ماذا عن إشكالية وثنائية «المثقف العربيّ والعولمة»؟ وهل من دور فعّال للمثقف العربي في عصر العولمة وفي ظل سياقات عولمية ضاغطة ومُربكة. وهل يمكن القول بتراجع المثقف العربي عن دوره الحقيقي والريادي والتنويري الفاعل في المجتمع؟ أيضا هل يمكن القول أنّ رياح العولمة قد أزاحته من ملعبه التقليدي وفوق هذا جعلته بشكل ما أسير إرباكاته وأسئلته وربّما سلبيته؟ استطلاع/نوّارة لحرش حول هذا الشأن «المثقف العربيّ والعولمة»، يتحدث في ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، بعض الكُتاب والنقاد من الجزائر ومن بلدان عربية مختلفة، ويتطرقون لهذه الإشكالية كلٌ من زاويته التحليلية الخاصة، وهي تحليلات تحمل وجهات نظر متنوعة ومتباينة، لكنّها تتقاطع في الكثير من النقاط. عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد وباحث أكاديمي العولمة سلبت المثقف التقليدي دوره إنّ واقع المثقفين العرب اليوم يبدو مُعقدا جدا إلى درجة لا يمكن معها تحديد الدور الّذي بإمكانهم أن يلعبوه بالنظر إلى واقع مُختلف تماما عن الواقع الّذي عايشه أقرانهم في القرن الماضي. ذلك أنّ القضايا الكُبرى التي تعرض لها الجيل الأوّل من المثقفين العرب، أي جيل النهضة العربية، كانت واضحة تماما مثل التحديات التي واجهوها بالنظر إلى إشكاليات الثورة والتحرّر وبناء الدولة والتحديث في ظرف تاريخي مطبوع بالاستعمار والكولونيالية. وقد كانت طموحات هذا الجيل كبيرة بقدر أحلامه في تحقيق نهضة تُعيد للأمة مجدها وتضعها على مسار التاريخ. وقد انعكس ذلك على مشاريعهم وعلى التوجهات التي حملتها هذه المشاريع التي ارتبطت بالظرف التاريخي. لقد كانت كلمة «المثقف» حينها مسموعة ورأيه مُحترما من طرف الجموع التي يحمل تطلعاتها ويدافع عنها وكثيرا ما أُخذ رأيه بعين الاعتبار من طرف الأنظمة السياسية التي كان ينتقدها بحدة في مرحلة بناء الدويلات الوطنية. لقد حقق هذا الجيل نسبة مُعينة من هذا الحلم داخل الخِطاب الفكري والفلسفي والإبداعي الّذي أنتجه طيلة قرن من الزمن. وقد كان فعلا مرآة عاكسة لواقع تاريخي واجتماعي مليء بالتناقضات وحريص على مواجهة الرهانات الكبرى التي حملها الواقع العالمي. كما كان صادقا في مواجهته للتصورات الغربية التي حملت معها مُستجدات الحداثة ولوازم تحقيقها في واقع اجتماعي مُتخلف كالتعليم والصحة والتنمية. ولقد كان المُثقف العربي واضحا كذلك في موقفه تجاه التصور الغربي من القضايا المركزية وخاصة قضية فلسطين على الرغم من اختلاف المقاربات الإيديولوجية التي طبعت قناعاته خلال قرن كامل من الأزمنة السياسية المُتقلبة. غير أنّ الجيل الحالي من المثقفين العرب بمختلف توجهاته ومشاربه الفكرية والعقائدية جيل مختلف في تصوره للقضايا الكبرى وللحلول التي يجب أن يجدها لها. وهو، زيادة على ذلك، يحمل عبء تركة الجيل الأوّل إضافة إلى عبء بلورة الإشكالات المُستقبلية في راهن مختلف تماما عما عايشه الجيل الأوّل. لقد فهم المُثقف الحالي أنّه لا يمكن أن يقوم بالدور نفسه الّذي قام به جيل القرن العشرين نظرا لتغير المعطى العملي الّذي لم يعد يتقبل أدوارا بهذا الشكل، وأنّه لم يعد ثمّة من إمكانية للتغيير كما حلم به في عصر سابق نظرا لما أصبح يراه أمام عينيه من انهيار كامل لمجمل الأفكار التي حملها الجيل الأوّل من فشل في مصدري التجاذبات وهما الأنظمة السياسية المنغلقة على نفسها والشعوب المتروكة لنفسها تعاني مصيرها الغامض. ولذلك، سارع المُثقف إلى التشبث بما يمكن أن يبقيه في الواجهة في ظل بروز أدوار جديدة لنماذج فاعلة جديدة أملتها روح العصر الطاغية بمفاهيمها المُهيمنة على الواقع والمُكتسحة لجل المفاهيم السابقة التي أسس عليها نظرته للدور الّذي يجب أن يلعبه. لقد اكتشف المُثقف العربي مُتأخرا ما يمكن أن تحدثه العولمة من هزات مُرتبطة بما تعيشه الإنسانية من ثورة رقمية غيرت مفاهيم إنتاج الأفكار والقوة والنفوذ والانتشار والهيمنة. كما اكتشف مدى قدرة الوسائل التكنولوجية، ومن ثمّة قدرة من يتحكم فيها، على التأثير في الرأي وصناعته والتشكيك في الوعي الجمعي بالقضايا المركزية الكبرى وتغيير مجرى الحِراك وتحديد وجهته والتحكم في مساراته من خلال تشكيل وعي مضاد قادر على إعادة الاعتبار في اليقينيات والمسلمات والقناعات نظرا لارتباطه المُباشر بالجموع التي أضحت تتدخل مباشرة في النقاش العام ولا تحتاج إلى وسيط ثقافي يشرح لها المقولات الكبرى ويوجهها إلى الوجهات التي يريد هو أن تتجه إليها أو يفتح لها آفاق قراءة واعية وهادئة للذات وللعالم. إنّه نفسه الدور الّذي سلبته العولمة من المثقف التقليدي نقديا كان أم غير نقدي. لقد أصبح المثقف العربي في عصر العولمة إمّا مثقفا رافضا لواقع مرير لا يستطيع مواجهته بما يحمل من لوازم وأطروحات أثبتت فشلها نظرا لكثرة مكوثه الإجباري أو الاختياري داخل أنساق التفكير الغربية من دون الاعتماد على ما تحمله الذات الجمعية من قدرات معطلة، وإمّا مثقفا منضويا لا يجد من سبيل آخر غير التعلق بالنخب المادية النافذة التي تكونت في العالم العربي خلال مرحلة بناء الدولة الوطنية وكانت أكثر ذكاءً من المثقف في استغلال فائض القيمة المادي والمعنوي المهدورين في المجتمعات العربية وتسخيرهما لتكوين كاريزما مؤثرة جديدة. لقد أدى هذا الدور بالمثقف العربي إلى أن يصبح بوقا لمشاريع الأوليغارشيات الوطنية التي أخذت زمام المبادرة في تقديم التصورات التي يجب أن تكون عليها المجتمعات العربية في عصر لم يعد فيه المثقف العربي يحمل شمعة، وكانت تكفيه كما في القرن الماضي، لينير بها الدروب المُظلمة للذات. اليامين بن تومي/ روائي وناقد وباحث أكاديمي المثقف كقوة تعديلية خارج التاريخ علينا بداية أن نفهم جملة من المسائل الضرورية لنفكر داخل فكرة العولمة ذاتها، أو على الأقل نفكر معها، والتي تقوم على تعويم «النموذج الأمريكي»، لأنّ سقف العالم اليوم في نسخته ما بعد الحداثية، أمريكي بامتياز، هذا المسار يفرض علينا أن نطرح سؤال الأمركة كما طرحه الفيسلوف «تشومسكي»، فالأمركة تقوم على تعويم البشاعة والاستهلاك وتفتيت المجتمعات الأصيلة، معنى ذلك أنّ الأمركة هي النسخة الثانية عن الحداثة الغربية التي نسميها «حداثة الآلة»، التي تُقدس القوة، تلك الحداثة البعدية التي طمست كلّ القيم الإنسانية لصالح الروبوتيك، معنى ذلك أنّ هناك طورا جديدا بدأ يزحف على الإنسانية من لحظة سقوط جدار برلين إلى الآن، لا شيء غير الاستهلاك وانحدار القيم الأصيلة، ما نقصده هنا زوال حضارة الإنسان، معناه زوال مفهوم النخبة، وبداية تعويم فكر الآلة، الإنسان من الإسمية إلى الآلية، هذا التعويم المُرعب للنموذج انتقل إلى دول الجنوب في شكل مُسفّ، حيث لم تتبنَّ هذه الدول فكرة المقاومة الثقافية لأنّها لا تملك من وجهة نظري ما تدافع به عن نفسها، لم تكن أكثر من عبء على هذه الحداثة البعدية، فصارت دولا ممسوخة مليئة بالخراب والعويل، لأنّها لم تحافظ على قيمها الأصيلة، بل لم تشتغل عليها في الميديا والتربية، بقيت تلك القيم قديمة ومتكلسة خزينة الأرشيف كما يقول ميشال فوكو. وبالتالي في دولنا العربية بدل أن نتبنى نموذجا معينا للنهضة، عملنا دوما على استنساخ النموذج الماضوي ليس في شكله النافع، بل في شكله المُسف الّذي يُعلي من شأن الغوغاء من الفِرق الكلامية المُتخاصمة، أي أنّ الشعبوية صارت أهمّ من يصنع الحدث في عالمنا العربي، وحتى استنساخ نموذج الحداثة، وقفنا دوما في جانب الحلقة الأضعف في الغرب ذاته، وهي الفرنسة التي تُمثل في وعينا تاريخا مُثقلا بالاستعمار. وبالتالي كلّ ما يأتينا من هذا النموذج يُواجه بنفس الحماس القديم في مواجهة الاستعمار، وكلّ من يعمل على تسويق هذا النموذج العولمي فهو خائن وعميل في الضمير الجمعي، لم نستطع على مستوى تربوي عميق أن نتجاوز فكرة الاستعمار ذاتها كما فعل الياباني أو الفيتنامي، ما يزال يعمل داخلنا مُخرِّبًا لقيم الحياة، لأنّنا نرفض نزعة الحياة كما يمثلها هذا الأخير. فسيادة النموذج الضعيف للحداثة المُفرنسة إن جاز التعبير، وبروز نماذج الفِرق الكلامية التراثية هو الّذي جعل الثقافة العربية مضطربة في وضعها الوجودي ككلّ، لم تحسم في خياراتها بعد، لأنّها متعدّدة النُخب والأطياف والأمزجة، غلبت عليها الشعبوية، وتعبئة المخيال المريض بالصور القديمة، هذا جعل المثقف كقوة تعديلية خارج التاريخ لأنّه لم يعد في إمكانه تعديل صراع الثيران الهائجة، إنّنا نحتاج إلى كتلة كبيرة من المثقفين، فنانين وعلماء، ومفكرين وفلاسفة وعلماء اجتماع نشترك جميعا حول هدف واحد، استعادة الدور المسروق من قِبل الثيران الهائجة. هذه الاستعادة تتطلب منا مواجهة كلّ هذا القبح الّذي ترسب منذ عقود طويلة في تاريخنا العام والخاص، فالمثقف هو حالة الجمال الوحيدة التي يمكنها أن تقف في وجه كلّ القبح السياسي والعمراني والثقافي والاقتصادي بل في وجه كلّ هذه الطبقات من القبح. ميلاد فايزة/ شاعر ومترجم تونسي المثقف العربيّ الّذي تحرّر من قيوده يستطيع أن ينتج ثقافة فاعلة تبدو لي العولمة أحيانا مثل قطار يسير بسرعة فتاكة لا يمكن الوقوف أمامه، فهي تتقدم دون شفقة مزيحة كلّ من يقف في طريقها، ولكنّها تمنح، في الآن ذاته، المجتمعات الضعيفة قدرة عجيبة على المقاومة وتثير لدى المتضرّرين من عنجهيّتها رغبة في الوقوف أمامها مثل جدار من أشجار النخيل الشامخة التي تقف في وجه الصحراء. المثقف العربي لا يقف وحيدا إذن أمام هذا الغول. فهو نزيل نفس السفينة التي يركبها مثقفون كثيرون من العوالم التي تعيش على هامش الثقافات الأنجلوفونية. المثقف العربي الطلائعي الّذي يملك فكرا نقديا ووعيا عقلانيا يستطيع أن يتحدى العولمة ويزرع شجرة في هذه الصحراء. قد يعاني من الجوع والعزلة وقد يموت غرقا في قارب يحاول الوصول إلى شواطئ أوروبا أو أستراليا ولكنّه قادر، إن نجا من الموت برصاصة أو في قاع المحيط، على كتابة بيانات لإدانة القمع والقتل ورفع القداسة عن تاريخه الدموي. العولمة جبل جليدي يهدّد حياة الملايين من الكائنات ولكنّها محفّزة أيضا على الحفر في ذواتنا لاكتشاف مخزوننا المعرفي الّذي ورثناه أو اكتسبناه ثمّ حملناه دون أن ندرك جمالياته وقدرته على التفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى. العولمة غول مخيف ولكن المثقف العربي الّذي تحرّر من قيوده وأصفاده وخلع عنه عباءة القداسة يستطيع أن ينتج ثقافة فاعلة ويساهم في تدمير الأصنام التي يحجّ إليها الملايين من أفراد شعبه. هكذا أنظر إلى مثقفين مثل محمد أركون وعبد الفتاح كليطو وليلى أحمد ومحمود درويش وإلياس خوري وهشام شرابي وفاطمة مرنيسي. لقد تحدّوا العولمة بأصالة نصوصهم ووعيهم الثاقب بضرورة التحرّر من كلّ القيود التي تعرقل التفكير وتشلّ الإبداع. أيمن اللبدي/ كاتب وناقد فلسطيني لم يتراجع فقط بل أصبح لا دور له وهو أقرب إلى جماعة الهامش العولمة التي اجتاحت العالم وضمنها المنطقة العربية في أواخر القرن الماضي هي تغيير على قانون السوق بالأساس وإحدى صور فوائضها هو موضوعة التواصل وسرعة الانتقال المعرفي، لكن الأساس يبقى هو قدرة قوانين السوق على التحكم في كلّ نتاج بشري وبضمنها منظومة الطبقات الفوقية الإنسانية، وكما كانت نواتج الرأسمالية والامبريالية في مرحلة ما طاغية على العالم ومهيمنة على نتاج الشعوب المعرفي بما يهدّد هذا الطغيان، كرّست العولمة ذات المسار بل وبطريقة فجة وإن كان مستوى الرفض لهذا العبث ولهذا الطغيان في بقاع العالم أقل حدة مما كان عليه الوضع في مرحلة سابقة لعوامل عدة فإنّ العولمة وقوانينها ومستوياتها دهست المنطقة العربية بلا رحمة وطبعا لغياب المناعة ولغياب المثال والقيمة في المعركة الحضارية عربيا. لا بل تعرضت هذه المنطقة العربية لاختبارات قياسية عبر تزييف جديد بأثواب جديدة استخدمت عدة تسميات لتمريره من نمط الربيع العربي والّذي طبعا أضاف فقدان توازن جديد للمثقف العربي والثقافة العربية. المثقف العربي لم يتراجع فقط بل أصبح لا دور له وهو أقرب إلى جماعة الهامش المريح والفسيح اليوم في المنطقة العربيّة وحتى إشعار آخر. خالد سليكي/ كاتب وناقد مغربي هناك تراجع إن لم نقل انعدام فعّالية للمثقف العربي قبل سنوات قليلة ماضية كان النقاش محتدا حول «العولمة» وانشطاراتها ومدى تأثيرها على القيم الإنسانية والأخلاقية والاقتصادية داخل مجتمعاتنا العربية. وكان العديد من المثقفين يقاربون القضية من زوايا «نقدية» متعدّدة يمكن اختصارها في الدعوة إلى الحذر منها باعتبارها «نمطا حضاريا» قد يهدّد مستقبل مجتمعاتنا. لأنّ أهم خصائص «العولمة» هي الهيمنة اللاحصرية لقيم المجتمع الرأسمالي واقتصادياته والقيم التي ابتعدت عن كلّ ما يمكنه أن يمس جوهر الإنسان من حيث «إنسانيته»، وهيمنة اقتصاد السوق، والتسليع المادي لكلّ مناحي الحياة الإنسانية. وذلك كلّه انتهى إلى التسطيح وهيمنة قيم «البلاهة» التي صيرت الكائن البشري غريبا عن ذاته. إنّه اغتراب من نوع جديد. وإلى حدود منتصف العقد الأوّل من هذا القرن كان المثقف العربي ما يزال يأمل في التغيير، والمقاومة، من خلال صيغ الكشف عن «الاحتيال» الماكر للتوحش الرأسمالي. لكن غاب على المثقف أنّ العولمة لم تكن نمطا اقتصاديا وحسب، وإنّما نمطا فكريا يشتغل ضمن نسق بالغ التعقيد، صُنِع بتقنيات معرفية مُتحَكّم فيها من قِبل صُنّاع التاريخ الراهن. بات التاريخ صناعة واعية يتحكم في العديد من إوالياته. ولهذا فإنّ صنف المثقف/الخبير صار هو الفاعل الأساسي في الراهن العالمي معتمدا في ذلك على نتائج العديد من العلوم الاجتماعية والنفسية والعلمية. مما جعل المثقف بالمفهوم الكلاسيكي مجرّد صورة نوسطالجية دورها أشبه بتحفة لتزيين المشهد العام. خصوصا أنّ الأفكار التي تنبع من المرجعيات الفلسفية العميقة والمنادية بتعميق الوعي بالذات الإنسانية والمضادة لكلّ قيم التسطيح تجد مقاومة شديدة وتهميشا من قِبل الخطابات المعرفية المهيمنة، وذلك من خلال تقنية الاحتواء أو الترويض أو الإقصاء. ذلك أنّ الاقتصادي هو محرك الدورة الاجتماعية والتاريخية، وهو المتحكم في مسارها وتوجهها، وهو المالك الفعلي للأدوات الكفيلة بجعل السياسي تابعا له ومنفذا لاستراتيجياته، ومن ثم فإنّ كلّ أنماط المثقفين، من الصحافي إلى الأكاديمي، مرورا بالمبدعين والفنانين، يتم إخضاعهم للنسق العام المُهيمن. وإذا ما برزت في الساحة بعض الأسماء فإنّها لن تكون إلاّ استثناءات باهتة من حيث ثقلها ودورها في الجماعة المُنتمي إليها. ولعلّ وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت تلعب دورا خطيرا في توجيه الرأي العام ولعب دور حاسم في نجاح أو فشل مشروع سياسي، تُقدم لنا معطيات غاية في الدلالة، أهمها عدد المشاهدات التي تحققها الخطابات التسطيحية التي تتناغم مع التوجه الاجتماعي العام، وتلك الخطابات ذات الطبيعة التنويرية (إذا ما أردنا التحدّث عن العالم العربي)، إذ إنّ الاحتكام إلى الأرقام قد يجعلنا أمام حقائق مثيرة وحاسمة تشكل جوابا صريحا عن مدى تراجع، إن لم نقل انعدام، فعّالية المثقف العربي في سياق العولمة. قال إدوارد سعيد في إحدى حواراته، إنّ الجامعة الأمريكية تشتغل بطريقة جدّ مُعقدة وإنّ ما أنتجه من كُتب وما صاغه وطوّره من أفكار لم يكن داخل أروقة الجامعة وإنّما خارجها ولا علاقة له بما كان يقوم بتدريسه للطلبة. هذا يعني أنّ المجتمعات المُهيمنة الصانعة ل»العولمة» لم تحقق ذلك من فراغ وإنّما من خلال تهيئة السياق الّذي يتداخل فيه الاقتصادي بالفكري والفلسفي، أي إنّ الواقع المتحَكِم هو واقع يخضع ل»فهم» وتأويل خاصين للعالم، وفقهما يتم وضع ما يُراد تحقيقه. هذا الفهم هو الّذي يظل مُنفلتا عن وعينا العربي، والذين ينتقدونه ويفضحونه هم المثقفون المستقلون، ولكنّهم قِلة هامشية، أي يتم إبعادها عن مركز صناعة التوجهات الاجتماعية العامة. يعني هذا أنّ المثقف بالمعنى الكلاسيكي انتهى دوره في المجتمعات الرأسمالية وصيرته الآلة إلى مجرّد «رقم» ثانوي في المعادلة التي يشكل فيها الاقتصادي والخبير أهم العناصر. كثيرا ما ردّد المثقف العربي مصطلحات من قِبيل ما بعد الإستشراق، وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية، وما بعد الإسلاموية، والواقع أنّ هذه «البعدية» تترجم وعينا المتأخر بالخطاب المعرفي المهيمن، أي إنّنا لا نعي الراهن التاريخي وآليات التحكم في صناعته أو صناعة «الإمكانات» التي تؤدي إلى بعض النتائج الحتمية، ومن هنا لم يتمكن المثقف العربي، اللهم إذا استثنيا بعض الأسماء التي تُعد على رؤوس الأصابع، من أن يلعب دور الريادة والطلائعية داخل مجتمع لم يعد منغلقا ولا محكوما بقيمه بقدر ما صار مجتمعا منفلتا متحكما (بفتح الكاف) فيه، خصوصا أنّنا مجتمعات لم تنجح في التأسيس لمشروع مجتمعي، ولم تتمكن من التحرّر من الإشكالية التراثية، ولازالت الحداثة كنمط تُثير حفيظة شرائح واسعة من هذه المجتمعات. لقد دخلت المجتمعات المهيمنة مرحلة تاريخية جديدة من حيث نمط الحياة والوعي، فزادت الفجوة التاريخية بيننا وبين صناع التاريخ الراهن، وهذا ما جعل دور المثقف العربي يتراوح بين الخبير وصانع الأوهام، وفي الحالين معا، فهو مُهيمن عليه ومستهلك للنمط الحضاري المهيمن. ماذا بقي من دور المثقف في البلدان العربية؟ التصالح مع الواقع التاريخي والسياق الراهن. زين عبد الهادي/ روائي وناقد مصري ورئيس تحرير مجلة «عالم الكتاب» المصرية لم يستطع توفير إستراتيجية وسياسات ثقافية لم يكن المثقف العربيّ بعيدا عن قضية العولمة بل تناولها الكثيرون في كتاباتهم بما لها وما عليها وأُثيرت قضايا تتعلق بالسياق الحضاري وهل هو تلاحم أم صراع، وهل يمكن التعبير عن القضايا الإنسانية ككل وهل يمكن لعالم إنساني واحد أن يمثل العالم وهل تذوب الفوارق الثقافية والحضارية بين المجتمعات الإنسانية وهل تسعى الدول المتقدمة إلى تثبيت النموذج الغربي في الحياة، وبالتالي تعزيز النمط الاستهلاكي وهل يمكن أن تتلاشى اللّغة ولا تبقى سوى لغة واحدة في النهاية إلى جانب مئات القضايا التي لا يمكن حصرها نظرا لتناثرها بين ما هو ثقافي وحضاري واستهلاكي. لم يكن المثقف العربي كما أسلفت بعيدا عن ذلك وساعده على ذلك تاريخ طويل من التعامل مع الغرب بأشكاله المتعدّدة. ولكن تكمن المشكلة في أنّه لم يستطع توفير إستراتيجية وسياسات ثقافية يمكنها أن تشكل دفاعا عن الهوية وضمان عدم تذويبها، واستهلاك قدراتها وقيمها في صراعات لا طائل من ورائها. الحقيقة أيضا التي يجب أن نعترف بها أنّ العولمة كتيار حداثي أزاحت كثيرا من المفاهيم القديمة، وجعلت وجهات العالم تبدو كمحيط واحد. المشكلة أنّ هذا التيار شكلاني للغاية لأنّ كمية التيارات الصغيرة والمتصارعة والمتحالفة داخله أكبر مما تعد أو تحصى، لكن في النهاية على المثقف أن يكّون واعيا بذلك وأن يضرب على الجدران الناعمة في هدوء كيما يمكنه التعامل مع هذه الصراعات الكامنة تحت فقاعة العولمة.