يواجه العديد من اطفال التوحد مصيرا مجهولا، بعد أن أدخل هذا المرض معظم الأولياء في دوامة، جراء حالات أبنائهم المستعصية والتي لم يجدوا لها منفذا لتشخيصها، حيث تبقى هذه الفئة تعاني شدة حالها، فالطفل المصاب بداء التوحد يواجه العديد من الصعوبات من جهة كصعوبة فهم هذا الداء والتكيّف معه، ومن جهة أخرى، صعوبة إستيعاب أفراد المجتمع لهذه الحالة، أما أكبر معضلة تواجه المصابين وعائلاتهم هي نقص الإمكانيات والمراكز المتخصصة، مما يجعل هذه العائلات تصارع الزمن من أجل التكفل بمصابها بأحسن الطرق والوسائل. وتوصلت بعض الأسر المثقفة إلى فهم ومحاولة تشخيص مرض التوحد فيما لم تجد العديد من الأسر تفسيرا للتصرفات غير المألوفة لأطفالهم فقد تضر الطفل بدل مساعدته بسبب عدم تقبل الكثيرين فكرة ابن غير سوي ما دام جسمه سالما وحتى عقله، رغم غرابة تصرفاته وانطوائه عن العالم الخارجي، فيبقى بالنسبة للكثيرين طفل سوي قد يتحسن بمرور الأيام إلا أن المشكلة أكثر خطورة وتعقيدا. مختصون يؤكدون: «التوحد ليس مرضا وإنما اضطراب يجتاح النمو الطبيعي للطفل»
يعد مرض التوحد من بين الأمراض التي لازالت قيد البحث لمعرفة أسبابها، كما أن الأطباء لم يفصلوا بعد في هذا المرض إن كان مرضا فيزيائيا أم لا؟، في الوقت الذي يعتبره آخرون مرضا نفسيا، وللاستفسار أكثر عن هذا المرض، توجهنا الى المركز المتخصص la porte du bien pour lautisme، حيث قدّم لنا محمد، أخصائي نفسي رفقة زوجته «ب. أ»، أخصائية في علم التخاطب، الأرطوفونيا، بعض التوضيحات حول مرض التوحد وعن التجربة التي خاضها المختصون في أكبر مركز في الشرق الاوسط «شموع الأمل للتربية الخاصة»، وأكد متحدثونا أن التوحد هو عبارة عن اضطراب نمائي يمس جميع المستويات الشخصية، في حين يحتاج الطفل المصاب بالتوحد إلى تأهيل قدراته، وأشار إلى أن التوحد ليس مرضا وإنما اضطراب يجتاح النمو الطبيعي للطفل على كل المستويات وكل الجوانب، فعلى المستوى المعرفي، نجد أطفال التوحد من أذكى الأطفال وفي بعض الاحيان يتغلب مصابو التوحد على الاطفال العاديين، حسب المتحدث، وفي نفس الإطار، أكدت الاستاذة «ب. أ»، مختصة في علم التخاطب بالمركز «أن أطفال التوحد يفتقدون للمدخلات الحسية التي يتعرفون من خلالها على الأشياء، فلا يمكن للمصاب بالتوحد معرفة دور اليد ولا العين وكذا مختلف الأعضاء الأخرى»، ما يؤكد أنهم ليسوا أطفال غير عاديين وإنما هم أطفال مختلفون، فليس هناك دلالات في المظهر الخارجي تميز المصاب عن باقي الأطفال العاديين، بالاضافة الى فقدانهم للحركات القولبية التي نجدها عند عامة الناس، كالحركات الروتينية اليومية من حركات اليد وما الى ذلك، فيما يبقى للبعض الآخر رصيد لغوي لكن لا يمكنهم توظيفه في مكانه، فهم يعيدون الكلمات التي يسمعونها فقط، اذ يفتقدون إلى أدوات الربط التي تساعدهم على تكوين جملة مفيدة، لتؤكد محدثتنا «أن مصابي التوحد لا يعانون من أي خلل على مستوى الجانب العضوي ولا الجهاز النطقي ولا حتى على مستوى مستقبلاتهم اللغوية التي تكون في الغالب جيّدة»، كما لديهم معلومات لكن يجدون صعوبة كبيرة في ترجمتها إلى أقوال وجمل يفهمها الكل.
أعراض التوحد قد تظهر من خلال التواصل الاجتماعي بعد 36 شهرا
وتظهر أعراض التوحد من خلال عدة صفات، ومن أبرزها تأخر في تطور المهارات اللفظية وغير اللفظية واضطراب السلوك والتفاعل، وخاصة أثناء التواصل الاجتماعي، لكن الأعراض الحقيقية لهذا الداء، حسبما يشخصها الاطباء، تظهر من خلال التواصل الاجتماعي بعد 36 شهرا، إذ يقول الأستاذ «فراس. ز»، مختصة في علم النفس العيادي، أن «الطفل التوحدي لا يكتسب التعليم بنفسه، ولكن عن طريق التلقين، فهو غريب التخيل، روتيني، لا يعبر بالكلام ولكن غالبا ما تراه يحتج بأسلوبه العدواني الناتج عن الغضب الطفولي أو الصبياني». ومن جملة الأعراض التي تظهر على الطفل التوحدي، يقول المختص النفساني، أنها تتمثل في صعوبة التواصل الاجتماعي سواء كان الاتصال لفظيا أو بصريا، ويحدث خلل في الإستجابات، فيستجيب المصاب للأشياء أكثر من استجابته للأشخاص، كما أن الروتين يعد ميزة الشخص المصاب بالتوحد حيث يكرّر حركات معينة دون كلل أو ملل، ويضطرب دائما من محاولات التغيير في حياته.
الأبحاث المتواصلة تؤكد صعوبة المرض
أما عن أحدث ما توصلت إليه الأبحاث التي مازالت متواصلة عن هذا المرض، فيؤكد النفساني محمد تبري، أن مرض التوحد من الإعاقات التطورية الصعبة بالنسبة للطفل والتي تدفعه إلى صعوبة التفاعل الاجتماعي والتأخر في النمو الإدراكي وفي الكلام وفي تطور اللغة، وقد لا يبدأ المصاب بالكلام قبل خمس سنوات، بالإضافة إلى البطء في المهارات التعليمية، كما تعاني نسبة كبيرة من المرضى من حالات الصرع ومن الحركات الزائدة وعدم القدرة علي التركيز والاستيعاب إضافة إلى حقيقة هامة أخرى عن مرض التوحد، وهي أن اكبر نسبة من حالات الإصابة تكون بين الذكور. ومن بين أهم أعراض المرض أشار الدكتور بوطاف، أستاذ بكلية علم النفس بجامعة بوزريعة، إلى أن الطفل يكون مفرط الحركة ولا يستطيع التواصل مع البشر، كما نجده محبا لتدوير الأجسام واللعب بها، ومن أكثر ما يميز المصاب بالتوحد أيضا أنه يطيل البقاء واللعب الإنفرادي بأسلوب متحفظ وفاتر المشاعر، بحسب أستاذ علم النفس، وأشارت دراسات أخرى إلى أن هذا المرض منتشر بنسبة طفل واحد في كل 250 طفل وهي نسبة مخيفة بعض الشيء لا سيما أن هذا الداء يعتبر من الأمراض التي لا تلقى الصدى الإيجابي في أوساط أفراد المجتمع الذين لازالوا يعتبرون مرضى التوحد مجانين أو معاقين والبعض الآخر يجهل تماما المرض، بينما الحقيقة تختلف كثيرا، وتزيد الصعوبة على المرضى أكثر عندما يبلغون سن المراهقة.
الأسباب تبقى محل جدل وقد تختلف من بيئة إلى أخرى
أما عن الاسباب التي تبقى محل جدل كبير بين أهل الإختصاص، فلم يتم إلى حد الآن التوصل إلى نتائج مرضية، ففيما يخص الأسباب، تبقى نسبة حالات التوحد في ارتفاع مخيف سواء في الدول المتطورة أو السائرة في طريق النمو وحتى المتخلفة منها، إذ أن هناك العديد من الآراء المتضاربة، حسبما ذهب إليه الأخصائي، فليس هناك سبب مقنع ورئيسي يسبّب التوحد، فهناك من يقول أن التواصل الاجتماعي قد يكون عائقا، ليتطور إلى درجة الإنعزال البذيء ويبدأ تدريجيا داخل الاسرة ومع الأمهات خاصة اللواتي يتركن الأطفال أمام التلفاز لساعات طويلة ظنا منهن أنه سيتعلم اللغات منه، في حين أنه في غالب الأحيان يكون هناك استقبال بصري بحت وهذا ما يجعل الجانب اللفضي يتراجع تدريجيا، وحذّر مختصون في الوقت ذاته من بعض البرامج الخطيرة ومنها «شان ذي الشيب»، «توم وجيري»، لأن الطفل في فترة حرجة لاكتساب اللغة، وهذا ما يجهله الآباء، في حين يمكن للفئات العمرية التي تعدت مرحلة اكتساب اللغة أن تشاهد مثل هذه البرامج التي يكون مفعولها منخفضا جدا مقارنة بالفئات العمرية الاولى. وفي ذات السياق، أكد الأخصائي النفساني من خلال تجربته التي قضاها في دول الخليج، أن حالات التوحد التي ارتفعت بنسبة كبيرة قد ترجع للحروب والمواد الكيماوية، أما عن الجزائر، فارتفع العدد المصرح به في سنة 2004 الى الضعف من 40000 حالة الى 80000 حالة، فيما تبقى الحالات الاخرى غير مصرح بها في خانة المجهول، أما فيما يخص التشخيص، فيبدأ بدراسة الحالة المتكونة من عديد الاسئلة التي مرت بها الام بداية من فترة الحمل الى ما بعد الولادة، بالاضافة الى التشخيص الارطوفوني. فيما يبقى العديد من الاولياء في حيرة من امرهم على فلذات اكبادهم، حيث زادت وضعية هذه الفئة في الجزائر تعقيدا بارتفاع عدد مرضى التوحد الذين يبقى مصيرهم مجهولا في ظل نقص الامكانيات والمعلومات الكافية عن هذا المرض الذي عجز أهل الاختصاص عن إيجاد تشخيص دقيق له.
الأولياء في حيرة على مستقبل أبنائهم وحتى التعامل معهم
من جهته، عبّر «سفيان. ك» عن حيرته التي طال أمدها بعد أن اكتشف أن أبناءه الثلاثة غير عاديين، حتى أنه لم يكن يتقبل الأمر بسهولة، خاصة أنهم كلهم مصابون بالتوحد، حيث أن ابنه الأكبر «ر. ك» لم يكتشف مرضه حتى سن السادسة بعد أن وجّهت لوالده ملاحظات من المدرسة، حول كيفية التواصل التي كان يتعامل بها مع أصدقائه وخاصة المعلمة، فاضطرت لاستدعاء الوالد الذي صدم بالأمر، ليبدأ رحلة البحث عن العلاج ومحاولة إنقاذ طفله قبل فوات الآوان في حين أنه يجهل صعوبة المرض، خاصة في ظل نقص الإمكانيات في بلادنا، ليكتشف مؤخرا أن أطفاله الآخرين يعانون نفس الحالة، ولم يتمكن المختصون من النجاح في تشخيص حالتهم، مما جعل الوالد يفكر في نقل اولاده الى العلاج بالخارج. ومن جهة اخرى، تبقى السيدة «أ. ب» تعاني حالة هستيريا بسبب إصابة ابنها بالتوحد لم تكتشفها إلا بعد انقضاء السنة الثالثة من عمره، معبرة أن حياتها دخلت نفقا مظلما بسبب ابنها خصوصا وأنها لم تجد له منفذا صحيا تلجأ اليه كمحاولة لتأهيل طفلها، خاصة أنه أصبح محروما من كل شيء، حتى الدراسة واللعب والتمتع بالحياة، كما لم تخف الام خوفها الشديد على مستقبل ابنها، خاصة وأنها لا تعرف التعامل معه عندما يحتاج إلى أي شيء، في حين تمنت الأم توفر مراكز متخصصة في هذا المجال.
هناك العديد من برامج التشخيص.. لكنها تختلف من منطقة إلى أخرى
من حيث البرامج التي يعتمدها مركز la porte du bien pour l autisme، أكد محمد تبري، على الاول والاساسي «ذو تيتش»، ويعتمد هذا البرنامج على لوحة النشاط التي تحتوي على صورة كل توحدي، وهذا البرنامج يساعد على التدريب اليومي الذي يمارسه الطفل، ليتطرق فيه إلى البرنامج اليومي، التاريخ، الجو، فطور الصباح وأشياء اخرى، فيصبح الطفل مبرمجا على معرفة الأشياء التي يريدها المصاب بالتوحد وهنا يكون الطفل قد تخطى مشكلة كبيرة في التواصل، فالطفل التوحدي يشاهد حسب الذاكرة البصرية، وقد حقّق هذا البرنامج نتائج ايجابية، حسب اهل الاختصاص. أما البرنامج الآخر، وهو «المكاتون»، الذي يعتبر برنامجا سلبيا باعتباره يعتمد على إشارات الصم البكم بشكل كبير وهذا ما يعاب عليه، اذا تلغى اللغة لدى الطفل بالاضافة إلى أنه يواجه مشكلة في التواصل مع الأشخاص العاديين، وبرنامج «أ. بي. أ»، فهو عبارة عن سلوك المنعكس الشرطي للمدرسة السلوكية، وبرنامج «الباك»، الذي يعتمد عليه بدرجة كبيرة هو عبارة عن برنامج للتواصل عن طريق الصور، وهو أشمل البرامج الأخرى، الذي يمكّن الطفل من تركيب جملة مفهومة عن طريق الصور، سواء النوم أو الأكل، فيما تعتبر نتائجه جد إيجابية. وقدّم الأخصائي بعض النصائح لأولياء مصابي التوحد، حيث يعتبر الماء مهما جدا من خلال تعليم الاطفال السباحة التي تمكنهم من الاحتكاك بأعضاء الجسم، بالإضافة إلى تنظيم خرجات مختلفة للأطفال، إلى جانب ركوب الخيل الذي برهنت الدراسات الأخيرة أن هناك تواصلا عالي المستوى بين الطفل التوحدي والأحصنة.