نموذج للديمقراطية العربية الجديدة أم الفوضى غير الخلاقة؟ أسئلة ملحة تطرح الآن بعد نهاية نظام القذافي عن المشهد الذي يخبئه المستقبل لهذا البلد الغارق في حرب أهلية مدمرة منذ شهور، هل سيكون نموذجا للديمقراطية الجديدة في العالم العربي؟ أم سترتمي "الجماهيرية العظمى" في الفوضى غير الخلاقة التي لن يستطيع أحد التنبؤ بنتائجها؟. كلما توغل معارضو العقيد معمر القذافي في أعماق العاصمة طرابلس كلما ازداد حجم الخوف لدى الكثير من الجهات داخل ليبيا وخارجها، الخوف من المستقبل، كل الاحتمالات واردة .. هذه القاعدة العامة قد لا تكون صحيحة دائما، لأن بعض الاحتمالات تفرض نفسها بقوة بحكم المنطق والواقع والمعطيات. الوضع الليبي اليوم يبدو غامضا ومبهما وقد بات نظام العقيد معمر القذافي من التاريخ، ومن الصعب رسم صورة لصباح الليبيين الجديد بمكوناته قديمة. فالمعارضة الليبية التقت قبل أشهر على هدف واحد هو إسقاط نظام معمر القذافي وأبنائه، لكنها لم تتفق على أي شيء ما عدا ذلك، واليوم وقد بدأت الأمور الجادة فانه لا احد يستطيع التنبؤ بمستقبل ليبيا ما بعد القذافي. مستقبل ليبيا ما بعد العقيد تتحكم فيه عدة عوامل داخلية وخارجية ومن الصعب على أي طرف فرض رؤيته لشكل الدولة والنظام السياسي الذي سيحكم الليبيين في المستقبل، وإذا كانت عدة عواصم غربية وعربية قد بدأت في تقديم التهاني للمعارضة التي أطاحت بنظام العقيد والدعوة لعقد اجتماع الأسبوع المقبل في باريس للنظر في المستقبل كما صرح جوبي، فإن رمال ليبيا المتحركة ربما تخفي أشياء غير مفرحة للبعض. تقول تقارير وتحاليل من ليبيا أن المعارضة التي حاربت بالسلاح القذافي طيلة ستة أشهر تتكون من فصائل وتيارات سياسية وفكرية و مصلحية متعددة لم تكشف بعد عن هويتها الحقيقية، التقت في البداية على هدف واحد هو إسقاط العقيد، لكنها اليوم وصلت إلى مرحلة التكشير عن الأنياب لأخذ غنائم الحرب، وهو ما قد يضيع ما تحقق سلفا. ثمة عوامل ومتغيرات عدة تتدخل بقوة في رسم المشهد الليبي مستقبلا، أولها سوسيولوجية الشعب الليبي المعقدة جدا، فالعقلية القبلية هي التي تتحكم في كل شيء، والقبيلة هي المؤسسة الوحيدة التي تشتغل بصورة عادية في ليبيا، لذلك فإن إقامة نظام سياسي ديمقراطي بالصورة المثالية التي تريدها واشنطن أو باريس لن يكون بالأمر السهل. القبائل الليبية التي حاربت القذافي أو التي لم تحاربه سوف تكون لها كلمتها في نهاية الأمر وإلا فإن الاستقرار لن يكون، وهذه القبائل الممتدة داخل العمق الليبي ممتدة أيضا خارجه أي في بعض جول الجوار سواء امتداد ديمغرافي أو مصلحي وسياسي، ودول الجوار هذه ستكون لها كلمتها هي أيضا في رسم طبيعة النظام السياسي الليبي القادم، وذلك شيء طبيعي ومنطقي، لأنه لا توجد أي دولة في العالم لا تتدخل في أمور تحدث على حدودها.إذن إذا جمعنا كل العوامل سالفة الذكر، أي التركيبة القبلية للسكان وتأثيرات دول الجوار وعلاقات كل جهة بالدول الكبرى، يضاف لها السلاح الموزع في كل مكان وبكثرة فإن النتيجة أن الوضع الليبي يتجه نحو "الفوضى غير الخلاقة" التي قد تمس حتى بعض دول الجوار وغيرها، ما سيؤدي في النهاية إلى فصل من الصراع المسلح الدموي بين الفصائل على شكل ما يحدث في الصومال، وقد لا ينفع التدخل الأجنبي في هذه الحال، لأن الناتو لن يكون بمقدوره التدخل جويا كما حدث طيلة الأشهر الماضية لتغليب طرف على آخر، وهذا هو السيناريو الأول لمستقبل ليبيا بعد معمر. أما السيناريو الآخر فهو التوصل لاتفاق بين الفصائل المعارضة التي لم تعلن بعد عن هويتها الحقيقية بضغط من الدول الكبرى من اجل إقامة نموذج "حكم ديمقراطي" إلى حد ما يكون مثلا للدول العربية الأخرى، تحاول من خلاله الدول الغربية التي تدخلت مباشرة في الأزمة الليبية إظهار أنها لم تكن مخطئة لما ساندت المعارضة وأيدتها عسكريا وسياسيا، وبالتالي إظهار أن النتائج كانت حميدة.. وهي ديمقراطية لا مثيل لها في الوطن العربي، فضلا عن أن الأهمية النفطية لليبيا تدفع الدول الكبرى إلى الضغط من اجل ضمان الاستقرار فيها. لكن يبدو السيناريو الثاني بعيد المنال نوعا ما بالنظر لطبيعة الشعوب العربية وتركيبتها القبلية خاصة الشعب الليبي، فضلا عن الإرادات الأخرى التي قد تتدخل في أي وقت.