المتعددة، الممزقة التي كانت أول جزائرية تكتب الرواية غدا الأربعاء 2 أفريل، تحل ذكرى رحيل الكاتبة والفنانة طاوس عمروش/ ماري لويزة عمروش "4 مارس1913/2 أفريل1976"، والتي ولدت في قرية إيغيل علي بولاية بجاية، وتعتبر طاوس عمروش أول روائية جزائرية برواية "جوسينث نوار" التي صدرت عام 1947، من مؤلفاتها أيضا "الياقوتة السوداء" 1947، "طريق الدفوف" 1960، "البذرة السحرية" 1966. إضافة إلى الكتابة الروائية والقصصية والشعرية، فهي أيضا فنانة أدت العديد من الأغاني الأمازيغية الأصيلة في قالب الأوبيرا "آشويق"، وقد قام شقيقها جون عمروش بجمع نصوص الأغاني وترجمها إلى اللغة الفرنسية في كتاب "الأغاني الأمازيغية". انتقلت إلى تونس حيث تلقت دراستها، ثم عادت بعدها إلى الجزائر وعملت في مجال التدريس والثقافة وإحياء التراث الأمازيغي كما ساهمت في تأسيس الأكاديمية البربرية في باريس سنة 1966 إلى جانب بعض الأدباء الأمازيغ بالمهجر. تنوعت حياتها بزخم الفن والأدب وإرث المعاناة أيضا على صعيد الذات والحياة والهويات. في كراس الثقافة لعدد اليوم، يتحدث كُتاب ونقاد عن شخصية الأديبة والفنانة طاوس عمروش، وعن فنها وأدبها وإرثها المتنوع والمتعدد والممتد في جغرافيات كثيرة وهويات مختلفة. إستطلاع/ نوّارة لحرش لونيس بن علي/ كاتب وناقد أسطورتها الشخصية وإرث المآسي ثمة "أسطورة شخصية" تتكرّر في جلّ أعمال الروائية الجزائرية "مارغريت الطاووس عمروش" 1913/1976 وهي قصة امرأة عانت من إرث عائلتها المأساوي، ثم تقرّر أن تأخذ مصيرها بيدها، وتغادر أرض الوطن، لتخوض في تجربة الكتابة. فهذه الأسطورة تمثّل مفتاحا أساسيا لتأويل أعمالها الروائية، ولتفسير مناطق من حياتها التي عاشتها بتفاصيلها الصغيرة، وبكل عنفها الذي جعلها تبدع نصوصا أسقطت فيها الحدود بين السيرة الذاتية والتخييل. لقد كتبت "الطاووس عمروش" مجموعة من الروايات نذكر منها: "الياقوتة السوداء" 1947، "شارع الطبول" 1960، "العاشق الوهمي" 1975 ويمكن أن نضع هذه الروايات ضمن الرواية السيرية، حيث تتقاطع حيوات شخصياتها بشخصية الروائية، إلى درجة يسهل على القارئ المُطّلع على حياتها أن يكتشف التقاطعات بين أحداث هذه الروايات، وأطوار من حياة "الطاووس"، خاصة ما تعلّق باضطراب العلاقات الأسرية ونظرة المجتمع القبائلي إلى عائلة "عمروش" خاصة وأنّ والدتها كانت ثمرة علاقة محرّمة، ثم ديانتها المسيحية، وطلاقها من زوجها الرسام "أندري بورديل" بعد11 سنة من الزواج بسبب تعلقها بالكاتب الفرنسي "جون جينيو" 1895/ 1970. لقد كتبت ابنتها "لورانس" عن معاناة والدتها تقول: "لقد عانت طويلا من الازدواجية والمنفى، كما عانت لأنها لم تعرف في حياتها حب رجل". ولذا نجد أن رواياتها هي بوح جريء يحاول أن يؤرّخ لتفاصيل من حياتها وحياة أسرتها، لطرد تلك اللعنة التي جعلتها تعيش الوحدة، وفي ذات الوقت كانت تكتب لتقاوم نظرات الآخرين لها، كأنها تريد أن تقول لهم: "اقرأوني لتفهموني أكثر". لوالدتها قصة مؤثّرة، والتي كان لها الأثر في مسار حياة عائلة عمروش، فقد نشأت في مؤسسة مسيحية بعد أن لفظها المجتمع القبائلي بمنطقة تيزي هيبل كونها ثمرة زواج لا شرعي. في المقدمة التي كتبها "كاتب ياسين" لمذكرات والدة "الطاوس عمروش" المعنونة ب "تاريخ حياتي"، قال فيها: "لم يكن لفاطمة أبا، فكانت والدتها تحميها بكل ما تستطيع من العائلة ومن سكان القرية الذين اعتبروها كائنا ملعونا، وفي النهاية قررت والدتها أن تنفصل عنها والموت يسكن روحها"، وفي مذكراتها كتبت "كان يوم أربعاء، وهو ما يُصادف السوق الأسبوعية في القرية، وضعتني والدتي على ظهرها وأخذتني إلى الميتم. لا أتذكّر جيدا تلك الفترة. مجرد صور، صور ولا غيرها. وأول ما أتذكره صورة امرأة كبيرة بلباس أبيض، وبقرطين أسودين". لقد تعدّدت مواهب الطاووس عمروش، فهي تتمتع بصوت جميل وكان لها تسجيلات موسيقية مستوحاة من التراث الموسيقي الأمازيغي، حيث في عام 1939 غنت في المغرب بحضور الملك محمد الخامس، وفي عام 1941 غنت في إسبانيا، وهناك التقت بالفنان التشكيلي الفرنسي "أندري بورديل" فتزوجا وأنجبا ابنتهما الوحيدة "لورانس". وقد تحصلت على جائزة الأسطوانة الذهبية عام 1966 من طرف أكاديمية الأسطوانة الفرنسية. كما كانت لها مشاركات في بعض الأعمال المسرحية، نذكر منها: "الأجداد يضاعفون في الهمجية" لكاتب ياسين الذي كان له دورا رئيسيا في المسرحية. وتوفيت بمنطقة سانت ميشال يوم 02 أفريل 1976 بعد مضاعفات مرض سرطان الثدي الذي عانت منه، وبسبب بتر ثديها، كانت الطاووس عمروش تعيش ألما كبيرا كونها فقدت جزءا من أنوثتها. قالت ابنتها لورانس "منذ بتر ثديها أحست بفقدان أنوثتها ولم ترغب في العيش". محمد بن زيان/ ناقد وباحث الممزقة التي حققت الذات وصانت الإرث الامازيغي طاووس عمروش، تشكل بنصوصها وسيرتها إحالات متعددة لما يرتبط بسيرورتنا السوسيو ثقافية، فطاووس يُشار إليها كأول روائية جزائرية، وهي شخصية مُتعددة في عطائها، وفي العطاء تلبست بالإرث الأمازيغي فتمثلته وصاغته جماليا في نصوصها السردية والشعرية، نصوص استعادت ثروة الإرث الشفوي، وحمله صوتها الملتحم بجرجرة، الحامل لإيقاعات قبائلية تختزل بتكثيف تجلي من تجليات ثقافتنا الوطنية. إرث طاووس معبر عن جانب من جوانب ثقافتنا في اختلافها المخصب لحيويتها، واستعادتها بالدرس راهنا يبدو محوريا، استعادة بعيدة عن الأحكام المسبقة وعن الإسقاطات القيمية المتعسفة، استعادة باستيعاب الاختلاف وباستيعاب السيرة والمسار بتمثل للسياق التاريخي الذي برزت فيه طاووس وتشكلت. في سيرتها سيرة التمزق تلقت تربيتها وتعليمها عند الراهبات الكاثوليكيات وتابعت الدراسة بتونس ثم بفرنسا لتتبلور مبدعة تنشد المصالحة مع كينونتها وتعلن تشبثها بكرامتها وشخصيتها. وهي من أسرة مبدعه، فأمها فاطمة آيت منصور شاعرة، وشقيقها جون عمروش كاتب. طاووس سكنها التراث الأمازيغي فكرست جهودها من أجله ومن أجل تأكيد الهوية الأمازيغية وبذلت مجهودات ستكون مقدمات لما سيتبلور ويتراكم بعدها، ومن أعمالها في هذا السياق اهتمامها بالتراث الشفوي القبائلي فدونت بمعية شقيقها جون موهوب عمروش. ما تم نشره في كتاب "أغاني القبائل البربرية" الصادر في سنة 1939. ولم تقتصر على التدوين بل وسعت الجهد وقامت بأداء الأغاني بصوتها فتكثف عطاءها وخدمتها حماية للإرث واحتفاءها به. لقد اختزل الكاتب مالك حداد التعبير عن الطاووس فقال: "بصوت الطاووس عمروش تقدم الجزائر أوراق اعتمادها لمملكتي الله والناس". كتبت نصوصا سعت إلى أن تقولها وبالتالي تقول حالات نفسية وإحالات تاريخية وتمثلات ثقافية. كتبت عن ما عاشته وما اختبرته، عن الحياة والحب والذاكرة، نصوص "شارع الدفوف"، "الياقوتة السوداء"، "العزلة والدتي"، "العاشق الوهمي"...الخ. كتبت نصوص الصراع بحثا عن تحقق هوياتي بتجذر وتثاقف مع الآخر الذي تم إدراكه في سيرورة ما عبّر عنه أدونيس ب "صدمة الحداثة". الصدمة بما ترتب عنها ومنها التنشئة التي جعلت طاووس تصارع التمزق بين قبائليتها وبين تفرنسها، طاووس التي ربتها الراهبات فكانت مسيحية، والبعد المسيحي مركب ومتعدد في حضوره، فمن مرجعية أوغسطين المحورية مسيحيا ومرجعية دونات الذي ربط مسيحيته بوطنيته وحوّل العقيدة إلى عقيدة مواجهة لسلطة روما التي وظفت المسيحية إمبرياليا إلى مسيحية تنتشر من طرف كنائس في سياق مخطط كولونيالي بغية تجريد الجزائريين من شخصيتهم .إن الطاووس كما قال أندريه بروتون "إنها الملكة نيفرتيتي بُعثت في زمن آخر". إنها عَلم من أعلام الجزائر بتعدديتها التي عبّر عنها على طريقتها شقيقها جون موهوب لما قال: "جزائر الغد لن تكون فرنسية ولا عربية ولا أمازيغية لكنها ستكون كل هذا" . طاووس عاشت معركة الإنوجاد، وواجهت الإقصاء والحصار والمصادرة فكانت سيرتها مسارات تحيل إلى ما يستدعي تفاصيلا تقول الكثير عن ما يسعفنا على تمثل راهننا . مرزاق بقطاش/ روائي في أغانيها لمسات من التراث اليوناني ولم أجد فيها الروح الأمازيغية شهدتُ محاضرة لها في عام 1974 في قاعة النفق الجامعي بالجزائر العاصمة، ولم أحتفظ منها بشيء، اللهم سوى أن بعض أدعياء الثقافة راحوا يركزون في أحاديثهم عنها على جوانب معينة من الثقافة الأمازيغية، وكيف عمدت السلطات الجزائرية أيام ذاك على التعتيم عليها. وقد تواكب ذلك كله مع إقدام الفرنسيين على إنشاء ما يُسمى بالأكاديمية البربرية في باريس عام 1966. غير أن الأمر الذي ظل يحيرني في هذه الأديبة التي كانت تؤدي الأغاني الأمازيغية في بعض المحافل الثقافية الدولية هو أنني لم أشعر حيال ما كانت تغنيه بأي رابطة روحية أو فكرية. هي تزعم أنها تلقت تلك الأغاني الشعبية التراثية عن والدتها، فاطمة آيت منصور عمروش، والعارفون بالتراث الأمازيغي من الذين طرحت عليهم بعض الأسئلة عن أدائها أجابوني بأنهم لم يجدوا فيه الروح الأمازيغية. شخصيا، حاولت غير ما مرة أن أنصت إليها، لكنني نفرت، والسبب هو أنني لم أجد في غنائها الروح الأمازيغية التي كنتُ أجدها في أداء والدتي لبعض الأغاني التراثية، ولا لدى جدتي لوالدي التي كانت تؤدي "الآشويق" بطابعه الأصيل، خاصة حين تنشد كل فجر المدائح الدينية العريقة من نفس المنطقة، أي من منطقة القبائل الصغرى، ومن جبال بجاية على وجه التحديد. لقد وجدت في أغانيها التراثية لمسات من التراث اليوناني، ذلك الذي نجد بعض الإشارات إليه في مأساة "المتضرعات" ليوريبدس، والمشهد المؤثر في رواية "زوربا" لنيكوس كازانتزاكيس حين تقوم النادبات بإرسال أصواتهن قبيل وفاة "بوبولينا" في هذه الرواية. وعلى العكس منها، أنا أجد أصالة جزائرية أمازيغية عند شقيقها الشاعر جان عمروش "1906-1962"، خاصة في ديوانه الشعري عن "يوغرطة"، وعلى الأخص في قصيدته الجميلة "إلى الإنسان الجزائري" التي وصف فيها عذاب له قبيل وفاته في شهر أفريل 1962، أي في الفترة التي كان فيها على اتصال بالمجاهدين الجزائريين في تونس أيام مفاوضات إيفيان. ذلك كل ما يمكنني قوله عن هذه الأديبة. سامية بن عكوش/ كاتبة وأكاديمية الفنانة المناضلة بين ضفتي الكولونيالية إنّ الحديث عن هوية طاووس عمروش وصورة الهوّية من خلال كتاباتها، يستدعي وضع فنّ طاووس عمروش "رواية، غناء، شعر" في سياقه المنتج، أي الفضاء الكولونيالي وما عرفته الجزائروفرنسا من تاريخ مشترك، فرضت فيه فرنسا وجودها على جغرافيا ليست ملكها، وفرضت معها لغتها على السّكان الأصليين. فكان الصراع والصدام بين ثقافة المحلّيين وثقافة الوافدين، وكثيرا ما اتّخذ الصراع شكل أضداد "المُسْتَعْمِر/ المُسْتَعْمَر"، "الغالب/ المغلوب"، "متحضّر/ متوحش"، "أسياد/ فلاقة". وضمن هذا الفضاء الامبريالي المبنيّ على النّظرة الدونية، التي يحتكم إليها المُسْتَعْمِر الفرنسيّ في تصوّر الجزائريين والتعامل معهم، رأت النور الفنانة الموسوعية طاووس عمروش، 4 مارس 1913، في الضفة المُسْتَعْمَرة، بمنطقة القبائل في قرية إغيل أعلي ببجاية، في أسرة مسيحية. فولدت في الدرك الأسفل من المهمّشين، أوّلا كامرأة في مجتمع قبائليّ ذكوريّ، لا يكاد يسمع فيه صوت امرأة، ثانيا كمسيحية في مجتمع أغلبه مسلمون، ثالثا كجزائرية تعاني ويلات الاستعمار، خطّط لطمس الهوّية الجزائرية وفرض الهوّية الفرنسية بلغة الرّشاش. ثمّ انتقلت إلى تونسففرنسا. وبفرنسا أقامت بصفة نهائية، وباللّغة الفرنسية نقلت التراث الشّفهيّ الأمازيغيّ، إلى ذاكرة المكتوب "رواية البذرة السّحرية، العاشق المتخيّل..."، وبالجسد المزيّن باللّباس الأمازيغيّ والمرصّع بالحليّ القبائليّ سوّقت للتقاليد الأمازيغية، وبالغناء الأمازيغيّ الذي يتناغم مع أداء الأوبرا صدحت طاووس عمروش بالأغاني القبائلية التي ردّدتها النّساء في جبال منطقة القبائل أيام الثورة، فيما يسمى ب "أشويق". في هذا الفضاء الامبريالي، نشأت طاووس عمروش أو مارغريت طاووس أو ماري لويز، فكانت منتمية إلى الجزائر نشأة ومولدا وكتابة، وإلى الضفة المستعمرة من حيث لغة الكتابة التي اختارتها ماري لويز أن تكون فرنسية. فأيّ كينونة صنعتها الفنانة طاووس عمروش، في ترحالها من ضفة إلى أخرى؟ وفي إقامتها داخل لغة المُسْتَعْمِر، تارة في الكتابة الرّوائية، وخارجها في الأغاني الأمازيغية "إشويقن" تارة أخرى؟ أيّ كينونة تجئ من امرأة فنانة في حقبة استعمارية، وفي ضفة تُدرجها في رتبة دونية مقارنة بالرّجل؟ إنّ صيغة "المقيمة في المنفى" بمعنييه الوجوديّ اللّصيق بحياة طاووس عمروش، كامرأة فنانة عانت الغربة في مجتمع جزائريّ، السّواد الأعظم منه يعاني الأمّية، ويعتبر صوت المرأة المغنّية عورة وممارستها لفعل الكتابة في السّاحة الثقافية رجسا من عمل الشّيطان، في أربعينيات القرن العشرين حيث أصدرت "جوسينث نوار" عام1947 ، وفي المنفى بمعناه المجازيّ ككاتبة أسهمت في الحفاظ على التراث الشفهيّ الأمازيغيّ، باللغة. فكان الصدام وجيها، بين المقاومة الثقافية لإرادة الاستلاب الاستعماريّ من جهة، وبين لغة المقاومة التي هي لغة المُسْتَعْمِر. تشكّلت إحداثيات المنفى من اغتراب ثلاثيّ، أوّل في انتمائها إلى أسرة مسيحية، مما عانت من التهميش والعزلة، هي وأسرتها. واغتراب ثان في لغة المُسْتَعْمِر التي اضطرت طاووس عمروش للكتابة بها، الفرنسية. فهي أسهمت في حفظ التراث الأمازيغيّ الشّفهيّ، عبر كتابته بلغة المُسْتَعْمِر، مع أنّ هذا المستعمر ذاته سعى بسلاح الأمّية في طمس الهوّية الجزائرية، والتراث الأمازيغيّ جزء منها. وإنّ وضعية النّاقلة للتراث الجزائريّ، عبر اللّغة الفرنسية، جعلت طاووس عمروش توجد داخل اللّغة الفرنسية وخارجها. وإنّ علاقة كاتبة مع لغة المُسْتَعْمِر، هي علاقة مُسْتَعْمِر ومُسْتَعْمَر على حدّ تعبير إدوارد سعيد. وإنّ هذا الوضع الطباقيّ "الطباق بمعنى الجمع بين ضدّين" يسمّ حتى هوّية الفنانة، في اسمها المنقسم بين الشّقين: الأمازيغيّ "طاووس"، واللاتينيّ "ماري" أو "لويز" كما اختارت أن تكنّي عن نفسها. فكيف تهدأ من كان اسمها موسوما بالتضاد، ومشطورا بين الضفتين؟ اغتراب ثالث عاشته طاووس عمروش كامرأة فنانة، تتوق إلى شريك حياة مثاليّ، وتفشل في الوصول إليه، مع تجربة زواجها الأوّل من الرّسام التشكيلي الفرنسي اندريه بورديل، وأنجبت منه ابنتها "لورانس بورديل". وقد عاشت نتيجة خيبتها العاطفية في توق مستمر إلى نيل الحبّ. ذلك ما تسرده في أدبها. إنّ هذه الإحداثيات الثلاث للاغتراب تشكّل أوتاد المنفى الذي عاشته الفنانة طاووس عمروش. وإنّ هذه الوضعية دفعتها إلى الارتحال عبر الفنون المختلفة "الشّعر، الرّواية، الغناء" بحثا عن هوّيتها، وحفاظا على ثقافتها، لكنّ صيّغ البحث لا تخلو من التناقضات التي استعرضتها سابقا. في تساؤلات قد تفتح المجال لبحوث مستقبلية: كيف يمكن للغة المُسْتَعْمِر أن تصون الذاكرة الجماعية لشعب مُسْتَعْمَر؟ ما هو النّموذج الذي مثّلته الفنانة طاووس عمروش في ارتحالها بين أشكال فنّية مختلفة؟ هل يمكن اعتبارها كنموذج فريد لمثقفة وصلت بين الضفتين، المُسْتَعْمِرة والمُسْتَعْمَرة؟ إنّ انتماء طاووس عمروش إلى الضفتين، والمُسْتَعْمَرة بحكم المولد والنشأة، والضفة المُسْتَعْمِرة بحكم التعلّم والإقامة والكتابة، جعلها منتمية وغير منتمية في الآن ذاته إلى الضفتين. مرتحلة دوما، بين الكتابة الرّوائية ذات المحتوى الأمازيغيّ المنقول باللّغة الفرنسية، وبين الغناء باللّغة الأمازيغية لأشهر الأغاني "إشويقن" التي غنّتها نساء القبائل فترة الاستعمار. وفي صوتها بحث حثيث عن توطين ثقافتها في وسط فرنسيّ لا يرحب كثيرا بذلك. وقد قدّمت تلك الأغاني بنكهة الأوبرا، فكان التلاقح الثقافيّ بين الثقافة الأمازيغية والثقافة الأوروبية واضحا جلّيا. وقد سوّقت طاووس عمروش للثقافة الجزائريّة الأمازيغية بلباس أمازيغيّ، مزيّن بحليّ أمازيغيّ، فكان الجسد يحكي التقاليد الجزائرية والصوت يصدح بأشويقن الأمازيغية بنكهة الأوبرا. لم تلق طاووس عمروش أو ماري لويز الاحتفاء الثقافيّ، من الجهات الثقافية في جزائر بعد الاستقلال وحتى في الأوساط الدّراسية اكتفى الدّارسون بشرح مضامين فنّ طاووس عمروش، وتنتظر أعمالها تحديث المقاربات، بتحليل رواياتها سيميائيا، للوقوف على تشكّلات المعنى، ومختلف الوظائف السّردية التي تكشف عنها. كما أنّ نموذج المقاومة الثقافية الذي اضطلعت به طاووس عمروش جدير بالدراسة، وما ينجرّ عنه من صراعات الهوّية داخل لغة المُسْتَعْمِر. والأهمّ من ذلك دراسة إمكانية التقارب بين الثقافتين الجزائرية الأمازيغية، والفرنسية، من خلال ما خلّفته طاووس عمروش من آثار فنّية. وإنّ دراسة كهذه بإمكانها أن تعيد صياغة تاريخ الضفتين الموسوم بصراعهما الطويل. فما لم تستطع السّياسة تحقيقه بغاياتها النّرجسية، قد يحقّقه الفنّ بأساليبه البليغة. زهية منصر/ كاتبة صحفية نفرتيتي الجزائر كان فضولي كبيرا لمعرفة هذه المرأة التي زاد إعجابي بها يوم سمعت أغانيها ويوم قرأت "شارع الطبالين"، التي كانت بالنسبة لي أكثر من رواية، كانت جزءً من أناة امرأة بما فيها من البوح الصارخ بأوجاع مؤنثة وما أصعب أن تكوني امرأة في مجتمع جبلي، يوم زرتُ "أغيل علي" اكتشفت أن "شارع الطبالين" كان جزءً من حياة الطاووس التي تنازعتها هويات، فقد أحالتني لاحقا على سيرة أمها فاطمة آيت منصور عمروش وكتابها "قصة حياتي" التي لم تكن إلا قصص كل نساء الأمازيغ في كدحهن اليومي. أسرتني حكاية هذه "المرأة منذ أن قرأت أولى كُتبها "الحبة السحرية"، "وطريق الطبالين". فقد ذُهلت وأنا أكتشف لاحقا أن حكايات كتابها "الحبة السحرية" لم تكُن غير قصص جدتي التي تكررت لاحقا في كُتب كل المبدعين وروتها قبلا كل الجدات، فكانت قصة الطاووس عمروش تتكرر في قصص كل النساء ومعاناتهن اليومية، فقد تحولت بعض تلك القصص الأسطورية إلى أغان وألحان صنعت مجد الأغنية القبائلية الجزائرية مثل رائعة الفنان العالمي إدير"آفاف ينوفا"، فقد نقلتها الطاووس في كتابها "الحبة السحرية" بحس الفنانة وأمانة المرأة القبائلية التي كانت تعتبر نفسها دوما حارس القيم والذاكرة. عنها قال مالك حداد "بصوت الطاووس عمروش تقدم الجزائر أوراق اعتمادها لمملكتي الله والناس". وعنها أيضا قال المفكر الفرنسي الكبير أندريه بروتون "إنها الملكة نيفرتيتي بُعثت في زمن آخر". في بلدة "إغيل علي" كتبت الطاووس روايتها "شارع الطبالين". وتعتبر الطاووس عمروش أول جزائرية تكتب رواية "جوسينث نوار" عام 1947 التي حملت خلاصة الثقافة الشفهية التي ورثتها الكاتبة عن والدتها التي خلدتها لاحقا في كتاب جمع بين الاسمين الفرنسي والبربري "مارغريت طاووس" ذلك التراث الذي قدمته الطاووس في أغانيها بصوتها حيث حملت "آشويق" القبائلي إلى عوالم أوبيرالية عالمية أين مثلت الجزائر في عدة مهرجانات مثل مهرجان دكار للفنون السمراء عام 1966 وتكفل بعد ذلك شقيقها "جون موهوب" بترجمة تلك الأغاني من القبائلية إلى الفرنسية في كتاب "الأغاني البربرية". الطاووس عمروش لم تكن مجرد امرأة، كانت حكاية ذاكرة وهوية مشوهة كبرت فينا بين قهر النسيان والتنكر المرضي لأنفسنا، هي صوتنا المخبوء الذي نخجل من الحديث به وإسماعه لغيرنا لأنه فقط مختلف عن باقي الأصوات التي من حولنا. إن تلك المرأة البربرية رفضت أن تعيش غير قناعتها وإرادتها الحرة فكسرت قيود الصمت والسكوت وتمردت على التقاليد وصرخت في وجه محيطها عندما قررت أن تكتب، أن ترفع صوتها عاليا لتحكي معاناة النساء، في اسمها اجتراح الهوية "مارغريت الطاووس أو ماري لويزة". كانت أول امرأة جزائرية تحمل لقب روائية في القرن التاسع عشر ومن أشهر مثقفات عصرها. كتبت أولى نصوصها الروائية في سنة1947 اختصرت فيها ذاك الإرث الأمازيغي الإفريقي المسموع الضارب في أعماق الحضارة الشفهية الأمازيغية المسموعة، وكما تحدثت في نصوصها اللاحقة عن تجربتها كامرأة، ومن خلالها رفعت عرفانا لأمها "فاطمة آيت منصور" تلك المرأة التي كانت مصدر الأغاني والحكايات الشفهية التي دونتها طاووس لاحقا بحس الفنانة. الطاووس عمروش التي كتبت أيضا بالفرنسية أغلب نصوصها، لكن ضل صوت قلبها وشدوها وروح نصوصها أمازيغية بحتة، فقد ناضلت بكل الطرق من أجل الحفاظ على هذا الإرث، حيث كانت أول امرأة تأخذ على عاتقها إعادة كتابة تراث أجدادها وتمثل هذا الإرث العريق في نصوص روائية وقصصية عدة منها "البذرة السحرية، "العشيق الخيالي" و"الوحدة". كتبت الطاووس عمروش عن كل ما يمكن أن يخطر على البال، كتبت عن معاناة المرأة والتقاليد البالية حتى قبل أن تتفطن المنظمات النسائية لما كانت النساء يعانين منه في هذا الجزء من العالم، لها يعود أيضا الفضل في تسجيل الحكايات الشفهية والأساطير والأمثال والحِكم الشعبية، بفضلها فقط وبفضل شجاعتها تم إنقاذ هذا الإرث من الضياع. صاحبة "شارع الطبالين"، كان قدرها التهميش إلى أن رحلت بداء السرطان بسان ميشال في 2 أفريل 1976 ودُفنت في فرنسا، حيث أوصت أن لا يُكتب أي شيء على شاهد قبرها سوى اسمها "طاووس" وكأنها تُصر أن تُرسخ اسمها ومن ثم هويتها الجزائرية، كان هذا الاسم الذي يحيل على الطائر الجميل المختال بريشه المزهو بالألوان هو إحالة إلى تاريخ من الفخر والاعتزاز بالهوية. مرغريت طاوس عمروش.. وطأة الاغتراب والمنفى كمال دريسي/ ترجمة: أمين كوخي هي جزائرية مسيحية ومثقفة مزقها المنفى الثقافي والديني في بلادها أولا ثم في تونس وتاليا في فرنسا. أبوها هو أنطوان-بلقاسم عمروش كان معلما، تمسح منذ طفولته على يد الآباء البيض. أما أمها فهي الكاتبة المعروفة فاطمة آيت منصور (1882-1967) من قرية آغيل علي، التي اشتهرت بسيرة حياتها المؤثرة: "قصة حياتي" 1968، ملهمة ولديها طاوس وجان عمروش. في تونس حيث ترعرعت، نهلت طاوس عمروش من تقاليد الوطن والأغاني التراثية البربرية، وتماهت أكثر مع الاغتراب فشكلا لديها لون الكتابة والغناء اللذان تدثرا أبدا برداء المنفى. اسمها الكامل ماري-لويز-طاوس عمروش. مسارها كان استثنائيا من خلال المكانة المتميزة التي نالتها ككاتبة وكفنانة، وما تداعى فيه من عذاب الغربة والارتباط الجوهري بالثقافة البربرية. لقد كانت أول روائية شمال أفريقية صعدت إلى الركح وغنت أمام جمهور مخلدة التراث الشفوي في سنوات الثلاثينات من القرن الماضي. كان مسارها هذا نتاج ألم المنفى والازدواجية تبعا لاعتناقها المسيحية وتعلمها الفرنسية في وسط قبائلي مسلم محافظ، أحدثا فيها شرخا تراوح بين جذورها والدين، شرخ حضر بألم في جميع أعمالها، تقول طاوس: "القدر الذي يتبعني، أعرف اليوم أنه نتاج الاغتراب". لقد برزت مسألة الهوية بشكل شرعي في أعمالها: فهي ذات أصول جزائرية، وهي مسيحية المعتقد، ثم إنها إنسانية النزعة. كان همها هو الدفاع وصيانة التراث الشفوي من أي تشوهات وإذاعته عبر كل أرجاء العالم، فظلت تناضل دوما من أجل هويتها وهوية بلادها. كان موضوع المنفى هو الموضع الأساسي لديها، وكانت تشعر بثقله أكثر في بلادها ذلك أنها لم تتمكن من الغناء خلال الملتقى الأفريقي الأول سنة 1969، على الرغم من أنها مدعوة بشكل رسمي (الوزير طالب الإبراهيمي). في مدينة عنابة انغرس فيها حب الغناء ونشره، ففي حادثة إشراقية داخل بيت أخيها، لما طفقت تغني رفقة صوت داخلي، منصهرة في صوت جان الذي راح يغني هو أيضا نفس الأغنية بدون أي تنسيق مسبق فشكلوا بالتالي "كورال". من هنا برزت هذه الهمة المهمة: الحفاظ على هذا الرصيد التراثي. كان هذا في بداية الثلاثينات، حينما جلست إلى جوار أمها تتلقى منها فتعبر عن هذا الشغف: "هي لم تعطني، لقد انتزعته منها". هكذا صارت فنانة في سن الرابعة والعشرين. صوتها الفاتن الرجولي الرجراج الناهض من أقصى أقاصي منطقة القبائل، وكلماتها التراثية التي تبعث في نفوس مستمعيها فرحا يمتزج بألم حارق كأنه رعد ومطر في نفس الآن يحيل إلى زمن سحيق جدا، جدا. أصدرت طاوس عمروش خمسة كتب، أربع روايات ومجموعة شعرية، عكست تعرجات عذاباتها وآهاتها، أحالتنا إلى ثلاثية ممزقة لكائن توعى ألم الطفولة وتراجيديا النفي، هي ثلاثية الإنسان، التحرر والمنفى. إن الإنسان ليمثل الحب الذي يحرق ويعذب، وهو أيضا القوة والسجن. أما المنفى فيمثل الرفض، أما التحرر فيمثل المخرج الوحيد للذات: "لا تأتي السعادة إلا من الأنا". لقد ظلت دائما في حالة نفي مثل أمها. وكان الإنعتاق بالنسبة لها مشروع حفر دائم في عزلة، وكان القلم بلسم جروحها. هكذا نجدها في رواياتها تندد بوضع المرأة الدوني، شاكية من أن السعادة تظل بالنسبة لها مفقودة دائما. لقد عكست مؤلفاتها هذه، وخاصة روايتها المشهورة "الزنبقة السوداء" التي صدرت سنة 1947، الهاجس المؤلم والدائم: البحث عن الهوية المفقودة، كانت تبحث عن القبول والاعتراف والحب. تبحث عن عالمها عبر موضوعي المنفى والوحدة. كان هذا تعبيرا عن ضرورة تحرر النساء سجينات التقاليد وأنماط العيش البالية الصارمة التي فرضها الرجال. كما مثلت كتاباتها وأغانيها، أيضا، شهادة حية لامرأة توعت باكرا الأخطار التي زعزعت هويتها.