رحمة وشفقة الجيران الذين يتكفلون بمساعدتهم، فالعائلة يبقى حلمها وأملها كبيرا في الحصول على بيت للم شملها، وتقول في هذا الشأن:"عندما يقوم أبنائي بزيارتي رفقة أحفادي لا أجد أين أضعهم، لأن المكان لايكفي لأكثر من شخصين، فأضطر إلى إطعامهم في الخارج، وهذه الأسباب تحرمني من قضاء وقت أطول رفقتهم". وكشفت الحاجة "رقية"، أنها لم تترك مكانا إلا وطرقت أبوابه من دائرة وبلدية وحتى الولاية، وبالرغم من كبر سنها إلا أنها مازالت تناشد كافة السلطات المعنية من أجل التدخل العاجل في أقرب الآجال لانتشالها من كابوس انهيار البناية فوق رؤوسهم وقساوة الحياة التي تلازمهم لسنوات تعود إلى 40 سنة خلت. عائلات تتشارك مرحاض جماعي وآخرون حولوا "الكوزينة" لذات الغرض يشكل قضاء الحاجة البيولوجية في هذه العمارة مشكلا كبيرا لدى العائلات، ولعل السبب راجع إلى تشارك قاطني العمارة لمرحاض جماعي، ولم يسلم من هذا المشكل سوى من وجد مساحة صغيرة بالقرب منه فحولها إلى شبه مرحاض، وهو ما أكده لنا أحد سكان العمارة قائلا:"في ظل بعد المسافة بين البيت والمرحاض الذي يشهد تدهورا كبيرا وهشاشة، فقد أجبرني هذا الوضع على أن أقسم المطبخ إلى جزئين وأحول نصفه الثاني إلى مرحاض، حتى أجنب المشقة على عائلتي للتنقل إلى ذاك المرحاض الجماعي لقضاء حاجياتهم البيولوجية، وفي ذات السياق طرح قاطنوا المبنى مشكلة الباب الرئيسي، فعبر أحد السكان في هذا الإطار بقوله:" بما أن العمارة تضم 14 عائلة فإن المدخل مشترك بين جميع السكان، فلا يمكن لأحد أن يضبط ساعة فتح أو غلق باب العمارة، مما يجعله مفتوح على مدار 24 ساعة وهو ما سهل مهمة دخول الغرباء إليها. المبنى مهدد بالانهيار.. والضيق أزم الوضع تعيش العائلات في هذه العمارة، وخاصة خلال السنوات الأخيرة كابوسا رهيبا، جراء هشاشة واهتراء سكناتهم، إذ تتساقط الحجارة من حين لآخر بالرغم من معاينة مصالح البلدية لهذه الوضعية وإجراءها لبعض الترميمات عن طريق شد الجدران بأعمدة خشبية- حسب تصريحات القاطنين-، إلا أن ذلك لم يجد نفعا، فأصبح كل من يقطن بالعمارة ينتابه الخوف من سقوطها المفاجئ وهي آهلة بالسكان، وفي هذا الصدد تقول خالتي "وهيبة" زوجة أحد المجاهدين بالثورة المجيدة "إننا نعيش في هذا المنزل بقدرة الله تعالى، ففي الليل ننام وسط أجواء من الخوف وهاجس الموت، وعندما نصبح نقول الحمد لله"، والسبب كله راجع لوضعية البناية التي أصبحت كارثية، فالحديد يظهر من السقف، والجدران متشققة جراء قنوات الصرف الموجودة بداخله وتدفق المياه من كل جهة، وتلك الخيوط الكهربائية المتشعبة هنا وهناك والتي زادت الطينة بلة، فيكفي حدوث شرارة صغيرة أن تحول العمارة إلى رماد وتصبح في خبر كان. وكشف مواطن آخر يقطن بالبناية قائلا:"أصبح يحرم علينا التمتع بالكهرباء في فصل الشتاء تجنبا لحوث مالا يحمد عقباه " وهو الحال نفسه الذي يميز بيت الخلاء المشترك لكل السكان، فهو خطر آخر يهدد حياة السكان نظرا لتساقط أجزاء الحجارة منه. .. وغرفة واحدة لعائلات بأكملها وأجمع السكان على أن جملة المشاكل التي يعانيها جل القاطنين هي في كفة وضيق المسكن في كفة أخرى، فضيق المسكن أخد نصيبه من المعاناة التي يتخبط فيها القاطنين، والتي تركت بعض الشباب يبحثون عن عمل في الفترة الليلية ليتركوا لذويهم مكانا ينامون فيه، أما البعض الآخر فقام بتقسيم البيت الصغير إلى قسمين أو ثلاثة، وهذا ما أكده لنا "فرعي علي" مجاهد يعيش في ذات المكان منذ الاستقلال، حيث قال:" لقد أنهكنا الضّيق، إذ أعيش مع عائلتي المتكونة من 13 فردا في بيت يحتوي على غرفة واحدة، وقد ناشدت كل السلطات لكن دون جدوى، ليضيف آخر في ذات السياق:" لم أقم بالاستحمام، ولم أغيّر ملابسي ببيتي منذ 40 سنة، والحل الوحيد بالنسبة لي في الوقت الراهن اللجوء إلى الحمام". وهاهو آخر يسرد معاناته مع الأوضاع المزرية التي يعيشها، كاشفا بأنه يتوجه في كثير من الأحيان إلى الفندق للمبيت فيه نظرا لعدم وجود الراحة بالمنزل الذي يضم عددا كبيرا من الأفراد، ليضيف في نفس السياق بأنه أقدم على تقسيم الغرفة الواحدة التي يعيش فيها إلى نصفين حتى يتسنى له الزواج، مستعينا في ذلك بستار فقط لفصل بينهما. كسور، حوادث، وفيات.. تضاف لقائمة الأمراض أمراض مختلفة هي مصير كل قاطني العمارة، نتيجة الرطوبة العالية المسجلة بسكناتهم، والغبار الناتج عن انهيار بعض أجزاء الحجارة منها، إذ سجلت عدة أمراض مزمنة لدى غالبية السكان، كضيق في التنفس وأمراض الحساسية، بالإضافة إلى عدة إصابات وحوادث أخرى تتربص بالسكان بين فترة وأخرى. وقد تسنى ل " السياسي" لدى تواجدها بعين المكان، الوقوف عند آخر حادث تعرض له طفل لا يتجاوز الثاني عشر من عمره، نتيجة هشاشة الدرج، كما أدت هذه الظروف الكارثية إلى وفاة إحدى الفتيات في ربيع عمرها بسبب الحساسية الزائدة نتيجة الرطوبة. السكان يصرخون: "لا نريد إلا قبر الدنيا قبل فوات الأوان " تتعدد شخصياتهم وأعمارهم إلا أن مشكلتهم واحدة تؤرق صغيرهم قبل كبيرهم، فحلم الكل هنا يتجلى في الحصول على سكن يريحهم عناء الأيام القاسية، وينسيهم قهرها ومطباتها وهذا ما قالته إحدى قاطنات العمارة: "نريد قبر الدنيا قبل أن تسقط علينا العمارة ويفوت الأوان"، فكلهم يحلمون متى يأتي يوم الفرج، وتقوم فيه السلطات بترحيلهم إلى سكنات لائقة.