شرعت منذ أسابيع العديد من البلديات في استرجاع محلات جوارية مهجورة بعد مرور أشهر على توزيعها فيما خُربت فضاءات تجارية مهملة منذ سنوات ، في وقت لم تمكن المداهمات من التخلص من التجارة الفوضوية بمدننا، رغم تكرار الحملات وتكثيفها، بل تشير أرقام صادرة عن وزارة التجارة أن 200 سوق موازية عادت للظهور في 2015 أي في نفس السنة التي عرفت تسليم مئات الأسواق وتوزيع محلاتها ، وهو ما يعني أن الاقتصاد الجزائري لم يتخلّص من قبضة السوق السوداء رغم برامج الردع والبدائل المقدمة للشباب. أينما يتجه المواطن يجد نفسه داخل بازار مفتوح وأحيانا تلاحقه السوق حتى مدخل العمارة التي يقطن بها أو مكان العمل، و تطارده في كل وقت بهاتفات تطلق على مدار اليوم في منافسة حامية على جذب الزبائن نحو الرصيف والطريق العام، حيث تعرض المأكولات والألبسة والأجهزة وألعاب الأطفال.. كل شيء وأي شيء قابل للبيع بشوارعنا، وقد نجد الجماهير ملتفة حول بالونات صينية أو كبريت اندونيسي ، كما يمكن أن تقوم معركة للظفر بجوارب بين رجال ونساء يستهويهم التسوّق على حواف الطرقات. ربما يفسر التهافت على هذا النوع من التجارة على أنه جزء من ثقافة الأسواق الشعبية التي لا تزال على بدائيتها تستهوي الكثيرين لكنها تظل فضاءات منظمة ومحدودة زمنيا، بينما ما يجري بالشوارع جريمة في حق الاقتصاد والصحة والأمن العموميين، فعندما تتم نصف المعاملات التجارية أو ما يزيد خارج القانون و بعيدا عن الرقابة الصحية والمالية فهذا يعني أن الأمر لا يقتصر على رصيف أو زاوية في شارع، ولا يتعلّق ببائع بسيط دفعته البطالة نحو النشاط غير المرخص، إنما بإمبراطوريات يتعدّى نشاطها الحيز الوطني، لأن من يستورد ويخزن ويوزّع دون فاتورة ليس ذلك الشاب الذي تنتهي عنده حلقة التجارة الفوضوية بل هو غول يفلت من كل أنواع الرقابة ويحكم السيطرة على نشاط يكاد يشكل قطاعا مستقلا بذاته، ينافس ويكسّر الأسعار بل ويفسد الذوق العام بسلع مجهولة المصدر.. لكنها تظل مطلوبة. وقد نجحت الظاهرة في التحول إلى أمر واقع، ولم نعد نسمع عن مواطنين يطالبون بحقهم في استعمال الرصيف والشارع إنما قد نجد من يهلّل لظهور بؤرة جديدة، وبلغ الأمر حدّ التحاق تجار شرعيين بالشارع تحاشيا للمنافسة وأصبحت الأسواق الموازية في حالات كثيرة تحت تصرف أصحاب محلات يمونون باعة بهامش ربح يضمن لهم التخلص من المخزون وفي نفس الوقت تحاشي تبعات المنافسة ، كما سجل مؤخرا انخراط ملاك بنايات وسكان في نفس الأفعال بكراء مداخل العمارات والأقبية، في حلقة يصعب معها تحديد المسؤوليات ، وتجعل التخلص من الأسواق الفوضوية عملية صعبة مهما كان حجم التعزيزات والصرامة المنتهجة في الإزالة. ما جعل مصالح الشرطة والدرك تدخل في لعبة القط والفأر مع باعة لا يتعبون من التنقل من مكان إلى آخر ويحسنون المراوغة والتخفي بتواطؤ من مواطنين يساعدونهم في إخفاء السلع والإفلات من المداهمات. ويعد التخلص من التجارة الفوضوية في ظل المعطيات الاقتصادية الحالية من أهم الحلول المساعدة على رفع المداخيل الجبائية وضبط السوق وتنظيم الاستيراد لصالح الإنتاج الوطني، كما أن الصرامة مطلوبة في ملف الأسواق الجوارية التي تظل مهجورة وتحولت في بعض البلديات إلى أوكار للانحرافات أو مقرات لتقديم الدروس الخصوصية والسهرات الشبانية، ولا يمكن أن نتجاهل أن عدم الالتحاق ببعض المحلات سببه عدم ربطها بالغاز والماء والكهرباء ووقوع البعض منها في أماكن لا تصلح للتجارة، لكن هناك أسواق تتوفر على كل الشروط ومع ذلك ظلت مغلقة، بينما الرصيف المحاذي لها يعج بالباعة وفوضى التسوق. ثم أن القبول بالشارع كمقر لممارسة النشاط يعد أسوأ خيار ولا مجال لمقارنته بمحل مهما كانت عيوبه. التنظيم يعني حتما القضاء على مصالح من يغرقون أسواقنا بسلع مقلدة ومغشوشة ويحصدون الملايير خارج الفوترة، أما من يعرضون السلع على الطاولات فمجرد أداة في أيدي من يحركون اللعبة ويحرصون على استمرارها.