يتطرق ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، لتصريحات الناقد المصري صلاح فضل حول النقد والأدب في دول المغرب العربي، وهي تصريحات/ اتهامات قاسية ومتعالية، انتقصت من قيمة النقد المغاربي ووصفته بالغامض وأكثر من هذا انتزعت عنه صفة الإبداع، كما انتقصت تصريحاته من قيمة الإبداع المغاربي. ومما ورد في كلامه، نجد مثلا قوله: «أعرف وأنا على علاقة صداقة حميمة ببعض النقاد المغاربة والتونسيينوالجزائريين، أن بعضهم مولع بالغموض الشديد جدا فأبسط المناهج اليسيرة الجميلة تتحول في قلمه إلى لوغاريتم يصعب فك لغزه، وبعضهم الآخر ليس لديه قدرة كبيرة على الاستيعاب النظري والتطبيق العملي، وهم يفتقدون في المغرب العربي عموما وهذا نقد لهم، لرصد الظاهرة وفقا لبصيرة نقدية تطبيقية، أما المبدعون منهم فيحتاجون إلى مثقفين مشارقة لكي يضيئوا أعمالهم، لأنهم قد يتملكون زمام الأفكار الكبرى لكنهم لا يعرفون في مجملهم كيفية تبيئتها ولا تطبيقها على الواقع الإبداعي». ملف اليوم، (الذي يخوض فيه بعض الكتّاب والنقاد من الجزائر، المغرب، تونس ومصر)، ليس دفاعا عن النقد أو الأدب المغاربي، ولا هجوما على الناقد المصري الدكتور صلاح فضل، لكنّه محاولة لمساءلة وتحليل آراء فضل المغلوطة التي تنتقص من قيمة الأدب والنقد في خارطة المشهد الثقافي المغاربي، وأيضا تساؤلات عن جدوى المفاضلة/ واستمرار الصراع الثقافي بين ما هو مشرقي ومغربي. اختلفت طبعا الآراء التي ساهم بها الكتّاب والنقاد، في هذا الملف، كلّ حسب وجهة وزاوية رؤيته وتناوله للمسألة. لكنّها أراء تصب أغلبها في قالب واحد، وهو استغراب واستهجان تصريحات صلاح فضل، إذ اعتبروها خطيرة وقاسية وغير مؤسسة على مرجعية عارفة بالنقد والمناهج والمفاهيم النقدية.
عبد المالك مرتاض/ كاتب وناقد جزائري فضل أعاد إحياء صراع قديم يزعم الصديق الحميم الدكتور صلاح فضل، ولا يفتأ يزعم، أنّه حداثيّ حتّى النخاع، ولذلك فهو يؤثر قصيدة النثر، حسب ما أدرك من كثير من أحاديثنا، ثمّ من بعدها قصيدة التفعيلة، على القصيدة العموديّة. وهو حين يكتب في الحداثة يضطرب به بعض الطريق، لأنّه أخذها مترجمةً إلى اللغة الإسبانيّة، ولم يستطع كرْعَها من منابعها، وهي المدرسة الفرنسيّة. وإنّ الذي لا ينهل من الحداثة الفرنسيّة، وهي أمّ الحداثات، من منبعها، وبواسطة لغتها الأصليّة، فإنّه قد يظلّ يحوم حولها ولا يقع عليها. ومن الغرابة أنّ يتحدّث الصديق صلاح عن مسألة الغموض في بعض النقد المغاربي، وهو يدّعي تبنّيَه الفكرَ الحداثيّ، ولم نجد حداثيّاً يتحدّث عن الغموض، لأنّ الغموض، أو قل المستحيل، هو أساس الفكر الحداثي في عمقه وجدّته واستشرافه. ذلك بأنّ الحداثة في أسسها الكبرى إنما تقع على الغموض لأنّها تجدّد ولا تجترّ الماضي، وتأبى أن تُعيد نسخه، ثمّ لأنّها إذا وضَحَتْ وتسطّحتْ فإنّها كانت ستصبح أيّ شيء إلاّ أن تكون حداثة!. والحقّ أنّ المسألة لا تعود إلى الغموض الذي يتحدّث عنه صلاح فضل، وأنّ المغاربيّين لم يستطيعوا «تبييء» ما قرأوه في هذه الحداثة، كما يزعم، وكأنّه يريد تسطيح النقد الجديد وتأفيقه، وإلحاقه بالنقد التقليديّ الذي يتّصف بالوضوح، ويسعَى إلى إصدار الأحكام الجاهزة... أقول: لا تعود إلى كلّ هذا أو بعضه، ولكنّها تعود إلى صراع تأجّج بين المغاربة والأندلسيّين، منذ القِدَم، وإخواننا في المشرق الذين يعزّ عليهم أن يروا إخوانهم المغاربة يتفوّقون في كثير من مجالات المعرفة عليهم، مع أنّهم بدْءأً تتلمذوا عليهم، وانطلقوا من ثقافتهم، أرأيتِ أنّه لا يوجد ابن خلدون آخرُ مشرقيّ، ولا ابن عربيّ آخرُ مشرقيّ، ولا ابن سيده آخر مشرقيّ، ولا ابن رشد آخرُ مشرقيّ الذي ردّ على أبي حامد الغزالي في كتابه: «تهافت الفلاسفة»، حين انتقص من العقل الفلسفيّ، فردّ عليه ابن رشد بعد زهاء ثلاثة أرباع القرن بكتابه الذي ينتصر فيه للفلسفة والعقل، وهو: «تهافت التهافت».وقد ذكر لي الصديق الدكتور مصطفى ناصف، وهو في الدار الآخرة، في شهر مايو من سنة أربعٍ وثمانين وتسعمائة وألف، ونحن بفندق سبأ بصنعاء ما معناه (وقد كتبته في غير هذا المقام)، وذلك تعليقاً على ندوة كنّا أقمناها بإدارة الدكتور عبد العزيز المقالح لإذاعة صنعاء، ومشاركة الدكتور إبراهيم عبد الرحمن من مصر، وعبد السلام المسدي من تونس، ومسوّد هذه الصحائف من الجزائر، وبحضور الدكتور مصطفى ناصف في أقصى المجلس دون أن يشارك هو في النقاش (وكان الدكتور مصطفى ناصف لا يهوَى النقاش، ويؤثر الكتابة والتأمّل)، قال لي ما معناه: يعزّ على إخوانكم المشارقة أنّكم تطالعونهم بشيء لا يفهمونه! (و«يعزّ على إخوانكم المشارقة» من تعبيره حرفيّاً، والباقي لم أعد أذكره فتصرّفت فيه)... وهذا هو سرّ إضفاء صفة الغموض على النقد المغاربيّ، فإخواننا في المشرق، في كثير منهم لَسِنُون، ونحن المغاربيّين مفكّرون. وكأنّا نحن المغاربة نحتاج، في بعضنا على الأقلّ، إلى زيادة في التضلّع من اللغة والتمرّس على الأسلبة الجميلة، في حين قد يكون إخواننا المشارقة، في بعضهم على الأقلّ، مفتقرين إلى شيء من صرامة العقل والفكر عند أهل الغرب، وهو ما نملك نحن منه كثيراً، بحكم جوارنا أهل الغرب، وخصوصاً الفرنسيّين الذين لم يسعَوْا إلى التأثير فينا فحسب، ولكنّهم عمَدوا إلى إلحاقنا بهم، وقد فعل كثيرٌ منّا، بفضل إتقانهم اللغة الفرنسيّة أكثر من أهلها، لدى كثير من الكتّاب المغاربيّين ومنهم الطاهر ابن جلون، ومحمد ديب، ومولود فرعون، ومولود معمّري الذي كتب عنه طه حسين، ولم يكتب عن غيره من كتّاب الفرنسيّة من المغاربيّين. وعلى أنّ ممّا يدلّ على أنّ أهل المشرق، كما وصفهم واحدٌ من أكابرهم، وهو الدكتور مصطفى ناصف، لا يفهمون ما يكتب المغاربيّون، إلاّ قليلاً واستثناءً، أنّ طه حسن حسين قرأ «السّد» لمحمود المسعدي، ذكر أنّه قرأ النصّ مرتين، واضطر إلى قراءته للمرّة الثالثة، فقال عنه بالحرف: «قصة تمثيليّة رائعة، ولكنّها غريبة كلّ الغرابة». فإذا كان الشيخ طه حسين، بعد أن وصف نصّ المسعديّ بالروعة، يرى أنّه غريب كلّ الغرابة، فما القول في قراءة الفكر النقديّ الحداثي في بلاد المغرب؟! فالمسألة في رأيي، يمكن أن تعالج من هذه الزاوية، وصلاح فضل حين كتب ما كتب عن النقد المغاربيّ إنّما أعادها جذَعة، ولم يزد على ذلك شيئاً. وسيظلّ الصراع بين الجناحين متأجّجاً إلى حين. صلاح بوسريف/ شاعر وكاتب من المغرب عَطَبُ المَعْرفَة عند صلاح فضل في تصوُّرِي، إنَّ ما صدَرَ عن صلاح فضل من كَلام عن النقد والشِّعر المغارِبِيَيْن، هو تعبير عن يأْسٍ وحُزْنٍ في نفس الرَّجُل. فهو من جيل النُّقَّاد الذين كانُوا يتغذَّوْنَ في معرفتهم، وفي تكوينهم الجامعي، من تاريخ الأدب، أي من المعرفة الأدبية التي كانتْ خارِجَ النَّصّ، بمعنى، أنَّ هذا الجيل من النُّقَّاد، لم يكونوا مَعْنِيِّين بمُواجَهَة النصوص، وبالبحث في طبيعة المشكلات التي تطْرَحُها، باعْتِبارها تعبيراً باللغة، وبالإيقاع، أو بالصورة، عن فكرة، أو عن «مضمون» ما، بقدر ما كانوا يذهبون إلى الأشخاص، وإلى العُصور والحِقَب. طه حسين، حين عَمِل في هذا السِّياق، وهو أستاذ لهذا الجِيل، وكان له تأثير كبير في تكوينهم، اسْتطاع أن يخرج من التاريخ، لأنَّه كان في أعماله يعودُ إلى النصوص، ويقرأها في سياقاتها التعبيرية الجمالية، وهذا ما يمكن أن نجده، مثلاً في كتابه «حديث الأربعاء». ولعلَّ انتقالَه لتبنَّي المنهج الديكارتي في قراءته للشِّعر الجاهلي، ما يشي بطبيعة ذكائه كناقد ومفكر أيضاً، وقابليتَه للإنصات للمُتَغَيِّرات التي كانت تجري في زمنه.اليوم، عرف الفكر والنقد والإبداع، طَفْرَةً كبيرةً في الفكر الإنساني، لأنَّ الغرب، أدْرَك، من خلال التَّراكُمات الفلسفية، وما أحْدَثَه كتاب «خطاب في المنهج»، لديكارت، بشكل خاص، في إثارة الانتباه إلى ضرورة المنهج، في القراءة والتفكير، وفي بناء الأنساق الفكرية الكبرى، أو المُؤَسِّسَة للفكر، وأيضاً، ما حدث في ما بعد، في ستينيات القرن الماضي، في باريس، في خروج جيل من الطلبة والأساتذة المُنْتَمِين لجامعات باريس وأهمها جامعة السوربون، للثورة ضدَّ المناهج والمقررات القديمة، وظهور البنيوية، والتفكيكية، في ما بعد. كُلّ هذا كان وراء انْتِباه العرب، أو الجامعات العربية، في كل من المغرب وتونسوالجزائر، باعتبار القرب الجغرافي، وحضور اللغة الفرنسية في حياتنا الفكرية والثقافية، باعتبارها اللغة الثانية في مدارسنا، إلى هذه الثورات الفكرية والثقافية، التي كانت من بين العوامل التي ساهمتْ في انتقالنا من تأثير الشرق فينا، وحضوره في حياتنا التعليمية والثقافية، إلى الفكر المنهجي، إلى البنيوية، وإلى اللسانيات، وإلى النقد السيميائي، وإلى الشعريات الحديثة في مقاربة الشِّعر وقراءته، وإلى التفكيكية، ثم إلى النقد الثقافي، وغيرها من الطُّرُق التي نَقَلَتْنا إلى وضع مُغايِر عن الوضع الذي بَقِيَ فيه صلاح فضل، ومن كانوا معه من نفس الجيل يعيشون في ماضي المعرفة والإبداع، ويأخذون من العلوم الإنسانية ما يخدم هذا الوعي الماضوي عندهم بالنقد والإبداع.حتَّى حين حاول صلاح فضل ادِّعاء «البنائية» هكذا وهو يقصد البنيوية، والفرق بين الاثنين واضح لمن قرأ الأصول، فهو كتب عملاً لم يخرج عن السِّياق المدرسي، بتشويهات في الترجمة، وفي التعامُل مع المفهوم، لأنَّه اعْتَمَد على الوساطة في الوصول إلى هذه المفاهيم، أي الترجمة على الترجمة، وهذا ما حدث حتى لصديقه جابر عصفور، في ما كتبه في ما بعد، وما يكتبه اليوم عن الشِّعر بصورة خاصة. من الطبيعي أن يكون الشخص الذي يفهم الأمور ويقرأها بهذا النوع من الوساطات، أو بقراءة الترجمات، دون العودة إلى أصولها، أن يحدث له تشوُّش في الرؤية، وفي المنهج، وفي الفهم. وأنا أتساءل هُنا، كيف يمكن أن يكون صلاح فضل قرأ محمد أركون، في قراءته للتراث الديني، هذا المفكر الذي كان يُؤمِن بأنَّ مشكلتنا اليوم في الفكر العربي هي مشكلة منهج، ومشكلة رؤية، وطريقة نظر. كما أتساءل، أيضاً، كيف يمكن لصلاح فضل أن يقرأ عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي، وعبد المجيد الشرفي، وهؤلاء كلهم مغاربيون، إذا كان محكوماً بفكر ماضوي، يدَّعي التحديث والتنوير، في ما هو يُلْغِيهما، أو يُصادر عليهما، بادِّعائهما؟فما اسْتَشْعَرَهُ صلاح فضل من غموض، في نقد النقاد المغاربيين، كما قال، بنوع من السخرية والتهكم، وما اعتبرَه نقداً عندَه هو، دون غيره، أمر طبيعيّ، كون صلاح فضل، يحتاج إلى مراجعة أدواته، ومراجعة المفاهيم، وما يعتبره مناهج يقرأ بها النصوص الشعرية الحديثة. فحين قرأتُ كتابه عن محمود درويش، الذي نشرته مجلة دبي الثقافية، أدْرَكْتُ أنَّ الرجل لم يعد قادراً على اختراق هذا المعنى الجديد للفكر والنقد والإبداع في الثقافة الإنسانية، فهو بقدر ما يظن أنه يقرأ النص، فهو كان يجني عليه، ويَحْجُبُه، أو يْشَوِّش على عمقه الشِّعري والإبداعي.لا ينفي هذا أنّ في المشرق العربي نقاد لهم أفق نقدي وفكري جديديْن، ولهم قراءات وأعمال لها أهميتها، لكن، على المشارقة أن يتواضعوا أمام المعرفة، لأنَّ المعرفة هي نهر لا يتوقف عن الصيرورة، والتجدُّد، والناقد مُطالب بمواكبة هذه المعارف الجديدة، في مجال العلوم الإنسانية، بصورة خاصة، وحتى في بعض العلوم الحقة، وتَحْيين رؤيته للأشياء، بالتعلُّم والإنصات، لا بالادِّعاء، وتبخيس جهود المفكرين والمبدعين، سواء أكانوا من المشرق، أم من المغرب. لا فرق. جمال الجلاصي/ كاتب ومترجم تونسي حديث متقاعد في دكّان حِلاقة قرأت صدفة حوار الصحفي المبدع محمد الحمامصي مع الدّكتور صلاح فضل، وقد فوجئت فعلاً بالتّناقض الصّارخ بين عمق الأسئلة، وسطحيّة الأجوبة والتّعالي المنتفخ الذي يجيب به الدّكتور على هذه الأسئلة. فالأجوبة كلّها قطعيّة ولا أثر فيها لنسبيّة أو اقتراح رأي، فكأنّما المجيب يمتلك الحقيقة المطلقة ويوزّعها تكرّماً على خلق الله. تابعوا معي هذه الأمثلة: «إن لم يمتلك كلّ ذلك سيكون محدود الأثر وعديم الجدوى، ولا قيمة له». «الاعتماد على الترجمة لا يشكل عقلا نقديا، لأن الترجمات ناقصة ومبتورة، وتخضع لسوء الاختيار دائما». وتصل دغمائيّة الدّكتور وتعاليه عند حديثه عن النقد المغاربي ونزعه صفة الإبداع عنه حيث يقول كلاماً جارحاً لا يستند إلى أيّ دراسة أو مقاربة علميّة أو شبه علمية، لا يقوله إلّا متقاعد يثرثر في دكّان حِلاقة في انتظار دوره: «مثلا أعرف وأنا على علاقة صداقة حميمة ببعض النقاد المغاربة والتونسيينوالجزائريين، أن بعضهم مولع بالغموض الشديد جدا فأبسط المناهج اليسيرة الجميلة تتحول في قلمه إلى لوغاريتم يصعب فك لغزه، وبعضهم الآخر ليس لديه قدرة كبيرة على الاستيعاب النظري والتطبيق العملي، وهم يفتقدون في المغرب العربي عموما وهذا نقد لهم، لرصد الظاهرة وفقا لبصيرة نقدية تطبيقية، أما المبدعون منهم فيحتاجون إلى مثقفين مشارقة لكي يضيئوا أعمالهم، لأنهم قد يتملكون زمام الأفكار الكبرى لكنهم لا يعرفون في مجملهم كيفية تبيئتها ولا تطبيقها على الواقع الإبداعي». هل هذا كلام يُعتدّ به؟ هل أعطى أمثلة أو أسماء، أو كتباً أو نظريات أو ترجمة أو حتّى مقالاً لأحد أساتذتنا الأجلاء؟ هل فكرة المفاضلة بين مغاربة ومشارقة لا تزال قائمة في عقول المبدعين الصّادقين المتواضعين؟ لا أحد ينكر المنجز النّقديّ الهام الذي حقّقه النقاد المغاربة تأسيساً وتنظيراً وتطبيقاً. والمختبرات النّقديّة المغاربيّة مشهود بأهمّيتها في دفع عجلة النقد، ووحدات البحث الجامعيّة المغاربيّة تقوم بعمل جبّار. وأكبر جامعات الخليج العربي تشهد بقيمة هؤلاء الأساتذة وكفاءتهم. والكتب التي تنشر في مراكز النشر الجامعي المغاربيّة تشهد على ذلك، فكيف نسمع حديث صلاح فضل ونصدّقه؟ فلّنقارن كلامه بما قاله العميد طه حسين: «الأثر التونسي الذي أريد أن أتحدث عنه اليوم، قصّة تمثيلية رائعة، ولكنّها غريبة كلّ الغرابة، كتبها صاحبها الأديب الأستاذ محمود المسعدي لتقرأ لا لتمثّل، ولتقرأ قراءة فيها كثير من التفكير والتدبير والاحتياج إلى المعاودة والتكرار، وحسبك أنّي قرأتها مرّتين ثمّ احتجت إلى أن أعيد النظر فيها قبل أن أملي هذا الحديث، وهي بالأدب الجدّ عسير، أشبه منها بأيّ شيء آخر، وضع فيها قلبه كلّه وعقله كلّه وبراعته الفنّية وإتقانه الممتاز للّغة العربية ذات الأسلوب السّاحر النّضر والألفاظ المتخيّرة المنتقاة وقصد بها إلى إثارة التفكير الفلسفي لا إلى التسلية والتّلهية ولا إلى الإمتاع السّهل والإثارة اليسيرة، بل إلى تعمّق الحياة والفقه بها والنفوذ إلى ما وراءها».هكذا تحدّث دكتور الأجيال وعميد الأدب العربي طه حسين عن رواية «السدّ» لمحمود المسعدي. بكلّ ثقافته وسعة اطّلاعه، كان قارئاً نهماً متواضعاً في آرائه يقبل المختلف والمخالف، ولا يكفّ عن الرّغبة في الاستزادة من المعرفة والعلم. هل يمكننا بعد هذا أن نقول عن الدّكتور الناقد الكبير الأستاذ صلاح فضل صاحب جوائز الدّولة التقديرية وشاعر المليون غير: ارحموا حكيم قوم خَرِفَ... زين عبد الهادي/ روائي وناقد مصري ورئيس تحرير مجلة «عالم الكتاب» المصرية القارئ العربي مظلوم بين النقد المغاربي وصلاح فضل!! ما سأقوله ليس دفاعا عن صلاح فضل، وكذلك ليس دفاعا عن النقد المغاربي، بل هي محاولة لتقديم رؤية لا تتصارع مع أي جبهة بل تتشابك وتحاول أن تقدم ما يمكن أن يساعد الجانبين على الوصول لجوهر النقد وأن تتحالف مع المبدع وتجعل القارئ ينظر للأمر بشكل هادئ، بعيداً عن تلك الحروب والتقاتلات التي يمكنها أن تزيد النار اشتعالا. سأتكلم من وجهة نظر قارئ يحاول أن يتفاعل مع النقد المغاربي في فترة عصيبة نجتازها جميعا كأوطان، وفي ظل هجمة ظلامية تحتاج لمزيد من التنوير، وأن ترتدي وجهة النظر هذه من العقل والتعقل الكثير، إذ لا يمكنني أن ألوم النقد المغاربي على أنّي لا أستطيع فهمه، بل عليّ أن أصعد إليه في ظل فيضان من الترجمات والمصطلحات التي ابتعدت كثيرا عن مخاطبة القارئ المثقف حتى والنخبوي في المشرق، بل أصبحت مدرسة مغلقة على ذاتها، نحن نقول لكلّ النقاد المغاربيين، بصراحة شديدة «نحن لا نستطيع قراءتكم»، ليس لعيب فيما تكتبون، ربّما لأنّكم اخترتم ما أردتم الإبحار فيه، بينما نحن توقفنا طويلا عند نقطة محددة من النقد تعود للثمانينيات، «فزهدنا في قراءتكم»، بعدها لم يتطور النقد في المشرق كثيراً، بل أصبح تابعا لبعض كبار النقاد الذين توقفوا عند مرحلة بعينها دون محاولات جادة للحاق بسفينة النقد العالمية، أو بصراحة أكثر أصبحت الدراسات البينية في النقد الأدبي تطغى على كل ما عداها، وأكثر من ذلك ارتباط النقد المغاربي بالمدرسة النقدية الفرنسية، اختلط أيضا بعلوم المعرفة، ودون محاولة من جانب هؤلاء النقاد سواء في المغرب أو المشرق من الوصول إلى أصدقائهم فأصبح الأمر كإتجاهان متعارضان، يتعاملان مع وعاء واحد، هو المنتج الفكري والأدبي الروائي والشعري العربي، إلى الحد الذي أصبحنا فيه لا نفهم تلك اللغة التي يتحدث بها أصدقاؤنا هناك، بينما لغة المشرق توقفت عند حدود سابقة زمنية من المعرفة النقدية التي لا تساعد على تقدم المدرسة النقدية التي توقفت منذ عقدين أو ثلاث. وعلى ذلك يبدو الموقف الآن واضحا، لا يمكننا أن نلوم المدرسة النقدية المغاربية على تقوقعها على ذاتها، ولا يمكننا أن نطعن المدرسة المشرقية التي توقفت عند محطة زمنية محددة لا تريد أن تبارحها، على الرغم من بعض المحاولات الفردية لبناء مدرسة نقدية عربية لم تنجح للآن، وفي نفس الوقت علينا أن لا نلوم القارئ العربي هنا أو هناك الذي ابتعد عن قراءة هذا النقد أو ذاك، لينحصر الأمر في النهاية في مجموعات نخبوية متفرقة، أكاد أجزم أن القارئ العربي لا يدري عنها الكثير. دعوني أتساءل ما قيمة النقد إن لم يتفاعل معه القارئ؟، وهل من مصلحة الناقد أن يتجه لمدرسة دون أخرى؟ وما تلك اللغة التي يجب أن يتعامل بها الناقد مع القارئ العربي؟ وحين أقول القارئ العربي فإنّي أعني قارئ الرواية والشعر والمسرحية والفن في أعظم تجلياته المكتوبة؟، وهل هو الذي يتحدث اللغة العربية ويعيش في العالم العربي، أم ذلك الذي يعيش هناك في مدن غربية ويتحلى بالجنسية العربية؟ هل تساءل النقاد العرب يوما بعد انفجار عصر المعرفة عما يحب القارئ العربي أن يتناوله من مقالات وكُتب نقدية، أم على الناقد أن يجبر القارئ على أن يتذوق تلك الوجبة القديمة أو الغرائبية التي يقدمها كلا النوعان من النقاد؟. يا سادة، الأمر أعظم مما يمكن أن نحصره في معركة وهمية وغير حقيقية، فكلا الطرفان مُدان، أدعوكم فضًا لهذا الاشتباك لمؤتمر دوري للنقد العربي، يعقد بين الشرق والغرب كلّ عام أو عامين يمكنه أن يقرب تلك المسافات الضيقة التي نتخيل أنّها بعيدة تماما إذا أردنا أن نحيا في سلام وأن نقدم للإنسانية مدرسة حقيقية في النقد!.