صدر عن »منشورات كارم الشريف« لصاحبها الإعلامي كارم الشريف، كتاب جديد في طبعة أنيقة بعنوان "فوكو والجنون الغربي" للفيلسوف التونسي محمد المزوغي، ويندرج ضمن السلسلة الفلسفية، وهو الكتاب الثاني من مجموعة كتب ستصدر عن نفس المنشورات تحت محور "في نقد ما بعد الحداثة"، وكان الكتاب الأول بعنوان "نيتشه والفلسفة" لنفس المؤلف، وفيها سيهتم مجموعة من خيرة المفكرين والفلاسفة التونسيين والعرب، بإعادة قراءة رموز الفلسفة والفكر الغربية، وفق رؤية بعيدا عن كل أشكال التكرار وأنماط الإجترار والتأثر الأعمى وغيرها من الميزات السلبية التي اتسمت بها أغلب الأطروحات والأبحاث والدراسات التي كتبها المفكرون العرب حول الفكر الغربي. وأكد كارم الشريف على أن ما سيصدر عن منشوراته سينبني أساسا على القراءة النقدية الجادة القائمة على النقد الموضوعي والتناول الجدي والكتابة الندية والكشف عن إيجابياتها وسلبيتها، لأن غايتها الرئيسية فتح آفاق جديدة أمام الفكر والفلسفة العربية، وتحريرهما من التبعية الفكرية التي أثرت سلبا على بنية العقل العربي وحولته إلى آلة ناسخة، أحدث حوارا فكريا متكافئا، قوامه الإسهام الفعال في تطوير الفكر الإنساني. ويعد مؤلف الكتاب الفيلسوف التونسي محمد المزوغي المقيم بالعاصمة الإيطالية روما، حيث يدرّس الفلسفة بالمعهد العالي للدراسات العربية والإسلامية، من أبرز المختصين في الفلسفة الحديثة المعاصرة عربيا وعالميا، إضافة إلى اهتمامه بالفكر العربي في شتى مراحله التاريخية، وقد أثرى المكتبة الفلسفية والفكرية بمجموعة قيمة من الكتب، نذكر منها: "نيتشه، هايدغر، فوكو، تفكيك ونقد" - دار المعرفة للنشر تونس 2004، و"الإيمان والعقل في الإسلام: موازنة تاريخية نقدية" (باللغة الإيطالية) نابولي 2004، و"عمانويل كانط: الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص" دار الساقي- لبنان 2007، و"العقل بين الوحي والتاريخ: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون" منشورات الجمل 2007، كما نشر عشرات البحوث والدراسات الفكرية والفلسفية القيمة بكبريات الدوريات والمجلات العربية والغربية المختصة. وجاء الكتاب الذي تقوم بتوزيعه "الشركة التونسية للصحافة" داخل تونس وخارجها، في طبعة أنيقة من الحجم المتوسط تضم 170 صفحة، ويتوزع على سبعة عشر فصلا تتناول بالقراءة والنقد المسيرة الحياتية والفلسفية لميشال فوكو، وهي: "إشكالية فوكو" و"مواقف متضاربة" و"رسول ما بعد الحداثة" و"حياة تجارب" و"العقل الغربي ونقيضه: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" و"اعتراض مبدئي" و"الجنون الغربي" و"استراحة نقدية" و"الجنون في ظلمة الأنوار" و"دفاعا عن التنوير" و"تاريخ تقدّمي" و"خطابة الجنون" و"مأساة المجنون" و"الجنون بين الواقع والوهم" و"تاريخ مثالي" و"نقض الجنون" و"في سجن العقل" و"تحرير المثقف من الخصوصية : تشومسكي- فوكو". ومنذ البداية يبين المؤلف: "أن هذا الكتاب ثورة على التفكير في الطريقة المتساهلة التي تقبّل بها بعض المفكرين العرب أطروحات فوكو، وتزكيتهم لها دون أن يخالجهم الشكّ يوما ما في أنها تفتح الباب أمام كلّ أصناف العدمية واللاعقل...". وكما أنه لا أحد يمكنه التشكيك في أهمية فوكو ولا في ما أضافه من تنويع في كيفيات النظر في الفكر الأوروبي القديم والمعاصر، لقد كان الفيلسوف الذي فتح مجالات بكراً للنظر الفلسفي كالجنون والعيادة والجنس والسجون... وأضاف رؤية منهجية جديدة تسعى إلى الحفر الأركيولوجي لكشف الطبقات التي يقوم عليه كل خطاب موضوع الدراسة. فإن ما عرف به فوكو عند العرب، ليس هو فقط ما جاء في كتاباته، بل إننا نكتشف من خلال مداخلاته أو الحوارات التي قام بها أنه فيلسوف قابع في مجاله الحضاري الغربي، وأن ما يراد لخطابه من العالمية ليس مما كان يشغله. بل إن ما يريده بعض المفكرين الغربيين والعرب من خطاب فوكو وهو الوضوح المنهجي الذي يساعد على تبين حدود الموضوعي وخصوصا من خلال كتاب "حفريات المعرفة" أو من خلال كتاب "الكلمات والأشياء" ليس أمرا بديهيا إلى هذه الدرجة التي يبدو عليها، ويكشف لنا محمد المزوغي عن هذا الأمر من خلال النظر في قول فوكو الفلسفي نفسه. ينطلق صاحب الكتاب من تحديد إشكالية الفيلسوف مقدما مجموعة من المواقف المتضاربة كموقف إدوارد سعيد وجيل دولوز اللذين لا يخفيان إعجابهما بشخصية الفيلسوف وبما أضافه إلى المبحث الفلسفي من قدرة على التفكيك باعتماد التميز بين المعرفي والسلطوي، أو مواقف ميجيل وهايدن وايت اللذين عارضا منذ البداية خطاب فوكو والاستراتيجيات التي يخدمها، ففي حين يقرّ المعجبان ببراعة فوكو في التميز بين المعرفة والسلطة وفي قدرته على الكشف عن الطبقات التي ترسب تحت نصوص هامشية كوثائق السجن أو المصحة العقلية... يقرّ المعارضان، بنفور، بأن خطاب فوكو ليس سوى وريث ل"عدمية نيتشه" وأن الأسلوب الذي كان يعتمده فوكو في كتاباته يساهم في حجب خطابه عن أي تناول نقدي على مبادئ إيديولوجية تختلف عن مبادئه. ولا يتعلق الأمر عند محمد المزوغي بمسألة أسلوب الخطاب أو الرغبة في إخفاء الانتماء الإيديولوجي عند فوكو أو عسر تحديده بل يشمل استراتيجية القول الفلسفي عنده ونعني بذلك أن فوكو، كما يبينه محمد المزوغي، فيلسوف يضحي بالدقة العلمية من أجل استباقات أو تكهنات قد تموت لحظة ميلادها، وذلك من خلال الربط بين البحث الفلسفي والتجربة الذاتية، هذا الربط الذي يهدد الصرامة المنهجية والنتائج التي يصل إليها الفيلسوف. ثم يخصص محمد المزوغي باقي الكتاب تقريبا للنظر في كتاب فوكو "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" وعلاقته بالقضايا الفلسفية التي تحوم حول العقل والموقف من الجنون سواء اعتبر نقيض العقل أم اعتبر عاهة في الدماغ كما كان يعتبرها فولتير. ناقش محمد المزوغي المسألة من زوايا عديدة بعضها له علاقة بالكتاب في حد ذاته من حيث اختيار حدود الموضوع الزمنية التي يعتبرها "أمرا محرجا" لأن أي مبحث فلسفي جدي يطمح نحو الشمولية، ومن حيث معنى الجنون الغربي في علاقته بتاريخ الغرب، وبعضها له علاقة بالانتقادات التي وجهت إلى عمل فوكو في هذا الكتاب سواء التي قدمها خوزي مركيور، أم هادين وايت، وبعضها له علاقة بما يطرحه الموضوع من مسائل ذات علاقة بالأنوار أو بالنظرة التقدمية للتاريخ، أو بإدانة العقلانية، أو بمبحث الحقيقة، أو بالعدمية... ثم ينهي نظره في كتاب فوكو بفصل سماه "نقض الجنون" يعرض مجموعة هامة من اعتراضات الباحثين على أطروحات فوكو في كتابه مثل موقف لندروث، وانتقادات غوييه، وبيتر سادفيك اختصاصي الأمراض العقلية، وإيريك ميدلفورت الذي اعتبر عمل فوكو مقوّضا لكل مجهودات الباحثين الجديين في تاريخ الأمراض العقلية في أوروبا. غير أن عمل محمد المزوغي لا يقف عند النظر في "كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" بل يمتدّ إلى موقف فوكو من المثقف ودوره في الحياة المعاصرة، وللنظر في تاريخ الجنون وقضية المثقف علاقات وشيجة تتمثل في أن التأريخ للجنون والانحصار داخل الفضاء الغربي الأوروبي يقوّض مبدأ المثقف العضوي كما يطرحه غرامشي أو المثقف المسؤول كما يظهر منة حركات الاحتجاج التي عاشها فوكو نفسه في أواخر الستينات وبداية السبعينات. إن مهاجمة العقل عند فوكو أمر بين للجميع خصوصا في الحوارات التي يسمح فيها بالكشف عما قد لا توفر له الكتب فرصة الانكشاف، إنه يربط بين العقل والنازية والاستبداد والسلطة المفرط فيها. وهذا الموقف من العقل يؤدي إلى موقف من الإنسان ومن حريته فهو يسمي كل خطاب حول الإنسان ب"السبات الأنثروبولوجي". يطرح فوكو في مقابل المثقف الإنساني مقولة المثقف الخصوصي ويقدم محمد المزوغي نقدا دقيقا لاذعا لهذه المقولة في آخر كتابه. وقد انتقد المؤلف بحدة التأثير السلبي لفوكو بالنسبة إلى كثير من المثقفين العرب والفهم الخاطئ له، حيث يعتقدون أنه : "مفكر من طينة أخرى، فهو الوحيد الذي استمع إلى صوت المكبوتين والمهمّشين. لقد استوعب ميشال فوكو - حسب رأيهم - الدرس النيتشوي وفجّر مكبوتات الخطاب الفلسفي فأصبح يستمع إلى لوغوس المكبوتين والجنون والمتهتكين والمجانين ولوغوس الجنس". يمثل كتاب "فوكو والجنون الغربي" لمحمد المزوغي نوعا جديدا من الكتابات التي تتوجه إلى أقطاب الفكر الفلسفي الغربي، ويتميز هذا النوع بأنه لا يعمل على التعريف بإنجازاتهم المنهجية والفلسفية والإيديولوجية التي ينهل منها الفكر العربي وإنما في تعرية خطر كتاباتهم وأثرها، لا على الموضوعية العلمية وجدية المباحث الفلسفية فحسب بل على كينونة الإنسان بما هو كائن حر ذو دور في مجتمعه وحضارته. ومن بين النتائج الهامة جدا التي توصل إليها المزوغي والملفتة للنظر هي "أن - فوكو- لم يتحدث طوال حياته إلا عن الغرب( من موقف فرنسي )عقل غربي، جنون غربي، أركيولوجيا غربية، تنوير غربي، أنثربولوجيا غربية. لقد استحوذ على مقولاته ضمير النّحن، في جميع معانيه وصيغه الإقصائية. تاريخ الأفكار الذي اهتم به فوكو هو تاريخ متموقع في زمان مخصوص وفي ركن محدّد من خارطة العالم: أعني أفكار الغرب وبالتحديد أوروبا. ليس هناك في كتابات فوكو ولو إشارة واحدة صريحة تدل على أن تحاليله تمتد خارج رقعتها الجغرافية، ولا وجود لكتاب واحد يتطرّق فيه لإشكاليات تهمّ الإنسانية جمعاء، أو تتجاوز نطاق حدودها الزمنية والجغرافية. ليس هناك كتاب واحد، لأنه لو أقدم على عمل كهذا لنقض نفسه بنفسه ولتخلى نهائيا عن مقولة المثقف الخصوصي التي هي أتعس ما خلفه لأتباعه. المرّة الوحيدة التي خرج فيها فوكو من جلدته الغربية وحاول التطرق إلى مشاكل عالمية راهنة، قام بها كصحفي، لا كفيلسوف. وأقصد بالتحديد تغطيته لأحداث الثورة الإيرانية. والنتيجة هي أنه أخطأ التقييم..."