ليس من الصعوبة تحديد المقصود بالفلسفة الغربية الحديثة، فهي الفلسفة التي يكاد نجد حولها الإجماع في مجالات عدة، فهي في البداية فلسفة لا تشكيك في كونها كذلك، نتيجة لتمتعها بكل ما من شأنها أن يجعلها فلسفة، ومن جهة ثانية فإن المعلومات المتوفرة حولها وافرة، أضف إلى ذلك أن لا مجال للتشكيك في وجود فلاسفتها،أو حتى في نسب أعمالهم إليهم، رغم أن هناك من يشكك في مصدرية هذه الأعمال أو الأفكار. من هنا نستطيع القول أن المقصود بالفلسفة الغربية الحديثة، هي تلك الفلسفة التي ظهرت في أوروبا الغربية عقب العصور الوسطى ، و رافقت عصر النهضة الأوروبية أولا، والثورة الصناعية فيما بعد، وتميزت في عموميتها بصراعها الطويل مع الكنيسة المسيحية ، سواء أكانت كاثوليكية كما هو الحال في إيطاليا وفرنسا وغيرهما، أو بروتستنتية كما هو الحال بالنسبة لألمانية و بريطانيا و غيرهما. 1 1 ظهور التصور الجديد في أوروبا: وقد مهدت المواقف التقليدية التى كانت قريبة من الموقف الكنسي لمواقف جديدة كانت للفكر الفلسفي اقرب فإذا تتبعنا تاريخ العلمانية في الفلسفة السياسية الغربية نجدها قد مرت بعدة مراحل يمكننا اختصارها في ثلاث. المرحلة الأولى تميزت بمناهضة المسيحية, كما هو الحال بالنسبة لماكيافيلي (1469-1527م) بينما تميزت المرحلة الثانية بالدعوة إلى سيادة الدولة, كما هو الحال بالنسبة لهوبز(1588-1659م) في حين اتسمت المرحلة الأخيرة بالدعوة إلى جعل الدين في خدمة الدولة, كما دعا إلى ذلك روسو (1712-1778 م) وفيما يلي تفصيلا لما ذكرناه مجملا: 12 مناهضة المسيحية عند ماكيافيلي: اذا عدنا الى نيكولا ماكيافللي نجده يقترح على الامير الراغب في اقامة دولة موحدة قوية ان يتخلى عن الاخلاق المسيحية التي قادت الى سقوط روما على يد قبائل القوط الغربية فضلا عن ابقائها على ايطاليا ممزقة ويؤكد ماكيافللي على ان سقوط روما لا يعد امرا عارضا وانما يعود الى اسباب ذاتية تتصف بها المسيحية تجعل امر سقوط الدولة وزوالها امرا طبيعيا. واما عن هذه الاسباب فيرى ماكيافللي انها تنحصر في كون المسيحية ترجع غاية الانسان الى الآخرة خلافا لهدف الدولة وغايتها التي ترجع غاية الانسان الى تعمير الارض وهذا ما يتماشى والاخلاق الرومانية الوثنية القديمة كما ان المسيحية تتميز بتمجيد التواضع والنزاهة وتفضيل الحياة الباطنية عن الحياة العملية الظاهرة مما يجعلها توهن عزيمة الانسان وبالتلي تسلم قيادة الدنيا لاهل الجراة والعنف خلافا للديانة الوثنية الرومانية التي تخلع على القادة هيبة الهية تجعلهم محل تقديس وخوف من مواطنيهم . ولهذا نجد ما كيافللي ينصح الامير اذا كان لابد أن يختار بين أن يكون محبوبا لدى رعيته او يكون مهابا .ان لا يتردد في ان يكون مهابا بطريقة يتجنب فيها الكراهية لشخصه ويؤكد ماكيافللي هذا بقوله: "فان من الافضل ان يخافوك على ان يحبوك هذا اذا توجب عليك الاختيار بينهما ) واما عن السباب التي جعلت الكنيسة المسيحية تحافظ على تمزيق ايطاليا فيجمعها ماكيافللي في عدم قدرة الكنيسة على توحيد ايطاليا من جهة ومنعها لكل محاولة لتوحيدها من جهة اخرى حفاضا على مصالحها وهذا ما دفع الايطاليين حسب ماكيافللي لعدم احترام السلطة الزمنية التي يتمتع بها البابا . ويؤكد ماكيافللي فضلا على ذلك :"أن ايطاليا قد خسرت بتاثير المثل السيئ الذي يقدمه بلاط روما كل اجلال للدين وقد نجم عن هذا الواقع عدد لا يحصى من المتاعب والفتن ". ونتيجة لذلك اصبح الايطاليون ملحدين وغير مستقيمين ولهذه الاسباب يعتقد ماكيافللي انه لابد من استبعاد الاخلاق عن السياسة وحصر الدين في مجاله الخاص به المتمثل في علاقة الانسان بمعبوده وبهذا تتشكل الاخلاق والدين وفقا للسياسة وليس العكس . وهذا ما كانت روما القديمة تؤكد عليه . وبهذا حاول ماكيافللي ابعاد المسيحية عن الدولة لكن هذا لم يتم فعليا مما دفع هوبز الى مواصلة نهج سلفه. 1- 3 سيادة الدولة عند توماس هوبز: ان الدارس لحياة هوبز وفلسفته يستخلص ان الصراع بينه وبين رجال الدين المسيحي بدا مبكرا وخاصة بعد اصدار توماس هوبز لكتابه (مبادئ القوانين) سنة 1650م والذي دافع فيه عن النزعة المطلقة في الحكم بما يتعارض و روح الدين مما دفع الكنيسة تتخذ منه موقفا معارضا وصل الى حد منع الكتاب من التداول و قد برزت نزعة هوبز الالحادية بالخصوص في كتابه (في الجسم) الذي هاجم فيه رجال الدين المسيحي واصفا اياهم بالدجل . واما في كتابه (التنين او الوحش الكاسر) الذي صدر عام 1652م فقد اعتبر الدين مجرد اكاذيب و تضليل اخترعتها البشرية نتيجة لخوفها من القوى الشريرة و جهلها بالعدل وهذا ما دفعها الى عبادة ما تخشاه وتهابه مما دفع المشرعين القدماء في الامم الوثنية الى استغلال ذلك و جعلوا تعاليمهم صادرة عن الله.رغبة في استغلال الدين لتحقيق رغباتهم الخاصة.وقد اكد ماكيافللي هذه الرغبة عندما اشار الى استخدام الرومان (الدين في اصلاح احوال مدينتهم وفي المضيء في حروبهم)" واما عن مصير الدين فيؤكد هوبز على انه سينتهي الى الزوال، اذ تأكد للناس بأن مؤسسي الاديان وزعمائها لا يتمتعون بالحكمة والاخلاص ، والى قريب من هذا ذهب ماكيافللي من فبل عندماقال: " عندما شرع العرافون من قول ما يسر الاقوياء فحسب ، وعندما اكتشف الشعب هذا التضليل ، أخذ يشك في حقيقتهم" ومما سبق نستخلص هوبز ضرورة عزل الدين ورجاله من التدخل في سلطة الدولة حفاظا على سيادتها ولتوحيد السلطات لابد من خضوع الكنيسة للدولة على اعتبار أنه لا وجود لسلطة دينية التي ليست الا بدعة اختلقها الخيال. 1-4 الدين في خدمة الدولة عند روسو: أما عن روسو فيعتبر أن البشرية في تاريخها الطويل لم تخلو في عصر من من عصورها من اتباع دين معين ، لان اثره لا يقتصر على الافراد بل انه يتعدى الى الجماعات وحتى الى الدولة ، وهذا ما جعل من السلطة في البدايات الاولى للبشرية تحت سيطرة ملوك الهة ، ولهذا كانت الحكومات السائدة دينية وكانت السلطة السياسية مرتبطة بالسلطة الدينية، ولم يكن فصل بين السلطتين روحيو ومدنية، لكن انقسام السلطتين في المسيحية ادى الى النزاع و الاضطراب الدائم، وبالتالي جعل اية سياسة صالحة " مستحيلة في الدول المسيحية، ولم يصل الناس الى معرفة من يحب ان يلتزموا بطاعته، السيد، ام القسيس". لكن هذا كما يرى روسو، يخالف الدين الاسلامي ، الذي يتميز بالجمع بين السلطتين السياسية والروحية ولا سيما زمن الرسول "ص" الذي اقام نظاما سياسيا استمر بعد وفاته على يد خلفائه. ومعنى هذا ان روسو يرغب في اقامة نظام مختلف عن الديانات المعروفة ، وهذا الدين الذي يتحدث عنه يسميه بالدين المدني ،تؤمن به الدولة لكن ما يميز هذا الدين عن غيرو كون الهه قادرا وذكيا ، محسنا بصيرا مديرا فضلا ، عن الايمان باليوم الاخر ،لكن هذا الدين لا يجبر احدا على الاعتقاد به ، بل انه يدعو إلى التسامح وعدم إكراه الغير على الإيمان به ، ومعنى هذا انه يحق لكل فرد اختيار الدين الذي يناسبه ويحبب إليه وجباته لكن هذا لا يهم الدولة إلا بمقدار ارتباط أخلاقه" بالواجبات الاجتماعية المترتبة على معتنقيها تجاه الآخرين". وأما عن عقائد هذا الدين ، فهي بسيطة وقليلة العدد، ومحددة بدقة ، مما جعلها دون حاجة إلى تفسير أو تعليق من احد، ويبدو هنا أن روسو يريد دين غير المسيحية، التي يعتبرها ديانة الأميين التي تخالف الفطرة البشرية، أنها ديانة تجعل تعقيدات مختلفة يفسرها الكهنة حسب رغباتهم دون السماح لأحد بتفسير أو فهم. ونعود لدولة روسو فهي لا تهتم بمصير رعاياها في العالم الآخر ، وإنما عليها فقط الاهتمام بالكيفية التي تجعلهم رعايا صالحين في هذا العالم ، وهذا حفاظا على جعل هذه العقيدة مدنية خالصة باعتبارها ديانة طبيعية ، وليست سماوية صادرة عن الوحي. وبهذا نصل إلى أن الدين في دولة روسو خادم للسياسة, بالأحرى هو وسيلة تستخدمها الدولة لزيادة قوتها وتحقيق الرفاهية لمواطنيها . -2 فلسفة التاريخ الحديثة: لا يعد القضاء على الدولة التيوقراطية الكنيسية هدفا وحيدا تسعى الفلسفة الحديثة إلى تحقيقه، وإنما تهدف فضلا على ذلك إلى تصفية إرث الماضي العلمي ، والقضاء على النظام اللاهوتي واستبداله بنظام علمي ، وفلسفي جديد ، يقوم على معايير جديدة. ، متمثلة في فلسفة التاريخ عند هيجل (1770-1830م) وماركس (1818-1883م) ، وفي نظرية داروين (1809-1882م) في البيولوجيا فما حقيقة هذه الفلسفات ؟ هذا ماسنتحدث عنه فيما يلي: 1-4 فلسفة التاريخ عند هيجل: إذا أردنا أن نعرف الأسس التي يتألف منها مذهب هيجل الفلسفي فإننا نجدها كما يقول عبد الرحمن بدوي ، لا تخرج عن "ثلاث معان رئيسية : الفكرة ، الطبيعة، الروح ، وهذه المعان الثلاث ترجع إلى معنى واحد هو الفكرة ، فالفكر هو المنطق ". أما هذه الأخير فإن له ثلاث مراحل متتابعة في فترات زمنية مختلفة هي : الوضع (الإثبات) ، الرفع (النفي) ،وأخيرا المركب ، ويؤكد المودودي أن هيجل يرى "أن ما يحصل في الحضارة الإنسانية ، من تطور وارتقاء إنما يحصل بظهور الأضداد وتناطحها وتمازجها وأن كل دور من أدوار التاريخ في حد ذاته وحدة أو كائن جسدي حي ". وبهذا فكل النظريات الإنسانية المختلفة من نظريات اقتصادية و سياسية وعقلية وخلقية ودينية تتلاءم والعصر الذي برزت فيه روح الدور الزمني بكامله . 4 -2 فلسفة التاريخ عند ماركس : أما الفلسفة الماركسية فقد استمدت من الهيجلية منهجها الجدلي لكن بعد أن فصلت عنها: " تصور الروح أو الفكر الذي كان جوهر فلسفة هيجل". وجعلت بدلا من ذلك العامل الاقتصادي المادي المحرك للعملية التاريخية ، واعتبرت الدين والفلسفة والعلوم والفنون وبالجملة سائر الأفكار والتصورات الإنسانية لا تتشكل إلا بتأثير هذا النظام الاقتصادي ". وبلغة الماركسية فإن البنية التحتية الممثلة في الجوانب المادية الاقتصادية التي يعبر عنها الأستاذ مالك بن نبي ((1905-1973م بعالم الأشياء هي التي توجه البنية الفوقية المتمثلة في الإيديولوجيا أو ما يعبر عنه بعالم الأفكار . وطبقا لهذه التصورات فإن القوة الرئيسية التي تقضي على هذا التغيير في الأمور البشرية ليست: " الفكرة الهيجلية ولكن الظروف المادية للحياة ، فليس الوعي عند الإنسان هو الذي يشكل الظروف المادية للحياة ، وإنما الظروف المادية للحياة هي التي تشكل وعيهم ، ولهذا فإن التاريخ البشري يقوم على شيء مادي ". وبهذا ليس هناك دور لمبادئ الدين والأخلاق ، وعلى الإنسان إتباع مصالحه الذاتية ، وما تدعو إليه أهدافه الاقتصادية ، وهذا ما يعرف بالمادية التاريخية ، التي تجعل من تاريخ البشرية عبارة عن صراع بين الشعوب أو بين أصحاب الملكية الفردية وبين المعدمين ، كما يعتبر أن الملكية الفردية هي منبع كل الشرور الموجودة مما يجعل القضاء عليها أمرا ضروريا. ونتيجة لهذا التصور فقد اعتبر ماركس أن البشرية مرت بخمسة أشكال اقتصادية هي : 1. المرحلة المشاعية البدائية . .2 مرحلة الرقيق . 3. المرحلة الإقطاعية . 4. مرحلة المجتمع الرأسمالي . 5. مرحلة المجتمع الاشتراكي . وترى هذه الفلسفة أن كل مرحلة تحمل في طياتها بذور فنائها ، وأن البشرية ما دامت قد بدأت تاريخيا بالمجتمع الشيوعي فإنها وفقا لقانون الجدل ستعود إلى المرحلة التي انطلقت منها ، لأن التاريخ يكرر نفسه . 3-4 نظرية النشوء والارتقاء عند تشارلز داروين: هذا في مجال الفلسفة أما في مجال العلوم الطبيعية ،فقد وقعت تحت سيطرة الدارونية التي ترى بأن :"الكائنات الحية في تطور دائم على أساس من الانتخاب الطبيعي بقاء الأصلح فتنشأ الأنواع من بعضها البعض ولا سيما النوع الإنساني الذي انحدر من أنواع حيوانية". بمعنى أن أصل الأنواع الحالية يمكن أن يفسر بأصل واحد أو ببضعة أصول نمت وتكاثرت وتنوعت في زمن مديد بمقتضاه قانون الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح . وهذه النظرية في الواقع تنسب إلى تشارلز داروين الذي استخلصها من خلال مشاهدته المختلفة والتي دامت أكثر من خمس سنوات والاستعانة بكتاب مالتوس (1766-1834م) عن السكان الذي يتحدث فيه عن الزيادة الهندسية للبشر في حين أن الغذاء لا يتزايد إلا وفق زيادة عددية مما نجم عنه قلة الغذاء وتزايد في الأفواه التي تتغذى. مما يدفع إلى التناحر والتقاتل للحصول على الغذاء لمواصلة الحياة ، رغم أن هذه النظرية مجرد فرضية علمية لم تقدم لحد الساعة الأدلة التي تجعل منها حقيقة علمية ثابة، وبالتالي فانها وفقا لهذا التصور لا ترتقي الى مستوى العلم اليقيني لكونها قائمة على مجرد القياس والتخمين اللذان لا يفيدان في العلم شيئا. وفضلا على ذلك فإنها تقود إلى الحروب والفتن والقضاء على الإنسان و إنسانيته ، وتجعل منه مجرد حيوان لا يختلف عن غيره من الحيوانات . وبهذا فأن البشر وفقا لهذه النظرية لا يتعاملون إلا كما تتعامل الوحوش في الغابة. ولا بد من أن يقوم الإنسان باستخلاص القوانين والمبادئ لحياته لا من مصدر من المصادر السامية ، وإنما نجده يبحث عنها في حياة الوحش والبهائم. كما أن هذه الفرضية تبرز الظلم وتجعله حقا مشروعا ، حتى أن :" هذه الفلسفة هي التي جعلت في أيدي رجال أوروبا حجة قوية سوغت لهم كل ما أذاقوا أمم الأرض المستضعفة من ضرورة الظلم والعدوان ". وهكذا استأصلوا سكان أمريكا الأصليين ، وسكان أستراليا وإفريقيا . باختصار فإن هذه النظرية التي نشأت في أحضان المادية- حولت الإنسان إلى مجرد ذئب مفترس لأخيه الإنسان في جميع مجالات الحياة من سياسية واجتماعية واقتصادية وحتى عسكرية وأخلاقية . وهكذا نستخلص أن العلمانية في جوهرها تقوم على الفصل بين الدين والدولة ، وهذا الفصل تنظر إليه على أنه شرط أساسي للقضاء على الاستبداد ، فضلا على تحرير العقل من كل خرافة وإطلاق الروح العلمية والإبداعية. وهي بهذا تحاول إقامة الحياة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية على أساس عقلي مجرد من رواسب الدين وقائم على أسس ووقائع مادية بحتة. وبهذا فالعقل عليه أن يتحرر من الرواسب العاطفية والأفكار المسبقة التي تغذي فيه: " اتجاهات الاستعلاء والانغلاق والطبعة والعنصرية ". وبالتالي فإن العقيدة وجميع نشاطات الحياة الروحية يقتصر على نطاق الفرد دون أن تكون لها علاقة بالمجتمع والدولة . فالعلمانية التي هي نتاج صراع بين رجال الكنيسة وفلاسفة وعلماء عصر النهضة أصبحت لها الغلبة في أوروبا ، مما جعلها تنزع القدسية عن نشاط وممارسة الدولة والحكام وإخضاعها للمناقشة في مجال الفلسفة السياسية ، وأما في مجال عالم الأفكار فقد قضت على الفلسفة اللاهوتية المدرسية التي كانت قائمة عليها الكنيسة الكاثولوكية . 5- أثر التصور الجديد في الفكر العربي: يذهب أغلب الباحثين في فلسفة الإسلام السياسية إلى القول بأن فكرة التمييز بين الدين والدولة لم تظهر في الإسلام الا مع سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك في مارس 1924م بعد أن مهد لذلك بفصل الدين عن السياسة في غرة نوفمبر 1922م بقوله: "مقام الخلافة محفوظ وبجانبه مقام السيادة الوطنية ، أي الجمعية الوطنية التركية الكبرى ، ولاشك أن هذين المقامين يقفان جنبا إلى جنب وقفة أسمى من وقفة الخلافة العاجزة الضعيفة" . وطبقا لهذا أصدرت الجمعية الوطنية التركية قرار يفوضها حق تمثيل الشعب التركي و حاكميته . وبهذا فرقت تركيا سياسيا بين نظام الحكم والاجتماع من جانب وبين الدين من جانب آخر ، واعتبرت أنه لا علاقة للدين بنظام الحياة والعمران والمملكة إطلاقا. 5 1 علي عبد الرازق: وقد واكب علي عبد الرزاق هذه النزعة الجديدة بإصداره كتابا بعنوان " الإسلام وأصول الحكم " يدعو فيه صراحة إلى فصل الدين عن الدولة . غير أن المتتبع لهذه الأفكار يلاحظ أنها كانت نتيجة لتأثير الفلسفة العلمانية الحديثة الوافدة من أوروبا والتي أصبحت لها الغلبة الفعلية في العالم الإسلامي ، وهذا باعتراف أنصار هذا الموقف الجديد ، فنجد عبد الرزاق يشير صراحة إلى تأثير الفلسفة العلمانية الإستشراقية في كتاباته عندما ينصح كل من يطالع كتابه بضرورة الرجوع إلى أفكار توماس إرنولد الواردة في كتابه "الخلافة" الصادر عام 1924 م . أي قبل سنة واحدة من صدور كتاب علي عبد الرزاق ، وهذا بقوله: " وإذا أردت مزيدا في هذا البحث فارجع إلى كتاب (الخلافة) للعلامة السير توماس إرنولد ، ففي الباب الثاني والثالث بيان ممتع ومقنع". 5 -2 طه حسين : أما الدكتور طه حسين فيرى أنه لابد :" من أن نسير سيرة الأوروبيين ونسك مسالكهم لنكون لهم أنداد وشركاء في الحضارة خيرها شرها ، حلوها ومرها وما يحب منها وما يكره ، وما يحمد منها وما يعاب " . ويؤكد هذا في موضع آخر من كتابه "مستقبل الثقافة في مصر "بقوله:" وأن نشعر الأوروبي بأننا نرى الأشياء كما يراها ، ونقوم الأشياء كما يقومها ، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها ". وبعد أن أصبحت أوروبا المعاصرة تقول بضرورة الفصل بين الدين والدولة ، كان لا بد على هؤلاء أن يقولوا بذلك لأن أوروبا بالنسبة لهم هي القدرة وليس الإسلام وفلسفته.