يضطر سكان العديد من الأحياء بمختلف المدن لقضاء ليال بيضاء بسبب الصخب الناجم عن الكلام بصوت مرتفع والسهر في أماكن غير مناسبة، إضافة إلى استعمال مفرط للسيارات و الدراجات النارية و إحداث الضجيج أثناء اللعب، وغيرها من السلوكات غير الحضرية التي تصدر في كل وقت عن أشخاص لا يكترثون لضوابط العيش الجماعي ويتصرفون وكأنهم يعيشون في فضاء خال من السكان. و هي سلوكات تفاقمت حتى أصبحت اليوم مشاهد اعتيادية، تتكرر بشكل يومي و علني، دون أي رادع، رغم تدخلات مصالح الأمن، والشكاوى التي تنتهي إلى أروقة المحاكم على قلتها. النصر حاولت نقل جزء من هذا الواقع، عبر استطلاع أراء مواطنين بعدد من الأحياء و الشوارع بولاية قسنطينة في هذا الخصوص، كما حاولنا تفسير الظاهرة، من خلال الحديث إلى مختصين في القانون و علم الاجتماع، فضلا عن ممثلي المجتمع المدني و كذا مصالح الأمن. روبورتاج: عبد الرزاق مشاطي حلقات «الدومينو» و مباريات كرة القدم تقض مضجع النائمين المتجول ليلا عبر شوارع قسنطينة و أحيائها، و حتى الجالس في بيته بأحد المباني أو العمارات السكنية، المنتشرة عبر الأحياء المختلفة، و خاصة المعروفة بكثافتها السكانية العالية، يتعرض حتما للضجيج القادم من مصادر متعددة، و التي تزيد حدتها في فصل الصيف، أين تطول السهرات و تتنوع أشكالها و تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل، ففي جولة ليلية عبر حي بوالصوف ببلدية قسنطينة، وقفنا على حجم الإزعاج الذي يشعر به السكان المتواجدون داخل منازلهم أو يستعدون للنوم، فما بين الساعتين الحادية عشرة و منتصف الليل، كان الشارع الرئيسي لا يزال يعج بالشباب المتجمعين في حلقات، يمارسون لعبة «الدومينو» أو الأوراق، يطلقون أصواتهم المرتفعة و لا يبالون بالسكان المتواجدين على بعد أمتار منهم. وجدناهم متجمعين تحت شرفات المساكن في حلقات، و عبر جميع أنحاء الحي، قد يصل عددهم إلى 10 أشخاص في كل حلقة، يتفوهون بشتى أنواع الكلام «الذي لا يقال و لا يسمع وسط العائلة»، أصواتهم مرتفعة و ضحكاتهم مقهقهة، و على مستوى الشطر الثالث، بذات الحي، بدا الأمر و كأننا بملعب لكرة القدم، فالشباب يقيمون مباراة بحضور جماهيري قوي، أصوات تملأ المكان و هتافات لا تتوقف، و كل ذلك يحدث على بعد أمتار قليلة من عمارات يقطنها الألاف من السكان، و قبل منتصف الليل بدقائق سمعنا أصواتا عنيفة صادرة عن سيارات، حيث بدا الأمر و كأنه حادث مرور، توجهنا إلى مصدر الصوت، و إذ به مجموعة من الشباب يركبون سيارات فخمة، و يقومون بمناورات خطيرة على مستوى تقاطع طرق بمدخل الحي، و هو الأمر الذي يخلف ضجيجا قويا، يسمع من بعد مئات الأمتار. أصوات المحركات و صخب الأعراس حتى الفجر و بعد أن تجاوزت الساعة منتصف الليل، جاء الدور على شاحنة تابعة لإحدى المؤسسات البلدية، أوقفها العمال بأحد المداخل المؤدية إلى عدد من العمارات، فأغلقوه بالكامل، و شرعوا في سقي العشب، فأحدثوا ضجة و جلبة كبيرتين، لا يحتمل سماعهما، خاصة أن الحركة خفت كثيرا، و لم يعد يسمع سوى الهدير القوي لمحرك الشاحنة و مضخة المياه، و إضافة إلى ذلك كان صوت الغناء ينبعث من أحد الأعراس المقامة وسط الحي، اتجهنا إلى المكان، و شاهدنا عددا كبيرا من الأشخاص، يتجمعون وسط ساحة بين مجموعة من العمارات، و هم يلتفون حول فرقة غنائية، ينطلق صوت أغانيها من مكبرات صوت قوية، يضاف إلى ذلك أصوات مئات الحاضرين، ما يخلف جلبة كبيرة، و بالتأكيد يستحيل للقاطنين بالعمارات المحيطة و حتى القريبة، أن ينعموا بالهدوء، كما أن النوم مستحيل في مثل هذه الظروف، مع العلم أن عقارب الساعة كانت تشير إلى الواحدة صباحا. بالنسبة لسكان حي بوالصوف، هذا الأمر أصبح معتادا و يتكرر بشكل شبه يومي، فالضجيج الذي يصدر من جميع الأنحاء و في وقت واحد، بات مصدر إزعاج حقيقي للسكان الذين أكدوا بأنهم لا يتمكنون من الاستمتاع بالخصوصية داخل منازلهم، بسبب الأصوات المرتفعة، و لا يمكنهم إيقاف الأمر، خاصة أن المصادر تختلف من يوم لأخر، كما أن الشكاوى قد لا تأتي بالنتائج المرجوة، حسب ما أكد محدثونا من السكان، فجميع من تحدثنا إليهم، قالوا بأنهم لم يلجئوا يوما للاتصال بالأمن، لإيقاف الضجيج و الإزعاج، مهما كان مصدره، و يحاولون فقط التحدث بشكل ودي للمتسببين في الضجيج، فيما لم يخفوا حدوث شجارات و مناوشات، في بعض الأحيان، نتيجة عدم استجابة الشباب لمطالب التوقف عن إصدار الضجيج، أو بسبب تمادي بعض المشاغبين، في التفوه بالكلام القبيح، و إطلاق عبارات لا يمكن سماعها داخل البيوت. أحياء تتحوّل إلى ساحات معارك هذه مجرد عينة، نقلناها من أحد أحياء مدينة قسنطينة، و باقي الأحياء لا تختلف كثيرا، فالأمر مشترك، و مسببات الإزعاج و الضجيج نفسها تتكرر، عبر جميع الأحياء و الشوارع تقريبا، و هو ما يؤكده مواطنون من أحياء مختلفة، أكدوا بأنهم أصبحوا يقضون ليال بيضاء، بسبب الإزعاج و الضجيج العلني الذي يعانون منه يوميا، على غرار حي سيدي مبروك و حي الدقسي عبد السلام، و حتى من وسط المدينة و لو أن الأمر أقل حدة، أما بالمدينة الجديدة علي منجلي و مدينتي الخروب و عين سمارة، فالضجيج الليلي، يعد أحد الأمور الروتينية، و سيناريو متكرر يعيشه السكان بشكل يومي، تحدث فيه نفس الأمور، التي وقفنا عليها بحي بوالصوف، من أصوات للسيارات، و سهرات شباب حتى ساعات الصباح الأولى، و مباريات كرة قدم وسط العمارات، أو أعراس و حفلات غناء، داخل التجمعات السكنية، إضافة إلى أشكال أخرى من الإزعاج. و يؤكد محدثونا من سكان هذه المناطق، أنه كثيرا ما تتحول السهرات و مباريات كرة القدم، إلى شجارات عنيفة، و مواجهات بين الشباب يستعملون فيها الأسلحة البيضاء، فتتدخل مصالح الأمن، و قد تقع جرائم خطيرة، و هو الأمر الذي بات يشكل كابوسا للسكان، و بات يتطلب حلولا عميقة و عاجلة، على حد تأكيدهم. و حتى المتجول داخل شوارع المدينة ليلا، يصادف أنواعا من الإزعاج، و لعل أحد الأشكال التي أصبحت تتكرر كثيرا في الأونة الأخيرة، مواكب الأعراس، التي يقودها شباب متهورون، يقومون بمناورات خطيرة على الطرقات، و يتسببون في إرباك مستعملي الطرقات، مما يؤدي إلى وقوع حوادث مرور، إضافة إلى ذلك فهم يتوقفون وسط المحاور، و يرقصون على الطرقات و يشعلون الألعاب النارية، و يقومون بشل حركة المرور، مما يشكل طوابير من السيارات التي تنتظر المرور، و هو ما شاهدناه مرار و تكرار، فوق الجسر العملاق «صالح باي» حيث تتوقف عدة مواكب دفعة واحدة، و ينزل الركاب للرقص و الغناء، غير مبالين بالانسداد المروري الذي أحدثوه، و نفس الأمر يحدث على جسر «سيدي مسيد» رغم أن هذا المحور هام جدا، حيث يؤدي نحو المستشفى الجامعي. المختصة في علم الاجتماع بن سطار فاطمة الزهراء الضغوط الاجتماعية و غياب المرافق سبب مباشر للإزعاج العلني تؤكد الأستاذة بن سطار فاطمة الزهراء، و هي مختصة في علم الاجتماع، أن مشكل الضجيج العلني، يعود بالدرجة الأولى إلى التكوين الأسري، فمعالم الأسرة الجزائرية تغيرت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، و ذلك راجع إلى تغير الظروف الاقتصادية و الاجتماعية، حسب تحليل محدثتنا، التي أوضحت بأن غياب الإرشاد و التكوين من جهة، و انعدام المرافق الترفيهية و الثقافية، و نقص الإمكانيات لدى العائلة الجزائرية، كلها ضغوطات و تراكمات، تجعل من الشباب يتنفسون و يعبرون عن مكنوناتهم في الشارع، و يحولون مكبوتاتهم إلى تصرفات و سلوكات علنية غير مسؤولة، هي في الحقيقة إزعاج للأخرين، غير أنها بالنسبة لهؤلاء الشباب تصرفات عادية و طبيعية. فمن الطبيعي حسبها أن تتحول سلوكات الشاب إلى إزعاج علني، عندما يجلس في الشارع، و لا يجد مكانا يتوجه إليه، لقضاء أوقات فراغه، أو ليتعلم شيئا يفيده، كما أن التنشئة الاجتماعية، مهمة جدا في هذا الشأن، فمن واجب الأولياء حسبها، إرشاد أبنائهم، إلى ضرورة التقيد بالسلوك الحسن، و كذا مراقبتهم و كبح انفلاتهم، فالشاب الذي لا يعود للبيت إلا بعد منتصف الليل، هو انعكاس لغياب الرقابة الأسرية، حسب تأكيد محدثتنا، التي أوضحت أيضا، بأن تصميم الأحياء، هو من بين الأسباب التي تؤدي إلى الإزعاج و الضجيج العلني، حيث أن غياب المساحات الضرورية، و قرب العمارات و المساكن، من بعضها، تؤدي حتما إلى وقوع إشكالات بين السكان. المحامية كوثر كريكو المواد الخاصة بجرائم الضجيج العلني غير مفعلة في قانون العقوبات تؤكد أستاذة القانون و المحامية، كوثر كريكو، أن الضجيج العلني يعتبر من الجرائم التي يعاقب عليها القانون، فإزعاج الجيران و الإخلال بالنظام و عرقلة حركة المرور، كلها تقريبا تدخل ضمن باب واحد، غير أن ما يعرف بالإزعاج و الضجيج الذي يحدث وسط الأحياء و التجمعات السكنية و بين الجار و جاره، كلها قضايا، غالبا ما تصدر أحكام البراءة في حق مرتكبيها، لأن هذه القضايا، يستوجب القانون الجزائري أن تكون علنية، فشرط العلنية ضروري حتى تكون مثبتة، و هو الشرط الغائب في معظم القضايا، حسب تأكيد الأستاذة كريكو، التي أكدت بأن العديد من الشكاوى لا تصل إلى المحاكم بسبب عدم انطباق وقائع القضايا على أركان الجريمة المنصوص عليها في قانون العقوبات، خاصة أن هذا الأخير، ينص على أن الجريمة يجب أن تكون، من بين جرائم الإخلال بالنظام العام، و بالتالي يجب أن تحدث بشكل علني. و تؤكد الأستاذة، أن العديد من القضايا التي عالجتها، نال أصحابها البراءة، بسبب نقص الإثبات، و رفض الجيران الإدلاء بشهاداتهم، و تؤكد محدثتنا أن مثل هذه القضايا تمر عليها بشكل دائم، غير أنها لا تأتي بنتائج، لأن المواد الخاصة بها غير مفعلة بسبب وجود غموض فيها، و تقول بأن المحامين طالبوا في العديد من المرات، و لا زالوا يطالبون، بتفعيل صحيح للنص القانوني الخاص بجرائم الضجيج، ما دام هناك قضايا ترد إلى المحاكم، موضحة بأن المطلب هو استصدار قرار من المحكمة العليا لغرف مجتمعة، بمثابة اجتهاد قضائي، يفعل أكثر تطبيق قانون العقوبات في هذا الصدد، حتى يمس وقائع أكثر، لها نفس تكييف فعل الضجيج المعاقب عليه في قانون العقوبات، و الذي يمس الحريات الشخصية للفرد، و بالتالي السكينة العامة، كون الحريات الشخصية مكفولة دستوريا و المساس بها يعد مساسا بالنظام العام. عبد الحكيم لفوالة رئيس فدرالية المجتمع المدني بقسنطينة نجد صعوبة في التعامل مع الشباب و نناشد الأولياء بالتوعية يرى رئيس فدرالية المجتمع المدني بقسنطينة، عبد الحكيم لفوالة، أن الكثير من قيم المجتمع تسير نحو التلاشي، مؤكدا بأن العديد من الأفعال التي يقوم بها بعض الأشخاص في أيامنا هذه، لم تكن تحدث قبل سنوات قليلة، أو كانت أقل حدة، و ذلك على غرار، الإزعاج و الضجيج الليلي، الناجم حسبه، عن تصرفات خاطئة و سلوكات غير مسؤولة، من فئات معينة من المجتمع، معظمهم من الشباب، الذين أصبح التعامل معهم في منتهى الصعوبة، على حد تأكيد محدثنا، و ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى نقص التحسيس و غياب التوعية، حسب ما يضيف لفوالة، الذي أكد بأن الفدرالية التي يرأسها، تملك تجربة طويلة في محاربة ظاهرة الإزعاج الليلي، تعود إلى بضعة سنوات ماضية، و بالأخص فيما يخص غلق الطرقات و مداخل الأحياء، خلال مواكب الأعراس و الاحتفالات المختلفة لسكان مدينة قسنطينة. و يؤكد محدثنا بأنه تدخل بنفسه في الكثير من الأحيان، و في بعض الأوقات يكون التدخل من قبل أفراد المنظمة، من أجل حث الشباب المحتفلين على ضرورة فتح الطرقات، و فسح المجال للسيارات من أجل المرور، غير أن ردة الفعل كثيرا ما تكون سلبية، و ذلك على غرار محاولات أعضاء الفدرالية، القضاء على ظاهرة غلق جسر سيدي مسيد ليلا من أجل الاحتفال و إشعال الألعاب النارية، و هي تدخلات كانت تستقبل في معظم الأحيان بقلة احترام و لا مبالاة من الشباب المحتفلين، و يقول حكيم بأن البعض يقولون «بأننا غير مسؤولين على تصرفاتهم و بأنهم أحرار فيما يفعلون»، و أخرون يقولون «بأننا لسنا شرطة حتى نمنعهم مما يفعلون». لفوالة أكد أن الفدرالية ستعمل مستقبلا بالتنسيق مع جمعيات الأحياء، على توعية الشباب و الأطفال و حتى الأولياء، الذين أكد بأن دورهم رئيسي في تحسيس الأبناء، و إرشادهم لعدم القيام بتصرفات خاطئة، تنعكس سلبا على المجتمع. أمن قسنطينة يكشف التدخلات الميدانية تتعدى بكثير شكاوى المواطنين يؤكد رئيس خلية الاتصال بأمن ولاية قسنطينة، أن دوريات الشرطة تسجل الكثير من التدخلات، فيما يخص جرائم الضجيج العلني و الإخلال بالنظام، و هي تدخلات روتينية ترتبط، بأسس العمل الشرطي، موضحا بأن الشكاوى التي ترد من المواطنين في هذا الشأن، قليلة جدا، مقارنة بالتدخلات الميدانية لفرق الأمن، و لعل ما يؤكد هذا الطرح، هو البيانات الرسمية، التي ترد إلى النصر، من قبل أمن الولاية، و التي تبين العمل الكبير الذي تقوم به مصالح الأمن، في الحد من جرائم الإخلال بالنظام، و تقليص الإزعاج و الضجيج على سكان المدن.