ما كان يهمني في روايتي هو تأبين روح ذلك التاريخ الذي أضحى مجرد تاريخ الكثير من الجمالية تحجب روح النص في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والروائي الشاب أحمد طيباوى، عن روايته الجديدة «مذكرات من وطن آخر»، التي صدرت حديثًا عن منشورات الاختلاف/الجزائر، ومنشورات ضفاف/ لبنان. الرواية التي تتوسع على مدى 192 صفحة، تتصادم فيها الهويات والجذور وتساؤلات الانتماء والغربة والاغتراب الوجودي. كما تتواصل أحداثها على وتيرة مربكة تتجاذبها مثالية مستحيلة وواقع منهوك بتناقضاته، من خلال شخصيات متداخلة، ومتصادمة، تعيش صراعاتها، خيباتها، وأحلامها/أوهامها، بتمزقات كثيرة، وفي ذات الوقت تبحث عن معنى الانتماء، وتنشد خلاصا مثاليا لا يحدث إلا على أنقاض ما. حاورته/ نوّارة لحرش أحمد طيباوي، للتذكير، أستاذ بجامعة سطيف، صدرت له رواية أولى بعنوان «موت ناعم» عام 2014، عن منشورات الاختلاف بالجزائر وضفاف بلبنان، وفازت بجائزة علي معاشي للمبدعين الشباب لعام 2011. كما فازت بالمرتبة الثالثة لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي لعام 2014. روايتك الجديدة «مذكرات من وطن آخر»، رواية البوح وأوهام تلهث باحثة عن يقين من الانتماء. هل يمكن القول أنها رواية جيل تائه فقد إيمانه بالوطن، ويحلم بأوطان أخرى من أجل سعادات فردانية وخاصة؟ أحمد طيباوي: تلك أوهام كانت في منزلة الحقائق المنتظر تجسيدها في الواقع، مشروع حلم كان له مشروعية الحضور وأسباب تحقيقه قائمة وجلية كأنها الشمس في السماء، وتنتمي إلى الأنا الجمعي، والمخيال لدى المبدعين تَمثّلها في الفنون كلها، رواية وشعرا ومسرحا وسينما وفنونا، ثم تعرّت تلك الأوهام من صفة الحقيقة التي كانت تستعيرها بقوة الحلم والتفاؤل غداة الاستقلال، وفقدت انتماءها لإطارها النفسي والاجتماعي أولا، ثم وبتفاعل الزمن والتحول الاجتماعي والسياسي فقدت حتى مشروعية طرحها. لا أحد يتبنى الوهم، أو الحلم الفاقد للمقومات كما نراه الآن، لكنها حكمة بأثر رجعي لا تفيد كثيرا. إنّ «مذكرات من وطن آخر» تنطق بصوت الأشياء الميتة، ترثي الوهم/الحلم الذي احتضر أو يكاد، ولن يكون له «قبر» إلا في الذاكرة الجماعية لثلة قليلة ممن لم يتزيّف وعيهم، لا يزال، الحلم يفتقد للانتماء الحقيقي حيا وميتا. كتبت عنه كأنه ذكرى أسجلها من وطن آخر كان يؤمن بالانتماء، بنوع من الانتماء. الرواية أيضا فيها صراعات نفسية بين جيل تربى في حيز الثورة وآمن بالوطن رغم كل الخيبات والخدوش التي علقت بذاكرة ماضيه المجبولة على الثورة، وجيل تربى في حيز الاستقلال لكنه يعيش غربة واغترابا في وطنه ويبحث عن بديل ما، هذا ما لمسناه في قصة المجاهدة فاطمة عبد السلام ومصطفى، ما رأيك؟ أحمد طيباوي: هذا صحيح تماما، الرواية مليئة بتطاحن الصور قديمها وجديدها والوجوه والأمنيات. ربما أمكن البطل أن يحارب اغترابه بانتماء ولو موهوم، لكن وعيه كان أكبر من تلبُّس حالات مكذوبة تثير الشفقة على صاحبها، بل والسخرية أحيانا، أكثر مما تداوي علته وتضييعه لمعالم وجوده وانتمائه. بالتالي شخصية «فطيمة عبد السلام» وحكايتها هي الوجه المغيّب للحلم أو «للوطن في صورته الأصلية قبل أن يطالها التزييف والمسخ» كما كان «علاوة دراز» يقول على طول الرواية. «فطيمة عبد السلام»، كما «مصطفى عبد الباقي»، هي الذات عندما تتحلل من كل شيء وتتماهى مع العدم والخواء، وهي في الوقت عينه النفس الحالمة التي تصارع الاغتراب حتى بذكريات أُريدَ لها أن تكون باهتة من وطن كان ذات يوم يشبه الوطن. المجاهدة التي تعيش في فرنسا وتزور مدينة سطيف، تعكس قوة الانتماء والالتصاق بجذورها وهويتها الأم، في حين قصة مصطفى تأتي بعكس كل هذا، ويحدث بينهما نوع من المقايضة، القارئ للرواية يتساءل بحيرة: هل يمكن أن نقايض بالوطن والانتماء من أجل بحبوحة حياة صغيرة؟ أحمد طيباوي: ذلك التوازي في الرواية كان مقصودا، بين الشخصيات، وفي داخل كل منها أيضا، وعندما يكون المرء خائبا رضي من كل شيء بالقليل. هو اختار ذلك المآل، وهناك مثقفون آخرون، وبعد أن يخيب حلمهم أو تتكسّر طوباوياتهم، بتعبير من يتبنون الطريق الواقعي للعيش، يرضون بكرسي مهمل في إدارة منسية، أو بالتصالح مع من كانوا يحقدون عليهم بالأمس لأنهم باعوا الوطن مقابل ترضية قليلة الشأن. الخلاص الفردي هو الطريق الذي يسلكه أغلب المثقفين هنا، ولكل منهم طريقته في هكذا خلاص يبتغي الوصول إلى نهاية ما، لكنها نهايات بائسة على أي حال. حضرت السياسة بأشكال وسياقات مختلفة في الرواية، كما حضر الأدب بمقولات عدد من الأدباء والكتاب العالميين، لكن غاب الشق التاريخي والثوري في الرواية، رغم احتلال شخصية فاطمة عبد السلام لحيز كبير من أحداث وحيثيات الرواية؟، لماذا هذا الغياب للتاريخي والثوري رغم حضور مجاهدة مشغوفة بالوطن على أرض الرواية؟ أحمد طيباوي: بالنسبة لي كان الجانب التاريخي للثورة حاضرا على نحو ما في قصة المجاهدة «فطيمة عبد السلام»، بما يخدم فكرة الرواية وروحها، هذه ليست رواية تسجيلية الغرض منها تخليد مآثر غابرة، ما كان يهمني حقا هو تأبين روح ذلك التاريخ الثوري الذي أضحى مجرد تاريخ لا روح باقية منه فينا. الرواية بأكملها تتقصى التاريخ، والانتماء، في نفوس المثقفين في وقتنا هذا، وكذلك في أنفس من صنعوا ذلك التاريخ. بعضهم بدّل وتبدّل، والقلة القليلة بقيت مركونة كأنها لم تكن ذات فائدة يوما ما، وراحت تنتظر هنا أو في المنافي الاختيارية موتا لن يعقبه بالتأكيد نعي يليق بجلال حياة خاضوها من أجلنا. الراوي العليم، المحرك الأساس للعبة السرد في الرواية، كتب جزءًا من قصة صديقه وفي غمرة الكتابة سرد قصتهما معا، هذا ما دفع بالرواية إلى بؤرة التشابك والتشويق، وإلى بعض الدرامية المحببة في الروايات عموما، هل يمكن القول أن العلاقة بين الراوي العليم، والراوي المشارك، التي تشكل مصيرا متقاطعا، كانت أرضا خصبة لكل المآزق النفسية والوجودية، وأن كل واحد منهما كان بشكل ما ملاذا للآخر، أو بمثابة وطن معنوي؟ أحمد طيباوي: المسار الفردي والمصير النهائي لكل من «علاوة دراز» و»مصطفى عبد الباقي»، كما البشر جميعا، لم يكن يختص به أحدهما دون الآخر، نوع من الثنائيات التي تصادفنا كثيرا في الحياة. وبالنسبة لتدوين السيرة، لا مفر من ذكر تفاصيل وأخبار من سيرة أحدهما إذا كان الغرض الإلمام بسيرة الآخر، كان «علاوة دراز» يرسم صورة صديقه، صورة صديقه في عينيه، صورته كما يتخيلها في عيني صديقه، يحاكمه، ثم يحاكم نفسه ويقتص منها على الورق نيابة عنه. لغة الرواية، جاءت محفوفة بجمالية مكثفة وبكثير من الاعتناء، ما يوحي بأنك شاعر بشكل ما، إلى أي حد تعنيك اللغة في الرواية؟ أحمد طيباوي: اللغة هي وجه الرواية، وقالب يصبّ فيه الروائي فكرة الرواية وشخصياتها وتفاصيلها، وجزء من تفرّد الرواية يكون باللغة وجماليتها، ومع ذلك أنا مع القول بأن كثيرا من الجمالية يحجب عمق النص. إذا ما قيل إن «مذكرات من وطن آخر» رواية ل «اللغة» فبالتأكيد أحب أن يكون هذا تاليا، أو على الأقل مرافقا، للقول بعمق فكرتها وقوة طرحها.الرواية التي كتبتها في 2012، تأخرت في الصدور إلى غاية َ2015، لماذا؟ أحمد طيباوي: لا لسبب محدد، ربما كنت أنتظر الوقت المناسب لنشر هذا النص الروائي، ورأيت أن ذلك الوقت قد حان ففعلت. بالمناسبة عملك الروائي «موت ناعم» حاز على المرتبة الثالثة لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الأدبي في دورتها لعام 2014. كيف استقبلت هذا التتويج العربي لنصك الروائي الأول؟ أحمد طيباوي: بالنسبة لروائي شاب الجائزة سلاح ذو حدين، من جهة هي عتبة أولى أو تصدير ابتدائي لاسمه وبالتالي لإبداعه، تتيح له حضورا في المشهد الثقافي أو الإعلامي، حسب صيت الجائزة وشمولها، وفرصة لإلقاء الضوء على تجربته الإبداعية وهو يسعى إلى تطويرها، لكنها ليست نهاية المطاف، إذ عليه أن يثبت جدارته بها من خلال عمله على تطوير تجربته وما يصدره للقارئ، وإلا اُعتبرت مجرد ضربة حظ أو رمية من غير رام. الرواية الفائزة بجائزة عربية، لا تجد نقدا يتناولها ويحتفي بها في الجزائر. ما رأيك في هذه المفارقة، تتويج عربي، و لامبالاة نقد هنا في الوسط الثقافي الجزائري؟ أحمد طيباوي: هذه مشكلة طُرحت أكثر من مرة، وليس لي رأي نهائي في من يتحمل مسؤوليتها قبل الآخرين، لكن الأكيد برأيي هو أن الخروج من هذا الوضع تتحمله الجامعة أولا بنخبها في النقد والأدب ثم الصحافة بقدرتها على الوصول بالنصوص إلى قطاعات واسعة من الجمهور الثقافي. ماذا عن روايتك القادمة؟ أحمد طيباوي: ستكون لي بعض النصوص الروائية القادمة بحول الله، لديّ حاليا أكثر من فكرة وأكثر من شخصية وأكثر من صورة، تنتظر تجسيدها، وسأعمل على ذلك