انهيار البناء الاجتماعي أدى إلى تزايد الأمراض النفسية في الجزائر التنمية البشرية مجرد "موضة"، ويبقى الأساس الأكاديمي هو المستديم يرجع أستاذ علم النفس بجامعة الجزائر، د. أمحمد زردومي، ارتفاع نسبة الأمراض النفسية في الجزائر، إلى التغيّر السريع الذي مرت به الفئات الاجتماعية وغياب المرافقة الاجتماعية لذلك. ويرى بأن ظاهرة الإجرام والجريمة المنظمة والعنف الاجتماعي كلها مؤشرات على وجود خلل ما له علاقة بالصحة النفسية. ويحذر في هذا الحوار من المحتالين الذين ينصّبون أنفسهم بدلاء للطب والطب النفسي، لأنه مجال يدر عليهم بالربح وهم يتاجرون بمشاعر وعواطف الناس. حاوره: نورالدين برقادي تدرّس علم النفس بجامعة الجزائر منذ عقدين، أين وصل علم النفس في الجزائر نظريا (الدراسة والبحث)، وميدانيا (الممارسة)؟ وصل علم النفس في الجزائر إلى مكانة مرموقة، بحيث نستشف ذلك من خلال الطلب المتزايد للأولياء للاسترشاد والأخذ بالكفالة النفسية لمتابعة ورعاية المشكلات الصحية والنفسية لأطفالهم. من الناحية النظرية، فإن أدبيات علم النفس من حيث المواضيع أو الطرح تنم على وجود كفاءات كبيرة في الجزائر، خاصة تلك التي تتعلق بتحليل البنية الثقافية لفهم مشكلات المجتمع. هنا نشير إلى أعمال محفوظ بوسبسي (رحمه الله) و نورالدين طوالبي و سليمان مظهر، فضلا عن أعمال أكاديمية أخرى ذاع صيتها في كليات و جامعات محلية وأجنبية. كما يظهر ذلك من خلال المشاركات المكثفة للباحثين الجامعيين الجزائريين في الندوات والمؤتمرات الدولية. ميدانيا، خطا علم النفس والتحليل النفسي خطوات عملاقة في الجزائر بفضل انتشار المراكز النفسية / الاجتماعية التي لديها خبرة كبيرة في التعامل مع المشكلات النفسية والصحية منذ عهد الشهيد فرانس فانون بالبليدة، إلى غاية اليوم مثل المركز الصحي النفسي الجديد بالمعذر ولاية باتنة. من حيث الممارسة، لدينا تعاقب أجيال ومدارس علم النفس والتحليل النفسي في الجزائر. بحيث نجد الجيل الأول الذي تكوّن في المدرسة الفرنسية وساهم في إرساء ثقافة بحث وتنقيب أعطت نتائج مبهرة في التعامل مع يوميات المجتمع الجزائري. ولدينا الجيل الثاني المخضرم والمتعدد المناهل بين الثقافة الشرقية والغربية والمتعدد المصادر في التكوين أي المتخرجين من الجامعات الأمريكية والبريطانية وهو اليوم يحمل منارة التكوين الجامعي وأشرف على تخريج آلاف المتخصصين في علم النفس من مختلف التخصصات، وهم الذين يؤطرون مؤسسات التربية والتعليم و الصحة وهيئات أخرى تستجيب لطلبات الإرشاد النفسي والاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، تزخر الجزائر بجيل من الممارسين النفسانيين يشرفون ميدانيا و يرافقون المواطن في زمن الكوارث الكبرى تحت وصاية وزارة الصحة ووزارة التضامن، وهي تجارب متميزة جدا تبرهن على مدى الاستثمار في هذا المجال المتعلق بالموارد البشرية ورأس المال البشري. ارتفعت نسب الأمراض النفسية في الجزائر، نظرا لفترة العنف التي مرّت بها، كيف هو واقع الصحة النفسية عندنا ؟ وماهي الأمراض الأكثر شيوعا؟ واقع الصحة النفسية في الجزائر أصبح ملموسا و واضحا للعيان من خلال عدد الحالات الوافدة جراء مشكلات نفسية اجتماعية أدت إلى انهيار البناء الاجتماعي. أو تلك التي تأتي طواعية طالبة الاستشارة والاسترشاد. ارتفعت نسبة الأمراض النفسية جراء التغير السريع الذي مرت عليه الفئات الاجتماعية وغياب المرافقة الاجتماعية لذلك. كما يمكن الإشارة إلى تأخر وسائل الإعلام الاجتماعي في التكفل بهذه المشكلات إلى غاية التسعينيات، مما تسبب في تراكم المشكلات النفسية والصحية وتيه الناس في التعامل مع مصادر الاستشفاء مما أخلط الأمور بين العلاج النفسي والعلاج التقليدي والطب. واقع الصحة النفسية في الجزائر مريح بالمقارنة مع الأرقام الواردة في التقارير التي تعنى بالصحة العامة. لكن التمعن في الواقع المعيش يوحي إلى ضرورة تكثيف المجهودات للتكفل بجميع الحالات الظاهرة والخفية لأن ظاهرة الإجرام والجريمة المنظمة والعنف الاجتماعي كلها مؤشرات على وجود خلل ما له علاقة بالصحة النفسية، دون أن ننسى تعاطي المخدرات الذي يتسبب في كل الآفات ذات الصلة بالصحة النفسية. الأمراض الأكثر شيوعا هي العصاب، الذهان السكيزوفرينيا وأمراض أخرى لها علاقة بمواقف صدميه تتسبب في سوء التكيف الاجتماعي. التمييز بين المريض عقليا والمريض نفسيا تفكير خاص بفئة محدودة من المجتمع، ماهي الحدود الفاصلة بينهما؟ المرض العقلي من الناحية الوظيفية يتبع خللا وظيفيا في الجهاز العصبي. المرض النفسي من الناحية الوظيفية يتبع خللا في الجهاز النفسي. المريض عقليا هو شخص فاقد للوعي بالذات يمكن أن يؤذي نفسه أو الآخرين بالتالي يحتاج إلى متابعة وعناية مركزة لاسترجاع العلاقة المفقودة مع الواقع. المريض نفسيا هو شخص فاقد لآليات التكيف والمواجهة، يعاني مشكلة خاصة به و يمكن أن يؤثر في الأشخاص المحيطين به كونه يتميز بتدني الأداء والتواصل الاجتماعي مما يزيد في الصراعات التي يعاني منها ويحتاج إلى كفالة نفسية لتجاوز الخلل الذي يتمركز حوله بتغيير إدراكه وفهم مصادر الضغط التي تسببت له في معاناة ظرفية. الحدود الفاصلة بين المرض العقلي والمرض النفسي هي حدود وهمية لا يمكن إدراكها نظرا لتعقد بناء الجهاز النفسي الذي يمتد في الماضي العميق للشخص و يذوب في اللاوعي أو اللاشعور. يحدد الباحثون الأساس السيكوسوماتي كأرضية للتمييز بين المرض العقلي والمرض النفسي. لكن تغلب الأساس النفسي على الجسمي بمعاناة خاصة يمكنها أن تؤول إلى انهيار يعقبه مرض عقلي. ظهرت في السنوات الأخيرة، عدة طرق علاجية تنسب لعلم النفس: العلاج بالطاقة، العلاج بخط الزمن، التنويم بالإيحاء، علاج الشخصية من خلال الخط (القرافوتيرابي)..الخ، ماذا تقول عن هذه الطرق؟ ميدان علم النفس يبقى مفتواح على كل الاحتمالات مثلما هو الصراع بين علماء النجوم والتنجيم. علم النفس يطرق أبواب الشخصية ويحقق بأثر رجعي في ملمح شخصية الفرد مثلما يفعل علماء الآثار وهم ينقبون على تحفة أثرية بتأن لمعرفة الحقبة الزمنية و استشفاء الواقع في الماضي. سبق وأن أشرنا إلى الخلط الموجود لدى الناس في طلب الاستشفاء. هذا الغموض يؤدي إلى ظهور ظواهر التداوي والاستطباب والعلاج ووووووووو. الإنسان المصاب في ذاته يطلب الحل من أي كان، لذا ينصّب المحتالون أنفسهم بدلاء للطب والطب النفسي لأنه مجال يدر عليهم بالربح وهم يتاجرون بمشاعر وعواطف الناس، لذا يمكن لعرافة أو "قزانة" أن تتحول إلى راقية ومختصة في التنمية البشرية والجمباز العقلي بين عشية وضحاها. فهي مجرد "مودة" ويبقى الأساس الأكاديمي هو المستديم. يعاني الطفل الجزائري من عديد أشكال العنف: عنف منزلي، عنف مدرسي، عنف الشارع، عنف وسائل الإعلام (أفلام الرعب، ألعاب الكمبيوتر، الصحافة المكتوبة خاصة الصفراء والرياضية)، الانترنيت..، كيف يمكن حماية الطفل من العنف؟ يمكن حماية الطفل من العنف بتبديد الطاقة الزائدة والموجودة لديه بالإشراف على ألعابه وتوجيه الطاقة إلى أغراض سلمية وسلمية. على أن توفير الفضاءات المفتوحة ضروري جدا لتفادي الاحتكاك، كما يمكن شرح مخاطر العنف والأذى منذ المراحل المبكرة لتوفير أرضية معرفية و وجدانية لدى الطفل للعمل تجاه تقليل حدوث مثل هذه الظواهر. العنف الممارس ضد الطفل متنوع: جسدي، لفظي، جنسي. ماهو مستقبل ضحية العنف؟ يمارس العنف ضد الطفل في الكثير من الحالات الردعية الهادفة إلى تصويب وتصحيح سلوك خاطيء. لكن هذا العمل يعتبر أسهل رد فعل يستطيع أي كان أن يقوم به اعتقادا منه أنه بصدد تقويم سلوك الطفل. إلا أن أصعب شيء وهو ليس في متناول الناس جميعا هو أن نولّد وننمي قناعة لدى الطفل للعدول عن التصرف السيء. الثقافة النفسية في الجزائر شبه منعدمة، كمختص في هذا المجال، بم تنصح الوالدين والمربين لتكوين قاعدة علمية للتعامل بشكل جيد مع الطفل؟ التعامل بشكل جيد مع الطفل ينحصر في الكيفية التي نتصرف بها أمامهم وحيالهم بإعطاء صورة نموذجية مثالية تمنح فرصة التقمص. يعاني المراهق من مشاكل نفسية متعددة، ماهي سبل التخفيف أو حل هذه المشاكل؟ أهم سبيل للتخفيف من معاناة المراهقة، هو توفير مؤسسات الترفيه والتعليم بالمرافقة الاجتماعية لتجسيد الانتماء للجماعة المرجعية والاجتماعية. المختص النفساني الجزائري، هل يمتلك مؤهلات ممارسة العلاج النفسي من حيث التكوين والإمكانيات؟ يمتلك المختص النفساني الجزائري إمكانيات هائلة لممارسة العلاج النفسي في حال توفر إطار مؤسساتي يساعده على ذلك.