لقد شبه رامبو نفسه بالنبي وبالرائي، وآمن بذلك بقناعة وإصرار. ذلك ما جسده في لوحة «حافة الطاولة» التي رسمها فانتين لاتور سنة 1872. تصور اللوحة ثمانية رجال، قد يعرف المتخصص في تلك الفترة ثلاثة منهم بأطقمهم الأنيقة وربطات العنق الغالية، أما الثلاثة الباقون فإنهم غير معروفين. حسين خمري فارلين و رامبو جالسان، أسند رامبو فكه بيده اليسرى، لم ينظر تجاه فارلين الذين كان بجنبه أمامه زجاجة شراب، صورة رامبو، كان ينظر إلى البعيد وقد أدار ظهره تماما لجماعة من "الرجال السيئين"، وهذا له دلالة ثقافية فنية، ربما احتقرهم، ولم يعد عضوا في الجماعة لأنه "رائي"، وتجاهل حتى المصور. اللوحة كانت منقوصة من واحد من الجماعة، ليس لأن إطارها ضيق، فهي من الحجم الكبير إذ يتجاوز طولها المترين والربع وعرضها أكثر من المتر والنصف، فهي تكفي لأن يضاف إليها شخص آخر. يمكن للمتابع لهذه المجموعة أن يلاحظ غياب ألبير ميرا الذي رفض أن يقف أمام الرسام في نفس الفضاء مع رامبو. فضل الانفصال على البقاء مرتبطا به إلى الأبد، ما حز في نفس ألبير ميرا أن رامبو أشاد به ثم بعد فترة هزأ من عبقريته. غياب ميرا عوضه الرسام لاتور بباقة من الزهر، ربما يكون تعويضا عن خسارة وتذكيرا بالغائب، كما يرى ذلك رولان بارت.(الغرفة المضيئة79) تذكرنا الصورة دائما بغياب، في بقدر ما تشتغل كدال فهي تشدد على نفي المدلول. و"يبدو العشاء الأخير الملغز هذا مغايرا لما درج في الرسم، فالابن الإلهي بين الأبناء ليس هنا بين الأبناء فاتحا يديه نحوهم، بل هو حائد عنهم لا بل مدير ظهره لهم إلى حد ما." ( رامبو الابن ص 92). يتجسد العشاء الأخير في رائعة أخرى هي لوحة الرسام جاك لوري دافيد "موت سقراط" التي رسمها سنة 1787 والتي تصور سقراط مع أتباعه ممسكا بكأس السم، صورة رجل مقبل على الموت، ولكن ذلك لا يظهر على ملامحه، لوحة بطول مترين وعرض يقارب المتر والنصف، ولكن يغيب فيها شخصان، تلميذه أفلاطون الذي قال فيه جملته الشهيرة، "لعل أفلاطون يكون مريضا"، وزوجته كزانتي لأنها كانت قد حضرت العشاء الأخير للمعلم ليلة قبل وصول الباخرة القادمة من أرض نائية تحمل السم. كل الوجوه المرسومة، وهم تلاميذه وأتباع المعلم متأثرين وعلى وجوههم علامات الحيرة. الكارثة ستحل بعض لحظات، وحتى الذي سلمه الكأس يبدو أنه أحد أتباعه. لم يجرأ على النظر في عينيه، فقد أدار رأسه عن الفيلسوف كما حجبه عن المشاهد، الشخص الوحيد الذي كان هادئا، ولا يظهر عليه أي اضطراب هو الذي سيموت بعد لحظات بعد أن ينهي الرسام لوحته، حينها يمكن له أن يموت. أما الغائب الأكبر فهو الفيلسوف أفلاطون الذي سيكون له شأن بعد اختفاء المعلم، ربما كان ينتظر هذه الفرصة للتخلص من غريم منافس، مثلما أدار رامبو ظهره للآخرين احتقارا و اعتدادا بالنفس. تتقاطع اللوحات الثلاث العشاء الأخير(1494-1498) وموت سقراط (1787) وحافة الطاولة (1872) عند الاحتفاء برجل يركب صهوة الخلود، لحظات قليلة قبل أن يندثر من الوجود، المرسومون الثلاثة (المسيح، سقراط، رامبو) يبدون راضين، لأنهم سينتقلون من فضاء إلى فضاء آخر، ثلاثتهم يقف على العتبة، فهو في الداخل والخارج، فهو الحي الذي يموت وشيكا، لحظة مفصلية لا يمكن أن يقبض عليهما إلا فنان مقتدر. لم يتوقف سحر رامبو عند الشعراء، إلى درجة تدميرهم شعريا وتغيير مجرى حياتهم، لم تتوقف الافتتان عند صاحب رائعة "حافة الطاولة "(1872) فانتين لا تور، ولكنه انتقل كالنار في الهشيم إلى المصور الفوتغرافي إيتايان كارجا. والصورة التي يعرفها الجميع لرامبو بعينين زرقاوتين صافيتين ساهمتين وشعر غير مصفف وربطة عنقه، شكل فراشة المائلة إلى اليسار، لم يطلب منه تعديلها، لأن رامبو لا يرى الأشياء من منظور المصور، الذي هو في الأصل صحافي وشاعر. تم أخذ هذه الصورة له سنة 1871، وهذه الصورة هي التي نعرفها كلنا، بل العالم كله لا يرى إلا هذه الصورة الوحيدة، إنها الصورة "الرسمية" مثل صور الرؤساء والملوك والأمراء. كان كارجا مصورا لأصدقائه الشعراء، يلتقط لهم صورا جماعية وأخرى فردية وفي حالات ووضعيات مختلفة. لقد نجت هذه الصورة من التلف والتدمير لأنه عقب شجار حاد بين الشاعرين رامبو و كارجا أثناء العشاء استعمل رامبو عصا صديقهما، ألبير ميرا، ذات الطرف الحاد ليصيب كارجا بجرح، فما كان من هذا الأخير إلا أن يقوم بإتلاف كل صور رامبو التي كانت في طور"التحميض". الصورة الناجية والوحيدة أصبحت بدورها موضوعا لرسومات زيتية متعددة، واعتمدت كصورة رسمية لرامبو، مثلما الصور الرسمية للرؤساء. هذه الصورة الأولى، وربما الوحيدة، أصبحت صورة أسطورية، لا يعرف القارئ غيرها، حتى بعض الصور وهي قليلة جدا، التي اكتشفت فيما بعد، لم تستطع أن تنسخ الصورة الأولى أو تمحوها، لقد تحولت الصورة الأولى إلى عدد كبير من رسومات الفنانين التشكيلين من استنساخ أمين، إلى إضافة خطوط أو تحوير لبعض الملامح مثلما تقتضيه سياقات متباينة، تماما كما حدث مع لوحة ليوناردو دا فينشي «المناليزا» التي حيرت ابتسامتها جمهور المختصين والمشاهدين، فأضاف لها سالفادور دالي «شارب رادار» مثل شاربه تماما، وهناك من ألبسها ثوب راهبة، ومن رسمها بخمار إسلامي أو بقميص بمربعات مثل ألبسة الموضة وأخرى بسيجارة بين الشفتين ... وكل هذه التحريفات الساخرة ترتبط بشكل أو بآخر «بموناليزا» دا فينشي وتمت لها بصلة. تتخذ صورة رامبو، الرسمية طبعا، مسارا مختلفا لأن أصلها صورة فوتوغرافية أي أقرب ما تكون إلى حقيقة شكل رامبو ذاته في لحظة زمنية محددة، ولكن الرسوم واللوحات التي حاولت تقليدها أو إعادة إنتاجها بالتحريف وبالسخرية عجزت عن القبض عن لحظة الانفعال التي استشعرها رامبو وهو يقف أمام عدسة صديقه الشاعر كارجا. وهذه الرسوم تعيد بناء الشخصية، كيف تبني الصورة الشخصية وتعطيها حياة جديدة بعيدا عن حياتها التاريخية. من هذا المنظور، تصبح الصورة شخصية قصصية تنتقل من فضاء إلى فضاء وتتعدد أشكالها بتعدد منتجيها وتختلف ألوانها وأبعادها باختلاف سياقات مبدعيها، فتتحول وظيفتها من مجرد تمثيل لملامح الشاعر إلى إعادة تشكيل حياته و قراءته قراءة جديدة. هذه الشخصية القصصية، أي الصورة الفوتوغرافية، لم تستقر عند الرسامين التشكيلين و لكنها واصلت مغامرتها مع الفنانين النحاتين الذين جاءوا من بعد وذلك في شكل منحوتات وتماثيل بأحجام مختلفة وألوان مغايرة. لماذا تنصب الشعوب التماثيل؟ لتكريم فنانيها ومبدعيها وأبطالها المغاوير ورجال سياستها المخلصين الذين خدموا وطنهم، وهي بذلك نوع من الاعتراف و التقدير. فلا تكاد تخلو مدينة أو قرية في أوروبا و أمريكا من تمثال. عكس ما هو موجود في الوطن العربي، وذلك لأسباب دينية ارتبطت بالممارسات الوثنية الجاهلية التي كانت ترى الألوهية في الأصنام «فكان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان سبب السائبة هو عمرو بن ربيعة ... و أول من اتخذ الأصنام و سموها هذيل بن مدركة.» (الأصنام 9) وظيفة الصنم عند العرب القدامى وظيفة دينية تعبدية أما في العصور التي تلت ذلك عند الأوروبيين، خاصة تمجيدية، و تشريفية. وقد أدى تغير الوظيفة حتما إلى تغيير الاسم، فأصبح يسمونه تمثالا أو مجسما. بعد أن سكن رامبو مدة في صورة كارجا واستقر فيها لعقود، انتقل إلى رسومات الفنانين التشكيلين انطلاقا من الصورة ذاتها كانت هي الأصل، لأنها بكل بساطة هي الوحيدة. لكن الصورة والرسومات التي هي عبارة عن خطوط وأشكال وألوان على مساحات مسطحة سواء كانت من الورق أو من القماش لا تمنح المشاهد إلا بعدا واحدا وإن اختلفت الحالات باختلاف الأشكال وعمق الألوان فتمنح بذلك أحاسيس وتوحي بدلالات ليست حتما ذات صلة برامبو، ولكنها أكثر اتصال بحالات الرسامين الذين أنجزوها وعلاقاتهم الخاصة بالشاعر وأثر سياقاتهم العاطفية والحضارية وموقفهم الفني من العالم. و»يختلف الفضاء المرسوم لاختلاف الضوء» كما يمكن النظر إلى التشكيل كعالم له ضوءه الخاص ،ضوءه الداخلي المبني وفق قواعدها.» (40 Vie des formes) هذا يفيد بأن اللوحة هي في النهاية تأويل لامتناه حسب المكان الذي تحط فيه هذه اللوحة رحالها لأننا يمكن مشاهدتها على صفحات الكتب أو المجلات، كما في المعارض والمتاحف أو على أحد الحوامل التكنولوجية التي تتيحها الشبكة العنكبوتية. الصورة الواحدة نراها مختلفة كلما غيرنا المكان وكلما تغيرت كثافة الضوء. رامبو كمادة صلبة بعد هذه السكن، ينتقل رامبو ليكون مادة صلبة، البرونز ثم الحجر، وهذا من خلال تمثال أو مجسم. الاختلاف بين الرسم والمنحوتة لا يتوقف عند المادة بل له علاقة مع المتلقي لأن اللوحة يمكن أن تجوب العالم، طبعا هناك طرق لحفظها وصيانتها وعناية مخصوصة عند نقلها، فهي ليست أية سلعة، أي أن اللوحة لها القدرة على التحرك والانتقال مثلما هو الحال بالنسبة لبعض اللوحات التي تسافر من متحف اللوفر بباريس للإقامة في لوفر أبو ظبي لمدة سنة أو نصف سنة ثم تعود إلى موطنها الأصلي. أما التمثال فإنه يبقى مستقرا في مكان لا يبرحه، ربما لقرون، لكنه يتميز عن اللوحة في كونه يبنى على الأبعاد الثلاثة لأننا «يمكن أن نتأمله عندما نواجهه مباشرة، أو من الخلف، من الأعلى ومن الأسفل، من اليمين ومن الشمال» (36 Vie des formes) أي في أبعاده الثلاثة وهذا ما لا تتيحه اللوحة مهما اجتهدنا في الاقتراب أو الابتعاد أو الانحراف إلى زاوية اليمين أو زاوية الشمال أو الوقوف أمامها في النقطة التناظر فأنها لا تعطينا إلا بعد المنظور. تمثال رامبو له خصوصية، ليس لحجمه، أو المادة التي نحث بها ولا حتى للمكان الذي نصب فيه، ولكن للمغامرة التي عرفها. تمثال واحد ينحت ثلاث مرات، التنويعات الثلاث طبعا أمينة لصورة كارجا. التمثال يخيف، رغم أنه لا يمثل إلا النصف العلوي لشاعر في السابعة عشر من عمره، حينما أخد له إيتيان كارجا الصورة الأسطورية. ما الذي يخيف الألمان بالنسبة لتمثال حتى يقوموا بمصادرته(ميللر66.). عشر سنوات بعد موت رامبو، كان باترن بيريشون، أحد أصهار الشاعر قد نحث تمثالا من البرونز لرامبو ووضع على قاعدة تشبه المسلسلات المصرية في الحديقة العمومية لمدينة شارفيل. طبعا التمثال كان مطابقا للصورة التي أخذها كارجا لرامبو، الصورة الرسمية الوحيدة. أثناء اجتياح الألمان لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، صادروا التمثال وأخذوه لتذويبه وصنعوا منه الرصاص. طبعا ألمانيا لم تكن في حاجة إلى هذه المادة لأنها كانت معتمدة على قدراتها في الصناعات العسكرية ودخولها في حرب كونية ضد الكل دليل على ثقة في النفس. لم تكن ألمانيا في حاجة إلى تمثال تزين به إحدى حدائقها أو تضعه إلى جنب شاعرها المفضل فولفغانع غوته، ولكنه كان نوعا من الإذلال للفرنسيين .تجريدهم من ابنهم المفضل، الشاعر الذي طالما اعتزوا به وتغنوا بأشعاره، يتحول إلى رصاص يطلق على الفرنسيين. لم يكن هدف الألمان السرقة ولا اختطاف الغنائم الحربية، ولكن طمس المعالم الفنية لأن المنحوتة هي عمل فني بامتياز، ومحو رامبو من الذاكرة الشعرية كشاعر له مكانته الاستثنائية في الثقافة الفرنسية وإشعاعاته الأوروبية ثم العالمية. هذه الإهانة لم تحرج المثقفين فحسب ولكنها كانت عملا سياسيا ووطنيا بالغ الرمزية، لهذا انبرى ألفوس كول سنة 1927 لنحث تمثال مطابق للأول، ولكن هذه المرة من الحجر. كان الاعتقاد أن الألمان لن يأخذوه لأن الحجر لا يمكن أن يتحول إلى رصاص، ولأن الحرب حرب مدافع وقنابل ولأن ألمانيا قد شلت حركاتها ولم تعد قادرة على خوض معركة ثانية، وإن وصلت إلى شارلفيل فإنها لن تأخذ الحجر، لأنها لا تستعمله لتضرب فرنسا بالمقلاع ولن تعود إلى حروب المنجنيق. رامبو كغنيمة حرب اندلعت الحرب العالمية الثانية، بعد أن استرجعت ألمانيا أنفاسها ودخلت الشمال الفرنسي المتاخم لحدودها، ولكن هذه المرة لم تأخذ تمثال رامبو الذي انتصب في المكان نفسه، رأت فيه نوعا من التحدي ورسالة سياسية مفادها قدرة فرنسا على إعادة بناء ذاتها. لم يكن أمام الألمان إلا تدمير هذا التمثال المعاند، مثله مثل صاحبه رامبو أي كسر العناد الفرنسي. كأن الحرب لم تكن من أجل أهداف سياسية وعسكرية ولكنها من أجل تمثال. لم يفصل المؤرخون في الطريقة التي دمر بها التمثال ولا الآلات المستعملة لهذا الغرض. عكس تمثال صدام حسين الذي عرضت طريقة هدمه أثناء حرب الخليج ونقلت على شاشات التلفزيون. لا صورة ولا خطاب حول هذه العملية، ولكننا يمكن أن نتصور حالة الانتشاء من طرف الألمان وهم يزيحون تمثال رامبو، وربما بصقوا عليه و ركلوه بأقدامهم حقد وتشفيا. هل كان لفرنسا أن ترضخ لاعتداءات الألمان المتكررة على مواطن من مواطنيها ورمز من رموزها فكانت المحاولة الجديدة هي النسخة الثالثة للتمثال التي أنجزها لوي رومون من الحجر سنة 1945 بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد شاعر ليستقر رامبو في الحديقة العمومية لشارلفيل يراقب السكان وهم يتفسحون وينظر بحنو للزائرين وهم يأخذون الصور إلى جنبه، قد يكون منهم من سيكون رامبو زمانه وشاعره الأوحد. لقد رحلت صورة رامبو إلى كل أنحاء العالم، بعد أن ضاقت ذرعا بباريس و شارلفيل وأوروبا لأنها كانت ربما تطارد روح الشاعر الذي قرر في سنواته الأخيرة، من عمره القصير، أن يرحل إلى الشرق، فكان أن أقام لسنوات بين حرار بإيثيوبيا وعدن باليمن. امتهن عدة حرف، وتاجر في الرصاص والأسلحة، والعاج والتوابل وجلود الحيوانات. لم يكن الهدف من الرحلة إلى الشرق الحصول على المال كما يعتقد الكثيرون ولكنه توقف عن الشعر وطال صمته لأنه لم يشأ الدخول في الابتذال والابتعاد عن الدهشة. حاول استنكاه الروحانية الشرقية بعفويتها ووحشيتها. فلبس لباس السكان المحليين وقرأ القرآن الكريم الذي حمل معه منه ترجمتين إلى الفرنسية وهو ما جعل بعض المؤرخين الأدبيين يعتقدون بأنه قد اعتنق الإسلام خاصة وأنه أثناء احتضاره في مستشفى مرسيليا يردد «الله كريم» ولكن هذا لا يفيد بأنه مسلم، بل هي عبارة شكر لا غير. الأسطورة لا تموت، و لكنها تنهض من موتها، في مكان ما، و في زمن آخر الذين أرادوا تبنيه أو السير على نسقه، لفظهم التاريخ، لكن رامبو كرس كأسطورة، لأنه رفض أن يكون ملكا لمجموعة قليلة من الشعراء البارسيين لكي يلتحم بشعراء من غير الأوروبيين وليسكن بيتا في عدن. هذا ما دفع بالشاعر العراقي شوقي عبد الأمير، شاعر إلتقيته في باريس في الثمانينات عندما كان مسؤولا في المركز الثقافي العراقي وكنت أنا آنذاك طالبا بجامعة السربون. راح شوقي يبحث عن بيت رامبو في عدن، الذي تحول إلى فندق عندما هجره صاحبه، فجعل منه بيتا للشعر. تقاطع مصير شوقي عبد الأمير مع مصير أرتور رامبو عندما رفض الوصاية الشعرية ومعانقة الحرية التي لا تعترف بالحدود، ولا تنتظر تبرئة أو تأشيرة من أي كان، فكان الثاني سببا في بعث الأول وتقديمه إلى القارئ العربي. عاش كلاهما في المكان نفسه كما عرفا الانتقال بين اللغات والأقاليم الشعرية، ساخرين من الأنماط والأفكار المسبقة فكان انحيازهما إلى الشعر هدفهما الأسمى. اتجه الأول نحو اللغة العربية بروحانيتها وخيالها، أما الثاني فقد ذهب إلى الفرنسية بعقلانيتها ومنطقها. التقيا في منطقة وسطى، تقاطع الطرق ليتوقف كل واحد يتأمل الحياة و يقرأ الوجود كما ارتوى الأول من نبع الثاني. هذا عكس علاقة رامبو بميللر الذي يقول: «رامبو تحول من الأدب إلى الحياة .أنا فعلت العكس. رامبو هرب من السعالي التي خلقها. أما أنا فقد عانقتها (ميللر 14)