العالم لازال بحاجة إلى الشعر و كائناته احتفل (ويحتفل) العالم هذا الأسبوع باليوم العالمي للشعر وهو بهذا احتفى/ويحتفي أيضا بالشعراء وبملائكة الشعر في كامل أنحاء المعمورة. أقام المهرجانات والأمسيات عبر مختلف الجغرافيات، غرد الشعراء وارتفع الشعر عاليا كعصافير بأجنحة من كلمات ودهشات وسعادات. وبهذه المناسبة، أشادت اليونسكو بفن الشعر، وبفضائله كواحد من أقوى أشكال التعبير اللغوي والثقاقي، حيث قالت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة، في برقيتها عشية عيد الشعر: «من خلال كلماته وإيقاعه يجسد الشعر أحلامنا عن السلام والعدالة والكرامة، ويمدنا بالقوة والرغبة في حشد الدعم لجعلها حقيقية. لقد وضعت جميع الشعوب على مر التاريخ شكلا من أشكال الشعر ومارسته، إما من أجل نقل معرفتها، وتاريخها وأساطيرها شفهيا، وإما للتعبير عن المشاعر، والتحدث عن الحياة اليومية، ومواجهة تجارب الحياة أو للترفيه. إنه تعبير عميق عن الفكر الإنساني وفن عالمي، وأداة للحوار وللتقارب». يذكر أن اليونسكو ومعها كل العالم ومؤسساته الثقافية تحتفل سنويا باليوم العالمي للشعر. وهو اليوم الذي أُعتمد في أثناء الدورة الثلاثين لليونسكو -التي عقدت في عام 1999 بباريس- حيث تقرر إعلان واعتماد ال21 آذار/مارس من كل عام يوما عالميا للشعر. لكن السؤال الذي يرفرف في هذه المناسبة الجليلة، وبأجنحة من علامات استفهام: هل العالم اليوم بحاجة إلى الشعر والشعراء، أم صار لا يعبأ ولا يكترث بهما؟، وهل ما زال الشعر يحتفظ بدهشته ورحابته ومكانته وفضائله، أم فقدها في هذا الزمن الذي تغيرت فيه معطيات الإنسان وكذا الحياة ووتيرتها؟. في ملف كراس الثقافة لعدد اليوم، شعراء يجيبون على هذا السؤال ويتحدثون عن ضرورة الشعر وفضائله ومكانته بالنسبة للكون وللإنسان والعالم. إستطلاع/ نوّارة لحرش سعدي يوسف/ شاعر عراقي مقيم في لندن ليس بإمكان الشِعر وحده أن يكون المنقذ في يوم الشِعر العالميّ، علينا أن ننظر إلى أماكن وأناسٍ، غير أماكننا، وأناسِنا. نحن أمّةٌ قُذِفَ بها خارج التاريخ بفِعل قوى خارجية/ داخلية، وقد شوّهَ هذا المصيرُ وجه الأمّةِ، وتجلّياتِه: في الفن والتقدم والشِعر أيضاً. ليس بإمكان الشِعر وحده أن يكون المنقذ!، الشِعر بحاجة إلى رافعةٍ سياسية واجتماعية. لنتذكّر مفدى زكريا هنا!، لكن الشعراء يتحمّلون جانباً من المسؤولية عن هذا التدهور. الشاعرُ فاعلٌ ضمناً لكننا نشهد الخذلان لدى الشعراء. لقد ارتضى الشعراءُ عفونة الخيمة: خيمة الحكّام والأغنياء. وإلى أن يرفض هؤلاء، الخيمة، خيمة الذل والاستكانة، سيظل الشِعر العربيّ مغيَّباً. خالد بن صالح/ شاعر جزائري نحن بحاجة للشعر لمواجهة العالم بتاريخه الطويل المليء بالنكسات نحن بحاجة إلى القسوة، إلى القصيدة المُحكمة، المنفلتة من هذه الدوائر المغلقة المستندة على ماضٍ مقدسٍ يمنحها شرعية مزيفة، لإبهار القطيع والجماهير المهللة، بحاجة إلى أن نزيح الأقنعة، ونصدق المرآة المتكسرة التي تلتهم ملامحنا، بحاجة لهذا وأكثر لمواجهة العالم بجغرافيته العربية وتاريخه الطويل المليء بالنكسات. وما المآل إلا من واقع الحال على امتداد فترات متعاقبة من الرجعية والاستبداد والبلادة. يقولون إنَّ جلد الذات من ضعف الإنسان وانهزاميته، ويُنظِّرون لما بعد الحياة ويرمون ما قبله في حفر الفناء، ونقول إنَّ الحياة ما يهمنا هنا، لا قبلها ولا بعدها بسنتيم واحد. منحازين للجمال في كل ثانية، لما يهلك من الشغف. وما يؤثث القصيدة المشتهاة. تلك التفاصيل التي نتمسك بهشاشتها، بروعتها وهي تغيضُ الماثل والجاثم على صدورنا منذ أمد. إلى متى والأسئلة لا تليقُ بما نطمح؟ الأسئلة الواعية من أشخاص، ومؤسسات ونخب. لماذا ما يفرقنا أشدّ وضوحاً مما يجمعنا؟ الشعر كائن هلامي، أعزل، يحتاج منا أن نكون أطفالاً، نتقن اللعب واصطياد الكلمات التي تضيء الجملة الشعرية بمجرد ما تجتاحها، الشعر بحاجة إلى القصيدة التي تسرقُ روحه، تكتبه كما يتمنى هو دائماً أن يكون. في عالمٍ متسارعٍ كل شيء فيه آني وماضٍ إلى الهلاك. عمرُ المشاعر قصير. المشاعر وكل ما له ملمح إنساني ما ينقص كذلك، نمنحها الخلود المؤقت بنص، بقصيدة نكتبها بأنفاسنا، بدمنا المراق، بجوعنا القديم، بأملنا الصغير، بما نحلم بكل بساطة وعمق. إذا كان «الشعر هو ما ينتج عن عثور إحساس على فكرته وعثور الفكرة على كلمات» كما عرفه روبرت فروست بطريقة مدهشة لا أعرف كيف يستطيع الكثيرون اليوم حرق مراحلها. للأسف المجازر التي نشهدها يومياً عبر نشرات الأخبار في حق الإنسان والحرية والديمقراطية لا تقل مأساة عما يشهده الشعر عبر مواقع التواصل الاجتماعي ونوادي الانترنت وذاك الكم الهائل من السيول اللفظية والشطحات اللغوية والبيوت التي حملت أسماء أناسٍ لا علاقة لهم بالشعر بل الأكثر من ذلك اقتحمَ هؤلاء الميدان مدفوعين بجيوش من المعجبين والمعجبات ولم يعودوا مجرَّد كتبة طارئين طالما أنَّ المنابر الرسمية على تخلفها ومحدودية اطلاعها فتحت لهم أبوابها المترهلة. في حين تتحجج جل دور النشر بصعوبات تسويق الشعر وإن كان مهماً ولشاعر حقيقي حتى على حساب رواية تافهة لها جمهورها من التافهين أيضاً. المسألة مسألة جودة في كل شيء ولا يمكن الزج بهذا في ذاك. كشاعر منحازٌ للَّعب الخلاَّق، للتجريب القاسي، لفعل التهديم الذي يجعل الخراب خلفية حقيقية لما أكتبه، لستُ أنظر إلى الواقع بكل تصدعاته من خلف زجاج نافذة، أو من فوق سحابة لا تعيش إلا في اللغة، إنما بمحاولات لا تتوقف عن ملامسة الغبار وعجن الكلمات بتراب الأرض، بعرق الإنسان، بأحلامه وهواجسه، بالموت متعدد الأوجه، المتجول عبر مدننا العربية كمواطن أصلي ونحن بينه غرباء. موسى حوامدة/ شاعر فلسطيني ومدير تحرير الدائرة الثقافية في جريدة الدستور الأردنية العالم لم يعد يعبأ بالشعراء وبقية أنواع الكتابة تسعى لاغتيال الشعر لم يعد هناك مكان للشعراء، ربما لا زال العالم يحتفظ بحنين رعوي للتاريخ الذي كان يحتفل بالشعراء، اليوم صار العالم موحشا واسعا تغذيه الصورة الحسية والمتع والغرائز فمن يعبأ بالشعراء، حتى أن بقية أنواع الكتابة تسعى لاغتيال الشعر، وانتصرت. لقد فعلوا ذلك في السرد وقد تحول إلى أدب العصر وبات الشعر ثقيلا على قُراء الرواية ومتابعي السينما والشاشة الصغيرة والعالم الافتراضي الذي سهل الغرور وأتاح لكل فرد أن يصنع من نفسه شاعرا. وليس مهما أن يكون المكتوب شعرا أو الكاتب شاعرا المهم أن تنثر الكلمات على شكل شعري وتأتي الإعجابات لتقول للجميع أنتم شعراء أنفسكم ولا حاجة لكم للشعر. تم دفن الشعر والقصيدة في شمس الوضوح، تم نصب الشاعر فوق أعمدة النسيان وغدا لن نكون بحاجة إلى الشعراء فهم عصاة على المسح، غرباء على واقع مليء بالعبقريات الوهمية والكُتب لا تحتمل نشر قصائد جديدة فقد اتخمت أروقة العالم بالكلمات وصار الروائيون شعراء والفنانون التشكيليون شعراء والقصاصون شعراء وكُتاب المقالات شعراء والنقاد شعراء وحتى شيوخ المساجد شعراء، وتم نفي الشعر في عيد وطني كئيب كما يقول الناقد محمد العباس وهو يوم الشعر. ولا عزاء للقصيدة لقد تم إهدار دمها وشرب الثمالى نخب موتها. عبد القادر رابحي/ شاعر جزائري الطبيعة لا تعبأ بالعلب ثمة إشكال يطرح دائما عندما يتعلق بالاحتفاء بإنسان ما، أو بشيء ما، أو بفكرة ما، ولعله يتمثل في هذه المفارقة التي تقطع الطريق على المحتفي وعلى المحتفى به معا كأن كل واحد منهما يريد أن يتسلّل من أسر الآخر ليسكن في فرط الفكرة التي تتوجه المناسبة على حساب ما يخفيانه من ألق خاص لا يردان أن يتسرب مفعوله إلى إطار المناسبة فينطلي العبق على ما تريد المناسبة أن ترسخه داخل الإطار تماما كما لوحة زيتية لا يريد لها الرائي حراكا غير الذي حدده الرسام واحتوته مساحة البياض. هل يمكن أن نجعل للشعر يوما يحتفي به المحتفون؟ وهل الشعر مجرد صورة مشيّئة لوجه الإنسانية المعاصر في قدمه والقديم في حداثته، والآيل في جلّ تفكيراته الفلسفية وتحبيراته المعرفية إلى اعتبار ذاته مجرد قطعة تذكارية جميلة لا يمكن أن تخرج عن مكانها المحدد لها فوق المدفأة الشتوية، أو على مقربة من عين الطفل الباحث عن الشوق في أعلى رفّ في مكتبة الأب البعيد، أو في مرآة الروح المؤثثة بملّيمترات الدقة المتوفرة لحظة الانتقال من عالم الإنسان إلى عالم الشيء الخالد؟ وإذا كان الشعر كذلك في معيار التصور الإنساني في صورته الحالية، والذي بلغه الحرص الكبير على تقنين مسافات الحلم، وترويض حالات الفوضى النائمة في اللغة النائمة هي الأخرى في القواميس، فهل يمكن أن يرضخ الشعر لهذا المعيار بدعوى توقير ما لم يعد موقّرا من طرف الإنسان نفسه.؟ أمر يبدو غريبا فعلا بالنظر إلى ما يمكن أن يلحق هذا الطائر الذي هو الشعر من أحكام مسبقة لا تستطيع حتى القصيدة أن تنصفه من أضرارها المتواصلة عبر ما يتيحه تصور كهذا من أحكام لا تنتهي إلا بترسيخ صورة الشعر الممعيرة في ذهن الإنسان الآيل منذ مدّة إلى ما يحفره التشيؤ من أبنية وهمية في ذهنه وفي أذهان العابرين أمثاله على القول كما تعبر الأبقار المنتبهة لثباتها أمام القطارات الجميلة التي ترعى في حقول الزمن الهارب من سعادة محجّمة وملقمة وفق ما تريده رمزية تخصيص يوم للإحتفاء بما لا يمكن أن يحتفى به في يوم، أو في شهر، أو في سنة، تماما كما الشجرة والأم والطبيعة الهاربة من أيدي منظريّ السعادات المعلبة، ومنتجي الفنون حسب الطلب، ومسوّقي أغلفة العلب المهيئة للاستهلاك. ربما كان الشعر مثل الطبيعة تماما لا تعبأ بمن يقطع منها مجموعة أشجار، أو يحرق غابة بأكملها، أو يحاول أو يعيد بناء الجنّة الخضراء التي تسكن رأسه الصغيرة، أو في برج بابل المائل باللغة وبالشوق وبالوطن الحزين. ذلك أن الشعر كما الطبيعة يعرفان جيدا كيف يعودان إلى غيّهما الأبدي لا لشيء إلا لرسم لوحة أخرى لم يرسماها من قبل. وهي اللوحة الأكثر دهشة دائما بالنظر إلى ما شاهده الإنسان وحاول أن يشيّئه، غيرةً وربما حقدا، من خلال وضع الوردة في الماء الجامد، ووضع الماء الجامد في جنّة بلاستيكيّة ليست أكبر من محبرة فارغة يتوق إلى جمالها الظاهر شعراء العصر المشيئون. عمار مرياش/شاعر جزائري مقيم في باريس حاولوا تهميش الشعر ومع ذلك ظل الشعر ديوان العرب مساء 20 مارس 2014، أي ليلة دخول الربيع وفي إطار إحياء الربيع الشعري وكذا بمناسبة صدور ديواني الشعري الجديد «لا يا أستاذ»، وكذا «إكتشاف العادي» باللغتين العربية والفرنسية، دعتني مكتبة جامعة السوربون لإحياء أمسية شعرية خاصة وكان الحضور رائعا ومهما على الرغم من أنني لم أقرأ باللغة الفرنسية بل قرأت فقط باللغة العربية ورغم أن الحضور لم يكن يتقن العربية كله إلا أن التجاوب كان ممتازا، تنبغي الإشارة إلى أنه في باريس توجد أمسيات شعرية يومية في أماكن متعددة، حتى في البارات والحدائق العمومية وأحيانا في محطات المترو، هذا يعنى أن الناس هم الذين يهتمون بالشعر يكتبون ويحفظون ويسمعون وينظمون له ما يسمى بأمسيات السلام وهو نوع من الشعر المديني يشبه كلمات أغنية الراب بدون موسيقى، وفي هذه الأمسيات يمكن أن تقرأ بأي لغة تريد والبرمجة فورية، أي تطلب الكلمة فقط فتبرمج فورا، والفرنسيون يحبون الشعر ويحترمون الشعراء إلى درجة العبادة، أما دور الثقافة الرسمية مثل معهد العالم العربي فنشاطاتها الثقافية فيها الكثير من الركاكة الناجمة عن المحسوبية والوصولية وكل ما يرتبط بالإيديولوجية والمال، الشعر هنا موجود في حياة الناس اليومية وهو مصدر ثقافتهم الأولى حتى ليخيل لي أحيانا أن أثر شاعر مثل رامبو أو بودلير ليطغى على أثر الكِتاب المقدس في ثقافتهم، على الرغم من أن أفلاطون أصر على طرد الشعراء من المدينة الفاضلة، لكن المدينة قبل أن تكون فاضلة تأبى إلا أن يلعب الشعراء دورا مركزيا في بناء أسسها الثقافية والجمالية، لقد حاولوا في التاريخ العربي تهميش الشعر ومع ذلك ظل الشعر ديوان العرب وحاولت الدول العربية بكل مؤسساتها تفريغ الشعر من محتواه عبر الجوائز والعكاظيات ولكن الناس لا تزال تحب بل وتتعلق أكثر بالشعر. سمير درويش/ شاعر مصري ورئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة العالم يحتاج الشعراء والشعر لحفظ توازن الكون هذا سؤال خاطئ في ظني، والسؤال الأصح هو: متى كان العالم يكترث بالشعر والشعراء؟ وإذا أردنا توسيع الفكرة فيجب أن يكون السؤال هكذا: متى كان العالم- غالبية الناس أقصد- يهتم بالفنون الراقية كالشعر والباليه والفن التشكيلي والموسيقى الكلاسيكية؟ الحقيقة أن الكلام عن علو شأن هذه الفنون والآداب في الماضي ليس سوى لغو، فلم يكن للشعر جمهور على مدى التاريخ، أقصد هنا الجمهور الواسع العريض الذي يضاهي جماهير كرة القدم مثلاً، أو حتى جمهور السينما التجارية. الجمهور في كل مكان وزمان يريد شيئًا جاهزًا مباشرًا يقدم له متعة وقتية، وهو ليس على استعداد-في كل الأوقات- أن يرهق ذهنه بفك شفرات قصيدة، أو الصبر على الغناء الأوبرالي الممطوط عالي النبرة، أو التأمل في ألوان لوحة تشكيلية وفك رموزها كي يصل إلى مبتغى الفنان. لذلك فشاعر رومانسي خفيف يكرر تيمة واحدة مثل فاروق جويدة، أكثر شهرة عند قراء العربية من المتنبي، فضلاً عن صلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر وحلمي سالم، ولذلك أيضًا فإن شاعرًا يكتب باللهجة العامية القريبة من لغة العامة، مثل عبد الرحمن الأبنودي، يستطيع أن يقرأ قصائده في الحفلات العامة واستادات كرة القدم، وقد فعل ذلك فعلاً. إذا أضفت إلى ما سبق أن لدينا في الوطن العربي أمية هجائية لاكتملت صورة الأزمة، فالمتخرجون من الجامعات، ومنها المتخصصة في تدريس اللغة العربية، ليسوا جهلاء بقواعدها فقط، وإنما يخطئون في الإملاء، أغلبهم لا يستطيع قراءة فقرة بشكل سليم، لذلك فإن تذوق الشعر-الذي هو تشكيل جمالي باللغة في أعلى تجلياتها- ضرب من الوهم، والأمر يزداد تعقيدًا مع التشكيل والموسيقى، حيث التعبير فيهما دون لغة مباشرة. مع ذلك فإن العالم يحتاج الشعراء والشعر لحفظ توازن الكون، في ظني المتواضع، فليس مهمًّا أن يصل الشاعر الجيد إلى الناس جميعًا، هو يحدث أثره في الدائرة -الصغرى- التي تهتم بالفنون والآداب الراقية، ويتولى أفراد هذه الدائرة نقل الأثر إلى دائرتهم الأوسع عن طريق التأثر والتقليد، فلا أظن -مثلاً- أن شاعرًا شعبيًّا مثل بيرم التونسي كان يمكن أن يكون بهذا الجمال لولا اطلاعه على المنجز الشعري العربي منذ ما قبل العصر الجاهلي إلى الرومانسيين وشعراء المهجر، وقل الأمر نفسه على فؤاد حداد وصلاح جاهين.. والتأثر الذي أعنيه لا يكون إيجابًا فقط، بل سلبًا أيضًا، فتكون النماذج الأصلية مادة للمعارضة، وللسخرية أحيانًا. نحن نقول دائمًا إن العالم توحش ولم يعد فيه مكان للشعر، وهذا قول متسرع يحتاج إلى مراجعة، فمعظم الشباب يحاولون التعبير عن دواخلهم بكلمات يحسبونها شعرًا، يهتمون بالسجع والقافية على بناء خالٍ من الموسيقى والنضج، بل إن الوسائط الإلكترونية الآن أوجدت كُتَّابًا طوروا فكرة الخاطرة لتصبح نصوصًا مكثفة تقوم على مفارقة كبيرة وصورة واحدة في عدة كلمات، بل إن بعضهم، وبعضهن، أصدروا كتبًا لهذا الشكل تم الاحتفاء بها نقديًّا باعتبارها أشكال متطورة من قصيدة النثر. لا يهم رأيي فيها، المهم أنها دليل على اتساع رقعة من يكتبون الشعر ومن يقرءونه خلافًا للشائع. إسماعيل يبرير/ شاعر جزائري العالم لا يمكنه أن يتخلّى عن الشعر سأتحدّث بوصفي (شاعر)، وهي الصفة التي نزعها عني الكثيرون ولكني كرّستها بيني وبين نفسي وأقربائي، وما أزال أواصل نزقي وحبي وشعري بكثير من المتعة والألم. العالم لا يمكنه أن يتخلّى عن الشعر، أتصور دائما أن ابتعادنا عن الشعر هو رفضنا لحقيقتنا الإنسانية وانسلاخنا منها، كأننا نريد أن نقول إن أشواقنا الحجرية تطفو، أتساءل إن كان يمكننا أن نفيق يوما فنبدأ الحياة وننسى أن العالم يمكنه أن يترتب ثانيا أمام قصيدة تدهشنا، وأن بيتا من الشعر قد يوقفنا زمنا. لماذا قد يروج البعض لموت القصيدة؟ لأنهم توقفوا عن الحب ربما، ولعل الأمر يتعلق بذوقهم الذي يتراجع جراء الهموم اليومية المادية، وربما لأنهم تحت صدمة وجودهم الذي يهتزّ، رغم ذلك إلا أنه ليس مبررا كافيا لانسحاق الرّوح. أنا أشعر بالارتباك في هذه اللحظة، أيمكنني أن أتحدّث عن سقف الفنون دون أن أرتبك، إن القصيدة جارحة لأنها تشبهنا، أو لأنها أجمل منا لا يهم، ولكنها علاج لأننا نتحول إلى بشعين في الكثير من الدقائق في يومنا المضني. هناك إشكال يتعلّق بأفق التلقي، لا يمكننا أن ننفي عن قصيدة كيفما كان شكلها شعريتها، لكن تلقيها مختلف ومتعدّد، وهذا أمر يحتاج إلى علاج، فالكثير من الفئات تريد ما يرضي أفقها وفي الوقت ذاته تواجه بعصبية ما يختلف معه، في الشعر هذه القضية تأخذ منحى أكبر -أتحدّث عن الشعرية العربية طبعا- وربما لو عملنا جميعا على إصلاح الأمر لكانت هناك نتيجة ولو نسبيا. أمر آخر أودّ أن أنبه إليه، وأعتقد الكثير من الشعراء والمهتمين بالشعر والشعرية اقتربوا منه قبلي، وهو ما يتعلق بالنظرة الجمعية للشاعر، فقد تكرّس تدريجيا أنه أقرب إلى المعتوه، إن المجتمع يتحدّث بلسان عاميّ عن الشاعر فيقول «مسكين قوال» أو يقول «يجيب القول المسكين»، وهو توصيف ينفي عنه الحكمة، ويدخله في عالم أقرب إلى الخرافة والجنون، هذا الذي يحرج الكثير من الشعراء الذين يتخذون مواقع (عقلية) لا يمكنهم معها ممارسة (جنونهم)، يمكنك دائما أن تحفل بشعرك إذا كنت تمتهن ما يمنحك الحرية كالصحافة مثلا، لكن لا يمكنك التباهي بهذا إذا كنت تشغل منصبا وزاريا أو إداريا رفيعا، إنك، وقتها، أقرب إلى المساحة الممتعة للرفاق، والمرشح الأول للتنكيت والاستهزاء، هذا يحصل في الحقيقية بسبب الفقر الإنساني للآخر الذي لا يحتفي بالشعر لأنه مشغول بالاحتفاء بالسيد أو بالحاكم أو السلطة أو بأية حالة أخرى تظهر له مدى صغره، لا أريد أن أغرق أكثر في فلسفة مكانة الشعر اليوم، لكن الذي يحزّ في النفس أن الشعر يأخذ ترتيبا متأخرا رغم أننا بشر.