هل تحتاج الكتابة إلى طقوس؟ لكل كاتب طقوسه في الكتابة، أو بمعنى أدق، معظم الكُتاب لديهم طقوسهم الخاصة أثناء الكتابة، وهي تختلف من كاتب إلى آخر. «كراس الثقافة» في عدد اليوم، اقترب من بعض الكتاب والأدباء وفتح معهم ملف وموضوع «الكتابة والطقوس». وطرح أسئلة ذات صلة بهذه المسألة، فهل هم ككتاب وأدباء، لديهم «طقوس» معينة أثناء الكتابة، أم أنهم يكتبون بعيدا عن مناخ الطقوس؟. أيضا هل تحتاج الكتابة إلى طقوس، وهل يرون أن بعض طقوس الكتابة مزعجة وبمثابة العادات السيئة؟، أم هي طبيعية وضرورية وتدخل في حالات وسياقات مزاجية الكاتب وطقوسيته؟. إستطلاع/ نوّارة لحرش
الحبيب السايح/ روائي النص في لحظات تشكله هو الذي يحول الكاتب إلى أثاث طقَسي أي أثر يحدثه الكلام في موضوع الكتابة عن طقسية الكتابة إن لم يكن الرد على سؤال افتراضي حول جوّ «الكهانة» الذي يهيئه هذا الروائي أو ذاك لإنشاء نصه؟. الكتابة، أي كتابة، تبدأ شفهية، تتشكل بتلك الصفة وتستمر كذلك حتى وقد خُطّت على ورق أو في صفحة الحاسوب متعرضة في كل مرة إلى عمليات هدم وإعادة بناء وأحيانا إلى حذف نهائي في سياق تبديلي متواصل إلى أن ترضى. الكتابة، أجل الكتابة. عن الشكل النهائي أو القريب منه. ليس هناك نص، الروائي خاصة قياسا إلى الشعري، ينكتب ضمن طقس اعتيادي، أعني بالطقَس الحال المزاجية المسيطرة على الذات الكاتبة والمتبدلة المتغيرة، ليس فقط بفعل كيمياء الجسد التي تؤثر في الوعي وفي درجة التحمل، ما دامت الكتابة تتطلب العافية الشاملة، ولكن أيضا بما تتعرض لها من ضغط الخارجي ذي العلاقة بالمعيشي الذي هو المنطلق وهو المرجع لحياة الكاتب في الجزائر كما في العالم العربي. المهتمون بتدوين سيرة الكتّاب الذاتية وحدهم يكونون قادرين على وصف طقوس الكتابة عند هذا الروائي، أو الشاعر، أو ذاكهما. وهم المؤهلون لأن يقولوا إن هذا السلوك أو غيره من طقس الكتابة، لأن الكتابة لا تتحول طقسا إلا خلال إنجاز النص الذي يستغرق وقتا لا يمكن تقديره مسبقا وفي أجواء تستدعي غالبا العزلة المكانية والغيبة الزمانية. فالكتّاب الذين يُغريهم الحديث عن طقوس كتابتهم هُمْ لا يفعلون أكثر من أن يصفوا اللحظات التي يتمنون أن يكونوا عليها خلال كتابة لا تسعفهم عليها حالهم. فإنه بمجرد أن يأخذ النص، الروائي تحديدا، شكل هيكل يصير هو إرادة الكتابة ذاتها ويصبح الكاتب منفذا لتلك الإرادة في أن تذهب بالكتابة إلى حدها النهائي مع ما يدوس على كل تفكير في إقامة أي مراسم طقوسية، ذلك أن النص في لحظات تشكله هو الذي يحول الكاتب إلى أثاث طقَسي. فقط، لا بد من التفريق في هذا المقام بين الكتابة في درجتها الدنيا، أي مستوى الهواية لأنها ليست هاجسا مركزيا ولا مسوغا وجوديا للكاتب المنشغل ب»كتابات أخرى وطموحات مختلفة»، وبين الكتابة في درجتها العليا، أي مستوى الصنعة التي تعني الاحتراف بمفهوم الانصراف كلية إلى الإبداعي. فإن طقس الأولى، إن تم الحديث عنه، وصفه صاحبه بالمراسمي الاستظهاري تعويضا عن كتابة عصيّة الاقتراب والتحقق هي المحْفَلية ذاتها. على أن الثانية، باعتبارها طقسا بحد ذاته، تتجاوز مبررات انكتابها وظروفها إلى أسئلة الاشتغال الموجع، لا لتقدم إجابة بل لترسم أثرا لتجربة كتابة أخرى بطقس مختلف يتم في أقصى درجة من الصمت لسماع أصوات اللغة. فكل حديث عن طقوس الكتابة من خارج الكتابة زخرفٌ، وهو غير ملزِم بأي اعتبار لفعل الكتابة كهمٍّ محورُه اللغة. إن وصفا للعملية التي تستغرقها محاولة تحويل جملة سردية من طابعها التوليدي، أي من صيغتها الأولى التي ترِد على الخاطر، إلى صيغتها النهائية ضمن السياق السردي، كفيل بأن يُنسي الكاتب كل طقَسية خارجية، نظرا إلى أن الجملة التي يتم التفكير بها خلال الكتابة هي خامة تستدعي إعادة تشكيل تركيبي حتى ترتقي إلى ما هو نظميّ. الطقَسية، هنا، هي الاشتغال على ما أعتبره خامات سردية تستلزم دراية بسر اللغة ومهارة في نسجها وقدرة عصبية في الصبر على ترويض حرَنها، إنه لا وجود لنص روائي إلا بعملية تحويل تلك الخامات من مادتها الأولية أي الدفق الأول «المسودة الأولى» إلى الصيغة القريبة من النهائية «بعد أكثر من مسودة». فإن يكن همّ الشاعر تجريد اللغة حتى حدود اختفاء المعنى فإن عمل الروائي هو تحميل لغته دلالةَ الممكن التي لا تصنعها إلا لغة اللغة، أي الكفاءة القاموسية والبنائية والمجازية التي يتم البحث عنها بعيدا عن نفايات اللغة. محمد مفلاح/ روائي وباحث مرحلة تحضيرية ضرورية لخوض مغامرة الكتابة بعد سنوات طويلة من ممارسة الكتابة الإبداعية وهواجسها المرهقة، تنبهتُ إلى بعض الأجواء المصاحبة لعملية الكتابة، والتي صارت في فترة من حياتي عادات تساعدني إلى حد كبير في ولوج هذا العالم الإبداعي الذي لا تحكمه قواعد محددة سلفا، وتُعرف هذه العادات في عرف الكُتّاب بكلمة «الطقوس» لتشابهها بطريقة أداء العبادات الدينية. وقد توصلت إلى فهم هذا التفاعل الخفي بعدما صارت هذه الطقوس تشكل مرحلة تحضيرية ضرورية لخوض مغامرة الكتابة المحفوفة بكل المخاطر ومنها خطر إجهاض التجربة والعجز على انجاز النص المأمول. واستنادا إلى السير والتراجم التي قرأتُها عن كبار الأدباء ومنهم بلزاك ووليام فولكنر وجون اشتنبيك ونجيب محفوظ والطاهر وطار، لاحظتُ أن لكل أديب مبدع طريقته المميزة في الكتابة، أي طقوسه التي تبدو في نظر بعض القراء عجيبة وغريبة، وهي كما ذكرت آنفا عادات أوجدها نشاط الأديب نفسه، ويلجأ إليها الكاتب لتهيئة دخوله خلوته بعدما تتلبسه حالته الإبداعية. بالنسبة إليّ وفي هذه الفترة من عمري، عادة ما ألجأ إلى قراءة الروايات وكُتب السير والتراجم والتاريخ، وهذا قبل الجلوس أمام الحاسوب والشروع في الكتابة، فالمطالعة صارت كالبطارية السحرية تشحن نفسي المتهيبة بطاقة عجيبة للانغماس في عالم الكتابة، فالمطالعة مهمة جدا للكاتب فهي تسهم في إبعاده عن الواقع اليومي وهمومه المعكرة لمزاج المبدع. وأسعى في بيتي العائلي إلى توافر الأجواء التي أرغب فيها، ومنها «العزلة» التي تعد شرطا أساسا لإنجاز أي عمل إبداعي. وقد صرت أفضل السكينة قبل أي شيء، ولهذا السبب أختار المساء أو الليل لممارسة الكتابة. ففي شبابي كانت لي طاقة كبيرة على مواجهة الضجيج وقدرة على صرف أكثر من عشر ساعات أمام الآلة الراقنة، أما اليوم وبالرغم من الظروف الحسنة التي وفر لنا الحاسوب إلا أن قدرتي على العمل تقلصت إلى أقل من خمس ساعات. وقبل الشروع في الكتابة، أرتدي ملابس البيت، وأضع بجانبي فنجان قهوة أحتسيها بهدوء وأنا أستمع إلى موسيقى وأغان هادئة استغلها كظل في أثناء الكتابة، وقد كنت في مرحلة الشباب أكتب بالقلم الجاف في كراسات مدرسية، ولما تحسنت ظروفي المادية اشتريتُ آلة كاتبة أنجزت بها بعض قصصي القصيرة وأعمالي الروائية في أوراق خشنة. أما اليوم فقد صار الحاسوب جزءا من هذه الطقوس بعدما عوض القلم والآلة الراقنة. ولا أتصور بأنني سأعود ذات يوم إلى القلم الذي لم يعد بالنسبة إليّ صالحا إلا لتسجيل بعض الآراء والخواطر السريعة في اللحظات التي أجد فيها نفسي بعيدا عن الحاسوب، هذه الآلة العجيبة التي استطعت أن أنجز بها جل أبحاثي، وكتاباتي الإبداعية. عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد هي حالات وليست بطقوس هل أنا كاتب فعلا لكي تكون لديّ طقوس؟ وهل بإمكاني إدعاء الكتابة لكي أستطيع الإدعاء بأن لديّ طقوسا خاصة لا يتحقق فعل الكتابة إلا بدونها؟ ربما كان السؤال على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للكثير من الكُتاب الذين تركوا أثرا بارزا في المسار المعرفي للمكتبة الكونية، لكن بالنسبة لي شخصيا لا أرى جدوى من التركيز على ما يحيط بالكتابة من طقوس بالنظر إلى طقوسيّة الكتابة في حدّ ذاتها والتي لا يختص بها إلا من حقق ممارسة الكتابة بوصفها فعلا مُنتجا وسلوكا حياتيّا دائما لا يمكن أن يتوقف عند غياب شرط الطقوسية، وعمَلا واعيا يمكن أن يستمر بدونه. إن فكرة التعلق الطوطمي بالشيء أو باللحظة أو بالمكان لتحقيق فعل آخر موجودة منذ القدم في السلوكات الإنسانية والممارسات الحياتية. وفعل الكتابة، على الرغم من تميّزه عن الأفعال الأخرى، لا يخرج عن هذه الممارسات الحياتية التي يريد من خلالها الإنسان أن يؤكّد على (الأثر) بوصفه ذاكرة باقية من ورائه. ولعل حرصه على البقاء هو السبب وراء اقتفائه لأسباب تيسير تحقيق الأثر. لا أحتاج إلى تفاحة نيوتن، ولا إلى حدادية المعري، ولا إلى جنون فاجنر، وفوق ذلك لا أدّعي توفير العطر والأردية والشناشيل من أجل إغواء الفكرة العظيمة التي ستقع في أسر طموحاتي الأعظم، والتي بها سأدخل التاريخ الأكثر عظمة من أجل أن أتلقف حرفا هاربا من بين أصابع اللحظة بطريقة هاوية، أي ساذجة في ميلادها وفي تحققها، لا تستلزم ما يحيط بفعل الكتابة من قُدُسيّة وأنانية كالتي يتحدّث عنهما العديد من الأدباء والكتّاب. ربما كان الأمر على درجة كبيرة من البساطة التي تنحاز إلى نوع من الفوضى التي لا يمكن أن يتحملها كاتب محترف يملك طقوسا للبداية في فعل كتابة خاضعة لأجندة منتظمة ومطلب واضح، ووقت محدّد. قد يشغلني هذا الحرف الهارب كالفراشات في فضاء البيت الضيّق، أو في دخان المقهى المجاور للسوق الممتلئ حدّ التخمة برائحة البشر المتزاحمين، أو على الرصيف الصّابر منذ البداية في انتظار حافلة تتأخر عن موعدها وتكون سببا في تحقيق نص على جزء من فاتورة ماء أو روشيتة دواء قديمة ربما بقيت عالقة بالجيب لهذا السبب بالذات. وقد لا أفوز، بعد عناء، بما أريد لشدّة ما يحيط بلحظة تلقّف الحرف الهارب من قلق ومن حمّى ومن تزمّت ومن إنعصار. وقد أفقد الكثير من الوقت والجهد من أجل الوصول إلى اللحظة التي تحاول أن تشحن وجودها بفكرة لا تريد أن تنقبض، أو ببيت لا يريد أن ينوزن، أو بمقال يحيد عن طريقه الأولى فيضيع في الأوراق المكدّسة التي لا تريد أن أعود إليها. هي حالات متروكة لما توفره فجائية اللحظة من فرص غير منتظمة، لا في الوقت ولا في المكان ولا في الموضوع. حالات لا أسميها طقوسا لأنني أعتقد أنني لست كاتبا بالمعنى الاحترافيّ للكلمة. ميلود حكيم/ شاعر ومترجم تفرض على عاشقها ان يمنحها نفسه بالكامل الكتابة، حالة تستدعي حضور كاملا من الكاتب، فهو يقدم نفسه قرباناً لها، تضبط أنفاسه، وتدوزن إيقاعه، وتخطط له ما يفعل وما لا يفعل، وتستدرجه يوما بعد آخر إلى فخاخها الجميلة، حيث طقوس العزلة والصمت والإصغاء . الانخراط في هذه التجربة يدفع المبدع إلى ذلك الوضع الاستثنائي الذي يرهن حياته كلها لإملاءات هذه المصاحبة وطقوسها، حيث المداد ليس إلا دما آخر هو امتداد لهواجس الكيان وأسئلته، ولانتباه خاص للأشياء التي لا تمنح شفافيتها إلا للعين اليقظة، والحواس المستنفرة، لالتقاط المدهش والفاتن في الوجود. وقد أدرج القدامى الكتابة في ذلك البعد السحري باعتبارها إلهاما أو مسا يصيب الكاتب، ويتجلى له عن طريق جن أو آلهة ملهمة، أو رسائل من الماوراء والمجهول، تُخرج الكاتب من الطور العادي لترمي به في الحالات القصوى، وأحيانا تعصف به وتؤدي به إلى الجنون والانتحار، فهو هنا ضحيتها وضحية هذا العقد الفاوستي، وهنا تكون الكتابة بالفعل طقسا سحرياً غامضا يتطلب أن يمنح الكاتب وجوده كله لهذه السرنمة الفاتنة والقاتلة التي تسلب وجوده، وتحرمه من أن يعيش حياته كبقية البشر. وحتى حين انسحبت نظرية الإلهام، وعوضتها نظريات أخرى، اعتبرت الكتابة جهدا وعملا وصنيعا كبقية الأعمال والمهن، وهي تعبير عن أعماق ولا وعي المبدع، ولاشيء يهبط عليه من السماء وحيا أو إلهاما، لم يختف مع ذلك السحر الذي يلف الكتابة، ويمنحها طاقة تجعلها تستنفر الكوامن، وتحرك الدواخل، وتحفز المخيال، الذي يبقي حصة للمجهول والغامض، وقد هام المبدعون في كل واد فيما يخص طقوس الكتابة، بعضهم يطلبها عند الفجر، كما أوصى أبو تمام البحتري، وبعضهم يسهر لها الليل كله منتظرا مجيئها، وبعضهم يختار لها أجواء معينة، وفضاء خاصا، وألوانا وروائح مميزة، وبعضهم يكتب جالسا، أو واقفا، أو نائما، وبعضهم يكتب في المقهى جاعلاً من الضجيج محفزا، وبعضهم يحتاج للصمت المطبق، وهناك من يمارس طقوسا غريبة لا حصر لها، كأن يكتب في المرحاض أو في المطبخ، وكل هذا لإغراء الكتابة أن تزورهم وترضى عنهم. لكل طقوسه في الكتابة، لكن الأكيد هو أن ما تفرضه الكتابة على عاشقها هو أن يمنح نفسه كاملا لها، ومن ثم لا تصبح طقسا عابرا يمارسه أثناء إبداعه لنص ما، بل تتحول إلى حياة ومعاناة مقيمة، تفرض على المبدع اختيارا جذريا، يحول حياته، ويدخله في عالم الكلمة الآسرة التي تخطف وتسلب. عبد الرزاق بوكبة/ كاتب أسمّيها استفزازاتٍ لا طقوساً لا أقيمُ وزناً كبيراً للظروف المصاحبة لفعل الكتابة، إلا من باب المزاج، عندما تكون الكتابة فعلاً/ مشروعاً، تتعالى عن ردود الأفعال، وعمّا هو خارج الفعل ذاتِه، فقد روّضتُ نفسي على أن أكتب بغض النظر عن طبيعة الزمكان المتاح، مستعيناً برغبتي في الكتابة. أكتبُ حين أرغبُ، وأرغب حين تعجز الأفعال الأخرى عن تعويض فعل أن أكتب. هنا لا بد من الاعتراف، انطلاقاً من تجربتي الشخصية، بأن هناك فرقاً بين الكتابة الشعرية والكتابة السردية. الشعر لحظة مكثفة/ مزاج خاص، أو بعبارة أراها مناسبة: الشعر لحظة كهفية/ داخلية/ تأمّلية، أنغلق فيها على نفسي لأتفتح على الكون، بينما السرد هو العكس تماماً: أتفتح على الكون لأقبض على الذوات في تحولاتها/ اعتملاتها المختلفة، ويحدث أن أكتب الجنسين معاً [شعر/ سرد] في الوقت نفسه، خاضعاً لوعي حاد بتخومهما. ليس هناك ما يستفزني كاتباً، مثل السفر في الإنسان والمكان، كلما حصل لي احتباس في الكتابة سافرتُ، وكلما سافرتُ كتبت عفوياً، تلهمني تلك اللحظة التي أمد فيها يدي إلى حقيبة ظهري. بالمناسبة: حقيبة الظهر اختراع عظيم، وحين أعود اليوم إلى نصوصي التي نشرتها، أجدها مؤرخة وفق أمكنة مختلفة. أكاد أجزم أن نصي ثمرة لأسفاري. أجد متعة عميقة في محاورة الأمكنة، أستنهض ذاكراتها وأثوِّرُ أرواحها. للمكان روح وأسرار، لا يقبض عليها السائح الاستعراضي المهموم بالتقاط الصور، وفي باله عدد الإعجابات في الفايسبوك. هل لاحظتم أن كثيراً من الكُتاب يتاح لهم أن يسافروا إلى بقاع استثنائية في الكوكب، ولا يعودون إلا بصور، تفتقر هي نفسها إلى ذوق وجمال، ذلك أن الصورة نص أيضاً؟ يسألني كل من يلقاني عن سر «الريشة» التي ترافقني في الخلوة والجلوة. أتعرّض لهذا السؤال منذ سبع وعشرين سنة، أي منذ دخلتْ هذه العادة إلى حياتي، وأنا طفل في قرية «أولاد جحيش»، أحياناً أصمت/ أتهرب، وأحياناً أعطي إجاباتٍ فضفاضة، حتى أن شاعراً سرقها مني، وأخذها إلى عراف ليدله على سرها. أقول إنه لا سر لها، سوى أنني لا أستطيع الكتابة وأنا أعزل منها، إنها طقسي الوحيد الذي تنتفي الكتابة بدونه. عادة: أتركُ مبلغاً من المال لأمي، بعد أن أجعل الثلاجة ملأى بكل ما تحتاج إليه أسرتي الصغيرة، أتدبر بيتاً فارغاً، أتحلل من كل الارتباطات في العمل والحياة، أغلق الهاتف والباب وأعزل نفسي أياماً، لا حلاقة، لا فايسبوك، لا طعام إلا ما هو معلب وجاهز، لا تواصل مع خلق الله، أتحلل من كل ثوب، أوْقِدُ الموسيقى الحزينة والأغاني العابرة للقارات، أفخخ رأسي، وأستسلمُ للبياض. راجعوا كتبي المنشورة، فستجدونها كما ما هو موضّح في آخرها، كُتبت في أيام معدودات، هي أيام العزلة تلك، فروايتي «جلدة الظل» مثلاً، كتبتْ في ستة أيام. سعيد خطيبي/ كاتب وصحفي أدرينالين الكتابة لا أستطيع أن أقلّد هاروكي موراكامي، الذي لا ينام سوى ستّ ساعات، ويستيقظ يوميًا على الرّابعة صباحًا، ليشتغل خمس ساعات في الكتابة، ثم يذهب إلى الرّكض على شاطئ هونولولو، ساعة ونصف السّاعة، ولن أقلّد آرنست هيمنغواي، الذي كان يكتب في العتمة، ويستيقظ صباحًا في السّادسة، ولن أكون مثل سيلفيا باث التي كانت تقاوم خمولها لتبدأ الكتابة على الرّابعة، أظنني أقرب إلى كسل فيرجينيا وولف، أو سكوت فيزجيرالد، الذي لم يكن منبهه يرّن قبل الحادية عشر صباحاً، وأحياناً كان يستمر في نومه إلى الثّانية بعد الظّهر. لست مثل مارسيل بروست الذي كان يصنع لنفسه عزلة تامّة قبل الشّروع في الكتابة، ويمنع الخادمة من الدّخول إلى غرفته ساعات العمل، بل أجدني أحبّذ الجلوس في بار صاخب للكتابة، بار تختلط فيه الأصوات لتلغي بعضها البعض، وتعزلني في زاوية محايدة، أسمع ما يدور حولي ولا أصغي، ويحصل أحيانا أن أكرّر ما كان يفعله فولبير، وأقرأ على نفسي ما أكتبه، أقرأ بصوت عالٍ نوعًا ما. أكتب بالقلم أولاً، قبل أن أنقل النّص على اللابتوب، قد يبدو الأمر غريبًا في زمن «الهاي – تاك»، لكنها واحدة من العادات التي لم أتخلّص منها. في البيت، أحتفظ بعلبة كبيرة من الأقلام، بألوان مختلفة، ومن ماركات متنوعة، ولا يمكن أن أنسى شراء الورق الأبيض، أشتريه أحيانا بدون سبب، ولا بديل عن اللّيل للكتابة، فالنّهار يبدو لي مبتذلا، كاشفًا، فاضحًا، واللّيل يرتبط بكل المغريات، هو الأنسب لارتكاب فعل الكتابة. أو ربما هي عادة بيولوجية لا أكثر، كغالبية الكتّاب الجزائريين، من كاتب ياسين إلى نينا بوراوي، عادة ما أسهر ليلاً، وأستيقظ صباحًا في ساعة متأخرة. ولا يهمّ أن أكتب صفحة واحدة أو نصف الصّفحة، لست مثل ستيفان كينغ الذي يلزم نفسه يوميًا بكتابة عشر صفحات، حتى في أيام العطل يفعل الشيء نفسه، أن أكتب 500 كلمة جيّدة فذلك أفضل، تماما مثلما كان يفعل هيمنغواي، ولا بدّ من شراب ساخن أو حادٍ، مع الحدّ الأدنى من النيوكتين، والجلوس في المكان نفسه بعض الوقت، لكن ليس عاريًا كما كان يفعل سالينجر، وليس مثلما يفعل فيليب روث، الذي يمشي أميالا للتّفكير في فصل من فصول رواياته. العادات المختلفة، الغريبة أحيانا والشاذّة، تشكّل فيما بينها ما يشبه «أدرينالين» الكتابة، قد تبدو عادات سخيفة في نظر القارئ، وهو محقّ في رأيه، لكن الكاتب ينطلق من السّخافة للوصول، في النّهاية، إلى الجديّة، وسيظلّ دائما كاتبًا، بما تحمله الكلمة من عمق وسطحية في آن، مادام يحافظ على طفل صغير شقي يسكنه، إن ضاع منه فستضيع منه الرّغبة في الكتابة مجددًا. عبد الكريم ينينة/ قاص ليست لي طقوس في الكتابة بقدر ما هي حالات نفسية شعورية قديما سُئل أحدهم عن أنه لم يعد يبدع شعرا، فأجاب: «كيف لي ذلك وقد صرت لا أطرب ولا أغضب ولا أشرب» من جوابه تظهر لنا بعض بواعث الإبداع عند من سبقونا، والحالات النفسية التي من خلالها كانت تصدر نصوصهم المقولة، حالات لخصت مواقف شعورية مثل الانشراح والفرح وكذلك الغضب والرفض، وحالة أخرى يهيم فيها العقل والوعي متحررا. أنا شخصيا إذا غضبت تُسَدُّ أمامي كل رؤية أو منفذ يمكن أن تتسلل منه بارقة إبداع، وإذا فرحت كذلك، إن حالتي برزخية، لا أدرك سببها أو كنهها، لست أدري لماذا لا تأتيني الرغبة في الكتابة إلا بعدما ينام خلق الله، وأغلب ما يكون ذلك بعد الساعة الثالثة صباحا، وأحيانا في الرابعة صباحا وهو توقيت استيقاظ نوع آخر من خلق الله يملأ الملكوت، ربما تكون نصوصي من هذا النوع الذي يستيقظ في هذا الوقت، لست من الذين يبرمجون الكتابة في وقت معلوم، ربما الصورة معكوسة، فالكتابة هي التي تبرمجني حسب مزاجها الذي يتلاعب بنا، الذي يخصني هو أنني لا أعلم متى أكتب، أقصد لا أعلم اليوم، أما التوقيت فإنه لم يتغير، ولا أظنه سيفعل، بمعنى أنه يجب علي أن أكون وحدي مع الله، حتى أستطيع أن أكتب. ليست لي طقوس في الكتابة سوى وجوب الانزواء كشرط نفسي، والشعور بأنني الوحيد المتواجد على الكرة الأرضية، أو الناجي الوحيد بعد كارثة أماتت كل قيمة في هذا العالم. في اعتقادي الشخصي فإن لحظة الكتابة هي حالة صوفية قصوى، نعتلي فيها مدرج الكشف والمشاهدة بعد انصهار الروح بالمجاهدة، حالة سامية تتعارض مع ما هو محسوس، وفي تجربتي الخاصة فإنني حين أكون منهمكا في الكتابة في التوقيت الذي ذكرته آنفا، يحدث دائما أن أشعر بشيء من الجوع، والرغبة في تناول شيء من الثلاجة، وفي المرات التي استجبت فيها لرغبتي كانت تذهب عني لحظة الكتابة، وتغادرني مثل طائر نادر أو أسطوري، تاركا في داخلي إحساسا بأنه لن يعود أبدا، لأبقى في صحراء البياض وحيدا، فاقدا بوصلتي، مستقبلا أولى خيوط النهار، مثل حارس ليلي. ليست لي طقوس في الكتابة، بقدر ما هي حالات نفسية شعورية لن أستطيع وصفها، ولا أريد أن تكون لي طقوس، أنا أسيطر من هذه الناحية على الوضع، ولا أرغب في أن تتحكم في سلوكي أثناء الكتابة حالات نفسية أخشى أن تكون شبه إكلينيكية، أريد أن أبقى سويا أتحكم في نفسي، برغم ما يعتريني من تصورات ورؤى لا تخرج عما يسمى جنون الإبداع، ربما يكون مزعجا لي أرق وقلق ما قبل الكتابة، هذا الذي يبقيني صاحيا من أجل ساعة من الزمن أو أقل، تأتي في الهزيع الأخير من الليل، كثيرا ما أثر ذلك عليّ من جانبي المهني، ووظيفتي التي تتطلب الاستيقاظ باكرا والعودة في منتصف الليل. محمد رابحي/ قاص حيل الكتابة لا طقوسها الكتابة عندي ليست هواية ولا احتراف. هي عندي أنا. آدميتي ومواطنتي. عند الهاوي هي إلهام، يتحينه ويفرح به ويوقد له أصابعه شمعا. وعند المحترف هي سوق لها أحكام وآليات لابد أن يوقظ لها جميع حواسه ويعد لها كل الترتيبات لتصيدها. أما بالنسبة لي فأفهم الكتابة وأحسها مثل الحاجة والضرورة، شيء لا يتعالى عن المعيش. أنا لا أتصيد الكتابة ولا أفرط بها. أحاول أن أكون جاهزا لها قدر استطاعتي، ل «أسجل» ما يعبر بحسي الإبداعي. لا أهلل ولا أفرح بكل ما يخطر ببالي من «خطفات» الإلهام، بل كثيرا ما أردها. صرت أملك مع تمرسي «جهاز نقد فوري» يمكنني من تحديد أهمية أو عدم أهمية «الخطفة». أما إذا كانت ذات شأن فأجتهد كل الجهد كي أقبض عليها وأبقي عليها كما هي، حتى أفرغ لها لأسجلها. أجل إن «كتابتي» حجز مسبق يدوم شهورا من أجل عملية جراحية روتينية بمستشفى حكومي. هي «تحويشة» كل آخر شهر لشراء حذاء «محترم» يليق بشتاء قاسي. هي الاحتجاجات والشكاوى والعرائض لضمان إدراج اسمي بقائمة السكن الاجتماعي. مثل هذه الكتابة لا أحسبها تعرف «طقوسا». إن أكثر ما يشغلني حينما أجلس إليها هو الهدوء والقدرة على التركيز. تكفيني الورقة والقلم، أي ورقة وأي قلم. عرفت مع الوقت أنها ليست ديكتاتورا يعجزك وليست بنت سلطان تعبث بك. هي بسيطة لكن صارمة. لا تطلب إلا أن تمنحها كل حواسك وانتباهك. لذا لم أر طوال مساري الأدبي أن أضع لها شروطا أو أقدم لها مهرا. كنت لا أملك إلا أن أتكيف مع «مزاجها» إن كان لها ذلك. فأنا أكتب بالنهار أو بالليل، كنت سعيدا أو كنت كئيبا. أبادرها كما تبادرني، وأنا في كل ذلك أخترع لي «حيلا» لأوثق علاقتي بها، أو لأيسر التواصل بيننا. فإذا باغتتني وأنا أقف بطابور لقضاء مصلحة علمتني خبرتي أن أقبض عليها ب «حيلة» أن أفتتها إلى عناصر أو عنصرين على الأقل، الفكرة وهي موضوع أو حدث ما، والشكل وهو اللغة أو طريقة القول، وهذا إذا ما جلست إليه ليس إلا مادة خاما قد تتطور إلى شيء آخر أو إلى موضوع آخر. أما اليوم فقد وجدتني في مرحلة مختلفة، علي أن أحتال فيها على الكتابة على نحو آخر. بعد أن صرت لا أحتمل الكتابة على الورق لأسباب يطول شرحها. فجهاز الكومبيوتر في هذه الحالة مساعد ومعيق، وطبعا أنا بين هذا وذاك علي أن أجهز وأتكيف من أجل «كتابتي» العزيزة. انتهيت إلى أن أفتح ملفات عديدة تعكس رؤيتي. كأن أجعل ملفا للقصة وملفا لفكرة قصة. وملفا لأفكار ربما من المستحيل أن تتطور قصة. وملفات أخرى عجيبة، وعلى هذا لن أبلغ مرحلة إرساء طقوس لكتابتي، بل قد أجدني بعد المرحلة الالكترونية حيال أسباب أخرى لوضع حيل جديدة تديم علاقتي بالكتابة لعل أهمها حسبما أتوقع التقدم في السن.