من منكم يقرأ أخلاقه عليه الصلاة والسلام ثم لا يهتز كيانه وتسيل دموعه، ويذوب قلبه شوقا، من منكم يملك عواطفه أمام نبله وكرمه وشهامته وتواضعه؟ من ذا الذي يطالع سيرته الجميلة وصفاته الجليلة وأخلاقه النبيلة، ثم لا ينفجر باكياً ويصرخ: أشهد أنك رسول الله. ليتنا نعامل أصدقاءنا كما عامل رسولنا أعداءه: »إن الله أمرني أن أصلَ من قطعني وأن أعطي من حرمني وأن أعفو عمن ظلمني«! ليتنا نعامل أبناءنا كما عامل رسولنا، صلى الله عليه وسلم، الخدم والعمال، فقد كان له غلام يهودي يخدمه، فمرض الغلام فعاده (زاره)، صلى الله عليه وسلم، وجلس عند رأسه وسأل عن حاله ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم الغلام، فقال رسول الله وهو مستبشر مسرور: »الحمد لله الذي أنقذه بي من النار«، وقام رجل من اليهود يتقاضى الرسول، صلى الله عليه وسلم، ديْناً في المسجد أمام الناس ورفع اليهودي صوته على الرسول وألحّ بصخب وغضب، والرسول يتبسم ويترفق به، فلما طال الموقف صرخ اليهودي، قائلاً: أشهد أنك رسول الله، لأننا نقرأ في التوراة عنك أنك كلما أُغضبت ازددت حلماً! آذاه قومه، طردوه، شتموه، أخرجوه، حاربوه، وما تركوا فعلاً قبيحاً إلا واجهوه به، فلما انتصر وفتح مكة قام فيهم خطيباً وأعلن العفو العام على رؤوس الأشهاد والتاريخ يكتب والدهر يشهد: »عفا الله عنكم اذهبوا فأنتم الطلقاء«! طرده أهل الطائف ورموه بالحجارة وأدموا عِقبيه بأبي هو وأمي، فأخذ يمسح الدم، ويقول: »اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون«، يوقفه الأعرابي في الطريق فيقف معه طويلاً ولا ينصرف حتى ينصرف الأعرابي، تسأله العجوز فيقف معها مجيباً مترفقاً باراً حنوناً، يحافظ على كرامة الإنسان واحترام الإنسان وحقوق الإنسان فلا يسب ولا يشتم ولا يلعن ولا يجرح ولا يشهّر وإذا أراد أن ينبه على خطأ قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ ويقول: »ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء«، ويقول: »إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً«. فكان، صلى الله عليه وسلم، يخصف نعله، يخيط ثوبه، يكنس بيته، يحلب شاته، يؤثر أصحابه بالطعام، يكره التزلف والمديح والتملق، يحنو على المسكين، يقف مع المظلوم، يزور الأرملة، يعود (يزور) المريض، يشيّع الجنازة، يمسح رأس اليتيم، يشفق على المرأة، يقري الضيف، يطعم الجائع، يمازح الأطفال، ويرحم الحيوان. أقرأ سِيَر العظماء والفاتحين والمجددين والمصلحين والعباقرة، فإذا قرأت سيرته، صلى الله عليه وسلم، فكأنني لا أعرف أحداً غيره، ولا أعترف بأحد سواه، يصغرون في عيني، يتلاشون من فؤادي، ينتهون من ذاكرتي، يغيبون عن مخيلتي. بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لن تغيب عنا، أنت في قلوبنا، أنت في أرواحنا، أنت في ضمائرنا، أنت في أسماعنا وأبصارنا، أنت في كل قطرة من دمائنا، أنت في كل ذرة من أجسامنا، أنت تعيش في جوانحنا بسنتك وهديك ومثلك العليا وأخلاقك السامية، فديناك بالأنفس، فديناك بالأبناء والأهل جميعا، أرواحنا لروحك الفداء، أعراضنا لعرضك الوقاء. صلى الله وسلم عليك كلما ذكرك الذاكرون، وصلى الله وسلم عليك كلما غفل عن ذكرك الغافلون.