محطة القطار بقسنطينة قصة رصيف يزيد عمره عن القرن و نصف حافظت محطة القطار بقسنطينة على خصوصيتها المعمارية لأكثر من قرن و نصف قرن، فكانت فضاء ملهما للكثير من السينمائيين الذين رسخوا صورها في عديد الأعمال التاريخية و الثورية على مر السنين، كما احتفظت قاعة الانتظار بها و كذا رصيفها العتيق بأسرار آلاف المسافرين ثوارا و طلبة و إطارات و رياضيين و فنانين نقلهم القطار إلى وجهات و مشارب مختلفة. المحطة الواقعة بحي ناصري السعيد أو باب القنطرة بالجهة الشرقية لقسنطينة، و يفصلها واد الرمال عن المدينة العتيقة، تجذب انتباه زوارها منذ تدشينها سنة 1857 بتمثال الحاكم الروماني قسطنطين الواقف على نصب ضخم قبالة بنايتها الممتدة على مساحة تزيد عن 3 آلاف متر مربع تزّينها ساعة دائرية ضخمة بالواجهة الأمامية المتميزة بقرميدها و أبوابها الخشبية و نوافذها الضخمة الكثيرة المستطيلة و نصف الدائرية وشرفتيها التي كانت إحداهما مدعمة بخشب منقوش بزخارف أشبه بالمشربية القديمة. المحطة التي استفادت من عدة عمليات ترميم، حرص منفذوها على الحفاظ على خصوصيات التصميم الأساسي العريق، الذي يشبه ما هو موجود في أوروبا عموما، حيث يقابل المسافر بمدخل القاعة الكبرى شبابيك أعيدت تهيئتها بطريقة حديثة، تقع على يسارها قاعة انتظار جهزت بمقاعد على طول الحجرة التي تطل على الرصيف من خلال بوابات زجاجية يتم فتحها للمسافرين، حال وصول القطار في رحلتي الذهاب أو الإياب. البناية بطرازها المعماري الأوروبي، تضم في جهتها الجنوبية جناحا خاصا بالإدارة و الذي لا يختلف في تصميمه عن البنايات القديمة الموجودة بقلب المدينة، من حيث ارتفاع الأسقف و النوافذ المستطيلة العملاقة المنتهية بشكل نصف دائري، و زجاج يبدو أنه عازل للصوت، فخلال تواجدنا بالمكان، لم نسمع صوت حركة القطار على السكة الحديدية. أبناء «الشيمينو» فخر قسنطينة لا يمكن الحديث عن محطة القطار بقسنطينة، دون التطرّق إلى أسماء مناضلين عملوا بالمؤسسة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية، و منهم الشهيد ناصري السعيد الذي أطلق اسمه على الساحة و الشارع المجاور للمحطة. و أخبرنا عبد الهادي طير، إطار سابق بالمؤسسة، عن نضال الرجل الذي حمل ابنه المشعل من بعده، و شرفه بتقلّد مناصب مسؤولية مهمة، فضلا عن أسماء عديدة أخرى انتمت إلى أسرة «الشيمينو»، كما يصنف عمال المؤسسة أنفسهم، و التي دفعت النفس و النفيس لأجل رفع راية الجزائر عاليا. أول ملاكم جزائري في الألعاب الأولمبية يتحدث أفراد أسرة «الشيمينو» بفخر عن إنجازات زملائهم على مر السنين في المجال الرياضي بمختلف تخصصاته و يذكرون على سبيل المثال بطل الملاكمة صالح لبيض الذي يعد أول ملاكم جزائري يشارك في الألعاب الأولمبية بمكسيكو سنة 1966 ،و كذا البطل لونيسي الذي حقق هو الآخر عدة ألقاب مشرفة، على غرار البطل هشام قمادي الذي فاز بلقب أوروبي. كما حققت النوادي الرياضية التابعة لمؤسسة النقل بالسكك الحديدية، سمعة طيبة و ألقابا صنعت فرحة سكان المدينة في عديد التظاهرات الرياضية، بشكل خاص في الكرة الطائرة و اليد و السلة، فضلا عن العدو الريفي و كرة القدم. للثقافة كلمتها في محطة قسنطينة من منا لا يتذكر الفنان الراحل كريكري، ملحن جنيريك و أغاني السلسلة الفكاهية الشهيرة»أعصاب و أوتار»؟ هو أيضا من أبناء هذه المؤسسة التي لم تحرمه من احتراف الفن و فرض نفسه في الساحة الفنية القسنطينية كموسيقي، جدّد و أعطى روحا حديثة للموسيقى القسنطينية. الحديث عن كريكري، يذكرنا أيضا بشقيقه كمال بو سعيد الذي أشرف لسنوات على المدرسة الموسيقية التابعة لهذه المؤسسة المشجعة للنشاط و الفعل الثقافي. بلاطو تصوير مثالي للأفلام التاريخية النمط المعماري المتميّز لمحطة القطار بقسنطينة، و الذي صمد و بقي كما كان منذ أكثر من قرن و نصف، رغم الروتوشات العصرية التي أدخلت على الواجهة الأمامية بشكل خاص، سيّما المدخل الرئيسي، ألهم الكثير من السينمائيين و شجعهم على تصوير أعمال ثورية عديدة ، و لم يحتاج المخرجون إلى تصميم ديكور إضافي، لتوّفر الأطر التصويرية المناسبة التي يزيدها قدم البناية رونقا و واقعية. و ذكر المكلّف بالإعلام بالمؤسسة نبيل دعاس، بأن عددا مهما من الأفلام السينمائية و الوثائقية، تم تصوير بعض لقطاتها بمحطة قسنطينة، سواء بمحيطها أو بقاعة انتظارها أو على رصيفها، و كان آخرها فيلم «العربي بن مهيدي»، مؤكدا تسهيل إدارة المؤسسة و دعمها لهذا النوع من الأعمال التاريخية، و مساهمتها في توفير الأجهزة و الإمكانيات اللازمة لذلك، مؤكدا بأن عدد الأفلام التي صورت بالمحطة تجاوزت ثمانية أعمال. ذكريات على رصيف لا يجيب يحن الكثيرون دون شك لرحلات القطار، و بشكل خاص الطلبة و الموظفين الذين كانوا يقضون ساعات طويلة في انتظار قطار العاصمة الليلي، و هم يترّقبون وصوله بلهفة كل لحظة و ثانية و تشرئب أعناقهم عند سماع صفير القطار، أو رؤية أحد الأعوان مسرعا بشارته الضوئية، و ينتظرون فتح الأبواب للسماح لهم بأخذ أماكنهم بإحدى العربات، و إن كان عدد المسافرين قد تراجع مقارنة بالماضي، خاصة بعد العشرية السوداء التي ساهمت بشكل ملفت في تخلي عشاق السفر في القطار عن هذه المتعة التي لا تضاهيها متعة، مثلما قال البعض، و هم يصفون الأجواء و حركة القطار التي تجعل المرء يشعر و كأنه على سرير يهدهده. فيما تحدث البعض الآخر عن استمتاعهم بصوت احتكاك العربات بالسكك عند اقترابه من كل محطة، و أكد آخرون بأنهم لا يزالوا يحنون لرحلات السكة الحديدية و نكهتها الخاصة، و يعودون إليها كلما سنحت لهم الفرصة خاصة في المناسبات. أما الطلبة فقد تعودوا على ركوب القطار في بداية و نهاية كل أسبوع تقريبا، بسبب الأسعار المنخفضة من جهة، و باعتبارها وسيلة نقل أكثر أمانا، في ظل تزايد إرهاب الطرقات، و أكد أحد الموظفين بالمحطة، بأن هناك أشخاص أوفياء، لم يغيّروا وسيلة النقل منذ سنين طويلة، رغم مشاكل التأخر المسجلة خاصة في الرحلات المسائية، و تذكر مسافري الماضي الذين كانوا يتميزون بحقائبهم و قففهم الثقيلة، فكانوا أشبه برحالة، عكس مسافري اليوم ،خاصة الشباب الذين لا تزيد أمتعتهم عن حقيبة ظهر خفيفة. و هو ما وقفنا عليه و نحن نقف على رصيف المحطة الذي جعلنا نشعر و نحن نلمح الخطوط الحديدية الأربعة، و كأن الزمن توّقف هناك، نظرا للديكور البسيط و القديم الذي تظهر عليه لمسات إعادة التهيئة، سيّما على مستوى الإنارة و طلاء الجدران، و تساءلنا عن الشخصيات التي مرت من هنا من إطارات و سياسيين و مناضلين و فنانين و مشجعين رياضيين، و بشكل خاص مشجعي كرة القدم الذي قد يتذكر الكثيرون رحلاتهم لمناصرة المنتخب الوطني، فضلا عن رحلاتهم باتجاه تونس و مختلف المدن بشرق و غرب البلاد. سائقات القطار الأوائل تخلّين عن غرفة القيادة كانت محطة قسنطينة سباقة في خوض الفتيات لتجربة قيادة القطار، حيث برهن ككل مرة عن قدرة العنصر اللطيف على التحدي و ممارسة نشاطات و مهن كانت من قبل حكرا على الرجل وحده، حيث سبق للنصر مرافقة إحدى السائقات في رحلة بين عدة نقاط بالولاية، منذ أكثر من ست سنوات، غير أن تلك التجربة لم تستمر، و توّقفت في بداياتها، حيث طالبت السائقات الأوائل اللائي خضن التجربة، بتحويلهن إلى مناصب إدارية لأسباب شخصية، حسب ما أخبرنا به بعض الموظفين.