كثيرون هم الكتاب الذين يجهلون الحافز الذي دفعهم إلى الكتابة، هذا ليس حال الروائي المغربي، الطاهر بن جلون، وإن كان عليه الانتظار خمسين عاماً كي يجرؤ على العودة إلى القصة المؤلمة التي عاشها في سن العشرين وحدّدت قدره ككاتب. خمسون عاماً للعثور على كلماتها الصائبة وسردها كما يرغب. وقد جاءت النتيجة نصّاً صاعقاً ومؤثراً صدر حديثاً عن دار غاليمار الباريسية تحت عنوان العقوبة . منذ الصفحات الأولى، نعرف عن أي قصة يتحدّث بن جلّون. فعام 1965، نزل آلاف الطلاب إلى شوارع المدن المغربية الكبرى لمطالبة المسؤولين السياسيين بعدالة تربوية وحق أبناء القرى في التعليم مثل أبناء المدن، وكان الكاتب واحداً من هؤلاء المتظاهرين. ولأنه كان أيضاً مسؤولاً في مكتب الاتحاد الوطني للطلاب، ألقيت عليه تهمة تنظيم هذه المظاهرات التي قمعت بعنف دموي، وأرسل عام 1966، مع 94 طالباً آخر، إلى معسكر تأديبي في شمال المغرب لم يخرج منه قبل كانون الثاني 1968. العقوبة تروي إذاً محنته ومحنة رفاقه خلال فترة ال19 شهراً التي أمضوها في الأسر لإقدامهم على التظاهر سلمياً في بلدهم. إذ تحت غطاء الخدمة العسكرية، رمي بهم في ثكنة للجيش حيث وجدوا أنفسهم سجناء ضبّاط مخلصين للجنرال أوفقير ما لبثوا أن أخضعوهم لشتى أنواع الإذلال والمضايقات والمناورات العسكرية الخطيرة، تحت الذرائع الأكثر عبثية، قبل أن يحرّروهم من دون تفسير لانشغالهم في التحضير لانقلاب صخيرات الشهير. وفي معرض وصفه هذه العقوبة، يقول الكاتب: كان الهدف إساءة معاملتنا بجميع الوسائل، عبر تحويلنا إلى رهائن في يد جنود أميين، أغبياء ومتوحّشين يكنّون الكراهية لكل ما له علاقة بالثقافة والفكر . وبسرعة، يحزر القارئ في هذه السردية القصيرة نسبياً (160 صفحة) أن الراوي هو بن جلون نفسه، خصوصاً حين نراه يروي، من أقرب مسافة ممكنة، ما كانت عليه تلك الشهور الطويلة التي طبعت عامه العشرين ونمت إدراكه وجعلت منه كاتباً في ما بعد. سردٌ نتعرّف من خلاله إلى تلك الحقبة التي كنا نعيش خلالها في الخوف، ونتحدث بصوت منخفض، ونشتبه بقدرة الجدران على حفظ الجمل الملفوظة ضد النظام، ضد الملك وأتباعه ، كما نتعرف إلى طبيعة المكان الذي سجن الكاتب فيه مع رفاقه. مكان تديره شخصيات سيكوباتية كانت تملك صلاحية كاملة لتلقين الشبّان المغربيين عكس ما كان أهاليهم يحاولون تعليمهم إياه، أي التوقف عن التفكير، التخلي عن إرادتهم الحرة، الرضى بالانحطاط الأخلاقي والوسخ الجسدي والسيكولوجي، طأطأة الرأس، الطاعة العمياء، الشكر بعد الإذلا، باختصار، التحول إلى مجرد شيء في يد أولئك الذي كانوا يتحكمون بمصائرهم. وبالتالي، لا لزوم للغوص في التفاصيل المخيفة للعقوبة التي خضع لها هؤلاء الطلاب وللقول إنها كانت بلا رحمة، قاسية مثل الجدران التي كانت تختنق أجسادهم الفتية داخلها، كريهة مثل الوجه المخدد لجنرال بلا ضمير ومتمرس في أشنع وسائل التعذيب، مقرفة مثل وجبات الطعام التي كانت تقدم إليهم وتتركهم على جوعهم، باردة مثل لياليهم، وعنيفة مثل الشمس الحارقة التي كانت تتمّ تحتها عملية تأديبهم. لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن ما سيساعد الراوي، الكاتب على تحمّل الحرمان والإذلال والإرهاق، وعلى مصارعة الانهيار الذي كان يتربص به في كل لحظة، هو انكبابه على كتابة الشعر، حين كانت تسنح له الفرصة، وقراءته عند المساء رواية عوليس لجايمس جويس التي جلبها أخوه له إلى السجن، لكن بجرعات صغيرة كي تدوم هذه القراءة أطول فترة ممكنة، وحلمه بالحرية والمستقبل أو استحضاره ذكريات حياته وقراءاته السابقة، من دون أن ننسى تفكيره تارة بالفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه الذي كان مثله شاباً وسجيناً في بوليفيا، وتارة بقصة الحب الجميلة التي كان يعيشها مع شابة مغربية قبل توقيفه، ولن يلبث أن يفقدها بسبب ذلك. ومن هذا المنطلق، العقوبة هي أيضاً سردية ولادة تلك الدعوة إلى الكتابة التي سيلبيها بن جلون لاحقاً. فإلى جانب فشل المحنة التي عاشها في صباه في إفقاده إنسانيته وجعله صلبا، كما كان يردد سجانوه على مسمعه، علمته قدرة الذهن والفكر على إنقاذنا، وقيمة الثقافة، والضرورة الطارئة للكتابة على المستويين الحميمي والجماعي. وربما هذا ما يفسّر بعضاً من سطوة هذه السردية السيرذاتية وحدّتها المنيرة، أي عودة صاحبها إلى ذلك الجرح الذي لم يلتئم بعد، على رغم مرور خمسة عقود عليه، من أجل سقي نثرها منه. ونقول بعضا لأن لقوة هذه السردية مكمناً آخر، ونقصد تجرد الكاتب فيها من جلده كقاص يبرع في ابتكار الصور وشحذ الاستعارات من أجل الاستسلام لسردٍ بصيغة الحاضر وبطريقة وقائعية جافة، مجرّدة من أي زخرفة أو تجميل؛ سرد للأشياء كما حصلت في ذلك الحين، يوماً بعد يوم. وبكتابته هذا النص بعد نصف قرنٍ من الزمن، لا يسجّل الكاتب فقط عودة شخصية إلى الماضي لسرد أحداثٍ مستوحاة من وقائع حقيقية عاشها، بل يكتب أيضاً صفحة من تاريخ وطنه غير معروفة كفاية، كاشفاً عيوب السلطة العسكرية المغربية في الستينيات التي لم تخن فقط الشباب المغربي عبر تكميمه وقمعه، بل خانت أيضاً القصر التي كانت تستمد سلطتها منه عبر محاولتها الانقلاب على الملك الحسن الثاني بعد فترة قصيرة من أحداث 1965. وهذا ما يقودنا إلى السبب الآخر الذي دفع بن جلون إلى كتابة العقوبة ، وأشار إليه في أحد الحوارات التي أجريت معه حديثاً: أردت أيضاً أن أبين أن المغرب تغيّر كثيراً، خصوصاً للجيل المغربي الشاب الذي لم يعش تلك المرحلة من تاريخه ولا يرى التقدّم والتطور اللذين حدثا. لا أقول أن لا مشاكل أو صعوبات اليوم، لكننا نملك الحرية للتكلّم عنها، وعلينا أن نقرّ أحياناً بذلك .